انطلق العدوان الثالث للاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة في السادس من يوليو 2014، وذلك بعد فترة طويلة جدًا من الحصار الخانق على هذا القطاع الساحلي الصغير، حيث شمل هذا الحصار كل مقومات الحياة الأساسية من نقص الوقود والحليب والدواء والكهرباء، بالإضافة إلى إغلاق المعابر وحرمان أكثر من مليون ونصف إنسان من حرية الحركة والسفر.
لقد تخلل فترة هذا الحصار عدوانيين اثنين على قطاع غزة، ففي نهاية العام 2008 وبداية العام 2009 شن الاحتلال الإسرائيلي عدوانًا كبيرًا على قطاع غزة أدى إلى ارتقاء 1417 من الضحايا وإصابة ما لا يقل عن 4336 مواطنًا فلسطينيًا.
وقد استمر الحصار بعد هذا العدوان، وبقيت الكثير من آثار هذا العدوان شاهدة على همجيته، إلى أن تلاه عدوانًا آخر في شهر نوفمبر من العام 2012، ارتقى فيه 155 من الضحايا المدنيين، وإصابة ما لا يقل عن 1222 مواطنًا وتدمير العديد من المؤسسات المدنية والحكومية.
وكسابقه، انتهى عدوان 2012 وعاد الناس في قطاع غزة إلى حياة الحصار والمنع من السفر والحرمان من أبسط مقومات الحياة الأساسية، حتى تعرض السكان إلى العدوان الثالث في منتصف العام 2014 والذي كان الأطول حيث استمر 51 يومًا وتوقف بعد إعلان وقفًا لإطلاق النار في السادس والعشرين من شهر أغسطس موقعًا 2137 من الضحايا و11100 من الإصابات وتدمير 10620 من المنازل والمساجد.
ومع كل عدوان إسرائيلي على قطاع غزة، تبدأ نظرات المواطنين الفلسطينيين في ترقب التحركات العربية الشعبية لنصرة القضية الفلسطينية ووقف العدوان الإسرائيلي وتحقيق المطالب الفلسطينية، وذلك لقناعة الفلسطينيين أن الدور العربي الشعبي يجب أن يكون في مقدمة الأدوار وأن يأخذ المواطن العربي دوره لمساندة الفلسطيني من منطلق أن القضية الفلسطينية لها عمقها العربي والإسلامي.
إن المتابع للتحرك العربي الشعبي يلحظ تباينًا واضحًا بين كل عدوان، وتغير ملحوظ في ردة الفعل العربي تجاه عدوان 2014 عنه عن عدواني 2012 و 2008، هذا التغير الملحوظ الذي من شأنه أن يطرح سؤالاً لماذا لم نسمع عن تحرك عربي شعبي سريع لوقف هذا العدوان؟ ولماذا لم نسمع عن المظاهرات الحاشدة في ميادين وعواصم الدول العربية كما سمعنا عن ذلك في العدوانيين السابقين، وكما سمعنا عن ذلك في ميادين وعواصم الدول الغربية؟ كثير من الأسئلة يمكن أن نطرحها، لكن تبقى إجابتها مرهونة بماذا تغير خلال هذا العدوان عن سابقه؟؟
التضامن الشعبي:
مع كل عدوان يتعرض له قطاع غزة، من البديهي أن نسمع عن تنظيم المظاهرات الحاشدة في العواصم العربية والميادين الكبيرة معلنة رفضها لهذا العدوان وللمطالبة بوقفه فورًا وتوفير الحماية اللازمة للشعب الفلسطيني، وهذا ما كان موجودًا في عدوان العام 2008، ففي الأردن مثلاً قامت عدة أحزاب وتجمعات نقابية وطلابية بتنظيم عدد من المظاهرات أمام السفارة الإسرائيلية وأمام رئاسة مجلس الوزراء ومجمع النقابات، وقد تم نصب الخيام بالقرب من السفارة الإسرائيلية احتجاجًا على وجود السفير، وقد تكررت هذه المظاهرات في كل من مصر ولبنان وسوريا والعراق، وفي الكويت تجمع عدد من الشخصيات والمتظاهرين في ساحة الإرادة في مظاهرة حاشدة هي الأولى من نوعها من حيث حجمها والمطالب التي تم ذكرها، وقد كان ذلك أيضًا في البحرين، والمغرب واليمن وليبيا التي طالب المتظاهرون فيها بسحب المبادرة العربية ردًا على هذا العدوان.
هذا التضامن الشعبي في العام 2008 كان يوضح وبشكل جليّ عودة القضية الفلسطينية إلى أذهان الشارع العربي، بل واعتبر بعض الكتاب أن القضية الفلسطينية بعد هذا العدوان كانت أيقونة ثورات الدول العربية، وهذا ما كان واضحًا في رفع علم فلسطين وحماسة الهتاف للقضية الفلسطينية في مظاهرات هذه الثورات.
وعند انتهاء عدوان العام 2008 على غزة، بقيت القضية الفلسطينية وضرورة رفع الحصار عن غزة من أهم أولويات الشعوب العربية، فقد تم تسيير القوافل الإغاثية والإنسانية إلى قطاع غزة، وزيارة بعض الوفود المتضامنة لهذا القطاع الذي بقي محاصرًا حتى وقت انتهاء العدوان.
ومع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، شهد التضامن الشعبي مع القضية الفلسطينية نقلة نوعية مفادها التعريف بهذه القضية على أوسع نطاق وبأكثر من لغة، بالإضافة إلى استخدام هذه الوسائل للحشد والمناصرة، ولكن من الواضح أن انتشار هذه المواقع أدى إلى انخفاض مستوى الحراك العربي على الأرض، فلم نشهد مثلاً في عدوان العام 2012 على قطاع غزة سوى القليل جدًا من المظاهرات الشعبية، فكان هناك مظاهرة في تونس، وأخرى في المغرب ومصر والأردن، ولكن ليست بذات الزخم الذي كانت عليه في العام 2008.
وفي عدوان 2012، شهد قطاع غزة وصول ما لا يقل عن 350 ناشط مصري إلى القطاع في ظل أيام العدوان، وباتوا ليلتهم تلك على أرض غزة، في نقلة نوعية في وعي الشارع العربي تجاه القضية الفلسطينية، ولعل ذلك كان من أبرز مظاهر التضامن الشعبي العربي خلال هذا العدوان.
انتهى العدوان، وعاد قطاع غزة إلى حالة الحصار والموت البطيء، فعادت الوفود الزائرة إلى قطاع غزة للتضامن معه، وإرسال قوافل الإغاثة والمعونات الإنسانية، لكن في ذلك الوقت ظهر على السطح نبرة جديدة في التعامل مع القضية الفلسطينية وقطاع غزة تحديدًا وهي نبرة التهديد والوعيد من بعض الأفواه الإعلامية وبعض السياسين والكتاب؛ الأمر الذي أدّى إلى ضعف التضامن العربي الشعبي بشكل ملحوظ وكبير في عدوان العام 2014، إلا قليلاً من المظاهرات العادية في الأردن مثلاً وتونس بعد صلاة الجمعة، وفي اليمن، وبعض الهتافات في مدرجات الملاعب في المغرب، وبعض التعاطف الإلكتروني على صفحات الإنترنت.
ما حدث في عدوان العام 2014 مثير للتساؤل عن أسباب هذا الضعف أو لنقل عن أسباب هذا “الموت” في التعاطف مع قطاع غزة مقارنةً مثلاً مع التضامن الغربي مع القطاع في هذا العدوان، ولعلنا نجد أن هناك بعض الأسباب التي ساعدت على ذلك منها:
- أزمات العرب الداخلية لكل بلد على حدة الأمر الذي ساعد على فتور همة المواطن العربي لنصرة القضية الفلسطينية.
- ضعف النشطاء العرب نتيجة الصدمات التي تلقوها في الأعوام الماضية من تشتت للجهود وضياع الرؤية الموحدة تجاه القضايا الأساسية التي تحتاج إلى النشاط والعمل.
- وجود أفواه إعلامية وسياسية وكتّاب عرب ساهموا بشكل كبير في شحن المواطن العربي ضد قطاع غزة.
- اقتصار التضامن الشعبي لدى النشطاء والشباب العرب على التعاطف مع قطاع غزة من خلال مواقع التواصل الاجتماعي.
ولعل من أشكال التضامن العربي الذي لفت الأنظار خلال هذا العدوان هو ما قامت به القنوات الإعلامية اللبنانية مختلفة التوجهات والأفكار من توحيد بثها والخروج ببث مشترك بين جميع هذه القنوات تعاطفًا مع قطاع غزة ورفضًا للعدوان، الأمر الذي لم تفعله أي دولة عربية أخرى تمتلك الكثير من القنوات الحكومية والخاصة.
مهما كانت الأسباب، إلا أن هذا الضعف في التضامن مع القضية الفلسطينية على نطاق التضامن الشعبي لا يمكن تبريره ولا يمكن السكوت عنه ويحتاج بالتأكيد إلى وقفة جادة لإعادة روح التضامن الشعبي الحقيقي لدى الشباب العربي والنخب، وإذا كان الحديث هنا يقتصر على التضامن الشعبي فإن الحديث عن التحرك الرسمي العربي يحتاج الكثير من التفنيد فهو لا يقل ضعفًا عن التضامن الشعبي، وقد يكون لنا وقفة مع ذلك.