ترجمة وتحرير نون بوست
لطالما اعتُبرت إندونيسيا أكبر دولة ذات أغلبية مسلمة في العالم تتسم بقيم التسامح. ولكن بفضل أموال السعودية ونفوذها، اتخذت إندونيسيا منعرج شديدا لتصبح أكثر تحفظا.
يتدفق نصف مليون شخص، جميعهم يرتدون ملابس بيضاء، من مفترق فندق إندونيسيا وسط جاكرتا. احتشد المتظاهرون في الشوارع وساروا لكيلومترات قاصدين النصب التذكاري القومي والقصر الرئاسي. كان ذلك في الرابع من تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، وقد قدموا على متن الحافلات والطائرات وسيرا على الأقدام من جميع أنحاء جزيرة جاوة وبعض الجزر الأخرى، للمشاركة في أكبر مظاهرة إسلامية في تاريخ إندونيسيا.
قال رجل الدين رزق شهاب، بينما كان يصغي إليه الجميع بإذعان تام: “جئنا إلى القصر لفرض القانون، يجب أن يعاقب مدنسو القرآن، يجب أن نرفض القادة الكفار”، مشيرا إلى باسوكي تجاهاجا بورناما، الحاكم الصيني المسيحي للعاصمة الإندونيسية، المعروف باسم “أهوك”. “إذا لم تسمع مطالبنا، فهل أنت مستعد لتحويل ذلك إلى ثورة؟” “نحن جاهزون!” صرخ الحشد، وصفّق تصفيقا حارّا وهتف “الله أكبر!”. وانطلقت صرخات من قبيل “اقتل أهوك!”.
في الحقيقة، كان هذا المشهد غريبا في إندونيسيا، التي تعد أكبر دولة ذات أغلبية مسلمة في العالم ولكنها في الواقع لا تعتبر “أمة مسلمة”. رسميا، هي دولة متعددة الديانات تحمي ست ديانات بالتساوي، وتستنكر الخطاب السياسي القائم على التمييز بين العرقية أو الإثنية. لكن مثل هذا الاحتجاج السياسي الإسلامي العلني لم يسبق له مثيل.
من الناحية النظرية، نُظمت مسيرة الجبهة الدفاعية الإسلامية بقيادة شهاب لاتهام أهوك بالإساءة للإسلام والمطالبة بعزله من منصبه. ولكن من الناحية العملية، لم يكن الأمر يتعلق بأهوك في حد ذاته، بل هي وسيلة لإظهار التقوى والسلطة السياسية للمسلمين الإندونيسيين، وقد نجح ذلك بالفعل. أغلقت المدينة جميع منافذها الرئيسية في ذلك اليوم. وفي المظاهرة الثانية، في الثاني من كانون الأول/ ديسمبر، حضر رئيس إندونيسيا نفسه، دون سابق إعلان، وأدّى الصلاة بصحبتهم.
حققت حملة الجبهة الدفاعية الإسلامية نجاحا باهرا أكثر مما كان متوقعا. في شهر نيسان/ أبريل التالي، خسر أهوك محاولته لإعادة انتخابه حاكما لجاكرتا. بعد شهر، وفي نهاية المحاكمة الشكلية، حُكم عليه بالسجن لمدة عامين بتهمة الإساءة للإسلام. أصبحت مظاهرة الرابع من تشرين الثاني/ نوفمبر تمثل نقطة تحول للإسلام السياسي في إندونيسيا. أُجريت الانتخابات الرئاسية التالية بالشروط التي حددتها أحداث سنة 2016 إلى حد كبير، حيث لعب كلا المرشحين أوراق اعتمادهما الإسلامية. واليوم، أصبح الرجل الذي كان ذات يوم زعيم رجال الدين المسلمين في البلاد، نائبا لرئيس إندونيسيا.
لكن شهاب لم يستمتع بثمار عمله في إندونيسيا، وبدلا من ذلك أصبح يقطن في المملكة العربية السعودية. فبعد انتخابات جاكرتا، ارتكب فضيحة جنسية وفرّ إلى مكّة فور صدور أمر بإلقاء القبض عليه. وعلى الرغم من أنها تبعد حوالي 5000 كيلومتر على إندونيسيا، إلا أن المملكة تعد خيارا طبيعيا للجوء شهاب، لأن علاقاته مع السعودية تعود إلى ثلاثة عقود. لقد تخرج شهاب من معهد العلوم الإسلامية والعربية في إندونيسيا، وهي جامعة في جاكرتا شيّدتها المملكة العربية السعودية وبقيت تمولها وتدعمها بالكامل إلى يومنا هذا. لقد مهدت له دراسته في معهد العلوم الإسلامية والعربية في إندونيسيا الطريق لمواصلة تعليمه في الرياض، أين أقام علاقات متينة مع رجال الدين السعوديين.
بصفتها أكبر دولة ذات أغلبية مسلمة ومن بين الدول النامية ما بعد الاستعمار، كانت إندونيسيا من المستقطبين الرئيسيين للحركة التبشيرية السعودية أو ما يسمى بالدعوة، أي الدعوة إلى الإسلام. وبينما بلغت الاستثمارات ذروتها بالقيمة المطلقة قبل عقد على الأقل، كما فعلت في معظم العالم الإسلامي، فإن أصداءها بقيت تتردد. وقد أدى الاستثمار السعودي في إندونيسيا بدوره إلى تغذية الجهاديين وساعد في تعزيز مكانة الحزب السياسي الإسلامي الرائد في البلاد وأنتج العشرات من العقائديين المؤثرين.
إن جهاز القوة الناعمة السعودي في إندونيسيا لا يضاهى، بما في معهد العلوم الإسلامية والعربية في إندونيسيا الذي يعد سفارة عظمى وبمثابة “ملحق ديني” قوي وقائم الذات. كما دفعت الجمعيات الخيرية السعودية لآلاف الطلاب الفقراء للذهاب إلى المدرسة والجامعة، وساعدت في إعادة بناء الأقاليم المدمرة مثل آتشيه جراء حادثة تسونامي في سنة 2004.
إن تأثير تنظيم ورؤية شهاب هو مجرد مثال واحد يعكس كيفية تشكيل الدعوة السعودية إندونيسيا الحديثة. كما أن تفجيرات بالي سنة 2002، التي قتلت 202 شخص معظمهم من السياح، والتي تعد من أكثر الهجمات الإرهابية فتكا في العالم بعد 11 أيلول/ سبتمبر، جعلت إندونيسيا تدرك خطر الإرهاب الكائن داخل حدودها. وقد خطط للهجمات حلقة من الجهاديين المنتسبين إلى تنظيم القاعدة والمقيمين في مدرسة المكمن الإسلامية الداخلية في جاوة الوسطى، التي تأسست بهبة من الملك السعودي في سنة 1972.
بعيدا عن هذه الاستثمارات الرئيسية، كان ظهور التعصب الديني المتشدد الإرث السائد الذي خلّفته الحركة التبشيرية السعودية في إندونيسيا. وإلى جانب المضايقات الشائعة للجماعات المسيحية والمحاكمة الشكلية لأهوك – أبرز السياسيين المسيحيين – أصبحت إندونيسيا الآن دولة تضم اتحادا “مناهض للشيعة” كذلك، ووقع طرد الجماعات الإسلامية الأحمدية من منازلهم من قبل الجماعات الغوغائية ليصبحوا بعد ذلك لاجئين في المخيمات.
عندما عاد باراك أوباما – الذي قضى خمس سنوات من طفولته في جاكرتا – إلى إندونيسيا في سنة 2011، وعلّق على “الفكر الأصولي الذي لا يرحم” للإسلام الذي يلاحظه الآن في الأرخبيل وعزا ذلك إلى النفوذ السعودي، كان ذلك لسبب وجيه. ما كان أوباما يتعامل معه هو مفهوم “أرابيساسي” (التعريب)؛ الذي يعد طموحا من الناحية النظرية ولكنه أكثر تأثيرا على أرض الواقع.
كان مصطلح “أرابيساسي” من بين أول المصطلحات الإندونيسية التي تعلمتها بعد أن انتقلت إلى البلاد في سنة 2016. وهي عبارة عن مفهوم حديث، كما يمكنك تكهن معنى “التعريب”. ولكن وُظّف هذا المفهوم في إشارة إلى فئة كاملة من التطورات التي شهدتها إندونيسيا: صعود الإسلام السياسي ومحاكمات المسيئين للإسلام وتزايدت شعبية ارتداء الحجاب والبرقع، وبناء المساجد الجديدة والمساجد المرتفعة والمدارس الجديدة واضطهاد الأقليات الدينية.
الأهم من ذلك، يشير هذا المصطلح إلى الدور الأساسي الجديد نسبيا الذي يلعبه الإسلام في الحياة الثقافية والسياسية للديمقراطية العظيمة التي كانت إلى غاية سنة 1998 ديكتاتورية عسكرية تخضع لسيطرة مُحكمة. كان الادعاء الأساسي أن خمسة عقود من النفوذ الديني للمملكة العربية السعودية في إندونيسيا كانت مسؤولة عن كل هذه الأمور.
بغض النظر عن مدى صحة أو زيف هذا الأمر، فإن العبارة نفسها تشير إلى قلق عام حول “المال السعودي” في إندونيسيا والعالم. وبدا أن ذلك يفسر كيف أن الأرخبيل الاستوائي الذي يفترض أنه مشهور بتسامحه قد وقع في حرب ثقافية شملت العديد من الأشياء بدءًا من درجة قبول قبعات سانتا وصولا إلى المواعدة، ليصبح ملاذا آمنا للإسلاميين المتشددين وموطنا لبضع مئات من الناس الذين انضموا إلى تنظيم الدولة.
كانت مسألة تصدير المملكة العربية السعودية للوهابية على الصعيد العالمي – وهي حركة متعصبة وغير متسامحة تأسست في القرن الثامن عشر وتقدم قراءة حرفية للقرآن وتسعى إلى القضاء على التقاليد الإقليمية “المنحرفة”- موضع نقاش بشكل متكرر في عالم ما بعد 11 أيلول/ سبتمبر، حيث يعتبر التيار الديني المحافظ مرادفا للتطرف والإرهاب.
في المقابل، لم تُفهم الآثار الفعلية للحركة التبشيرية السعودية بالشكل المناسب. فالحكومة السعودية ليست هي التي تنشر الوهابية فحسب، بل الجهات الفاعلة في السعودية على غرار الجامعات ووزارة الشؤون الإسلامية والعديد من المؤسسات الخيرية العالمية المجاورة للدولة مثل رابطة العالم الإسلامي، وجهود الإغاثة الإقليمية المنفردة ورجال الأعمال المستقلين على حد سواء.
تعني الدعوة حرفيا الاتصال أو الدعوة، ولكنها في الممارسة العملية تغطي مجموعة واسعة من أنشطة التبشير المتاحة لأي شخص مسلم أو مؤسسة مسلمة. اليوم، هناك دعوة سعودية رسمية في عشرين دولة، ونشاط غير رسمي في العديد من البلدان الأخرى، وآثاره ليست مباشرة. فعلى سبيل المثال، ينتهي الأمر بالدعوة السعودية عادة إلى الترويج ليس فقط للوهابية السعودية، بل للسلفية، وهي حركة رجعية مترابطة ولكن متفرقة في القرن العشرين، نشأت في مصر، وتسعى إلى العودة إلى تقاليد الإسلام القديمة.
تميل الحركة التبشيرية السعودية إلى زراعة فئة سلفية من العلماء والأيديولوجيين المتعلمين الذين يواصلون تشكيل معالمهم الدينية المحلية. ومن النتائج المشتركة الأخرى هي التعصب العنيف للمسلمين الشيعة والصوفيين، فضلا عن طوائف الأقليات مثل الأحمدية والديانات الأخرى مثل المسيحية. كان التأثير الأكثر شهرة هو انتشار السلفية الجهادية، التي وجدت قاعدة في بعض المجتمعات المدعومة من قبل الدعوة السعودية.
لطالما سعى مشروع الدعوة السعودي إلى تشكيل العالم الإسلامي والمسلمين في العالم بشكل منهجي. لا نظير له في طموحه وفي تحقيق انتشاره العالمي. كما أنها فوضوية ومليئة بالتناقضات، حيث تدعم الجهود السعودية وتعمل على مواجهة الإسلاميين السياسيين المنتمين إلى جماعة الإخوان المسلمين، وتمول المؤسسات الخيرية المشبوهة ومراكز مكافحة التطرف التي تعمل على بعد أميال من بعضها البعض في الوقت نفسه.
لم تتسبب المملكة العربية السعودية بمفردها في التحول المحافظ في إندونيسيا، بل لم تتسبب فيه من أي ناحية. لكن وفقا لما تعلمته في ثلاث سنوات، ساهمت السعودية بالفعل في ذلك بكل أنواع الطرق. عندما سافرت عبر جزء كبير من الأرخبيل الإندونيسي، من آتشيه إلى سولاوزي، فوجئت بحجم الحملة السعودية ودقتها في تواصلها المستهدف مع القادة الإقليميين. ما أدهشني أيضًا هو الرؤية السعودية المميزة للجمع بين المساعدة والأنشطة الدعوية. لطالما كان الاختلاف بين الاثنين غير واضح.
جاء الإسلام إلى الأرخبيل الإندونيسي في حوالي القرن الثالث عشر، على الأرجح من خلال التجار العرب، وتحول الحكام الأقوياء لجاوة وسومطرة تدريجيًا من الهندوسية أو البوذية واعتنقوا الإسلام. تنتمي جزر ما يُعرف حاليًا بإندونيسيا إلى عالم أرخبيلي إسلامي أكبر يعود إلى العصور الوسطى الذي شمل أجزاء من تايلاند الحديثة وماليزيا وسنغافورة والفلبين وكمبوديا.
لا تزال إندونيسيا موطنًا لأكبر معبد بوذي في العالم – بوروبودور، في جاوة الوسطى – والعديد من المعابد الهندوسية والملايين من المسيحيين الذين اعتنقوا الديانة تحت الحكم الاستعماري، فضلا عن التقاليد الغامضة والروحانية. في الواقع، أثرت العديد من هذه العناصر على الإسلام في إندونيسيا الذي لا يعد منفتحا تمامًا، ولكنه لا يزال متسامحًا مع العديد من الممارسات الشعبية.
بعد أن أصبحت إندونيسيا مستقلة في سنة 1945، واجه “الإسلام الإندونيسي” اختبارًا عالي المخاطر: هل ستكون الدولة الجديدة إسلامية؟ هل ستفرض الشريعة؟ في النهاية، قرر الآباء المؤسسون عكس ذلك. ولكن ظهر من مناقشات ما بعد الاستعمار الحامية رجل يدعى محمد ناصر، والذي استمر في ترسيخ النفوذ السعودي بمفرده تقريبًا في الأرخبيل. كان ناصر باحثًا إسلاميًا تقيًا من سومطرة وأصبح أول رئيس وزراء لإندونيسيا المستقلة.
في سنة 1958، انضم ناصر إلى تمرد فاشل ضد الرئيس المؤسس سوكارنو وأُرسل إلى المنفى في غابة سومطرة لمدة ثلاث سنوات. عندما خرج منه، سُجن على الفور. وعندما سُمح له أخيرًا بالعودة إلى المجتمع المدني في سنة 1966، تجاهلته وتجنبته دكتاتورية سوهارتو العسكرية الجديدة، التي تولت السلطة حينها من خلال انقلاب عنيف مدعوم من وكالة المخابرات المركزية .
لكن ناصر لم ينسحب من الحياة العامة، بل شعر بالأسى من الطريقة التي حُرم بها المسلمون من صوت سياسي في دولة جديدة كان مجموع مواطنيها مسلمين بنسبة 90 بالمئة. لذلك، قرر أن يستهدف قلوب وعقول الإندونيسيين بدلاً من أصواتهم، حيث قال: “توقفنا عن الدعوة عن طريق السياسة، ولكن أصبحنا ننخرط في السياسة من خلال الدعوة”. لكن ما قصده هو أنه سيغرس النشاط الإسلامي الشعبي بدلاً من الضغط من أجل تطبيق القوانين والمؤسسات السياسية الإسلامية. كانت المملكة العربية السعودية سعيدة لمساعدته على القيام بذلك بالضبط.
عندما زار العاهل السعودي الملك فيصل إندونيسيا لأول مرة في سنة 1967، أعجب بناصر بشدة. في ذلك الوقت، كان فيصل يطور رؤيته للسياسة الخارجية السعودية بدافع التضامن الإسلامي، وقدم دعم المملكة لناصر الذي أنشأ على الفور مجلس الدعوة الإسلامية الإندونيسي الذي أصبح قناة المال السعودية الرئيسية في إندونيسيا. فاز ناصر بفضل دبلوماسيته الشخصية بتزكية مفتوحة أو رسالة توصية من مكة لقبول التبرعات من أي مصدر سعودي.
في الوقت الراهن، يقع مجلس الدعوة الإسلامية الإندونيسي في مبنى مكون من ثمانية طوابق على شكل نجمة في سيكيني في جاكرتا الوسطى، والذي يسمى برج الدعوة. يمتلك مجلس الدعوة الإسلامية الإندونيسي إلى الآن مكاتب في 32 مقاطعة من جملة 34 مقاطعة في إندونيسيا. لكن التمويل السعودي النشط توقف، وتأتي عائدات المجلس الآن من العقارات التي يمتلكها من خلال المنح الخيرية.
يقول أليل أبشار عبد الله، المفكر المسلم الذي يعيش في جاكرتا إنه بعد أكثر من أربعة عقود من تأسيسه، فإن مجلس الدعوة الإسلامية الإندونيسي “خسر وفاز”. تتمتع المنظمة نفسها بنفوذ وتمويل جيد أضعف من الذي كانت تتمتع به في الثمانينيات والتسعينيات – لكن أفكارها أصبحت الآن متخفية في التيار الرئيسي.
بينما كان مجلس الدعوة الإسلامية الإندونيسي مُدارا دائمًا من قبل الإندونيسيين، فإن نقطة مهمة أخرى من التأثير السعودي في إندونيسيا تُدار بالكامل من قبل السعوديين، وهو معهد العلوم الإسلامية والعربية في إندونيسيا في جنوب جاكرتا الذي يمثل أكثر المواقع البارزة للدعوة السعودية في إندونيسيا. كما أنه يُمثل أحد أعظم الإنجازات في ذروة عصر الدعوة في جميع أنحاء العالم.
إن معهد العلوم الإسلامية والعربية في إندونيسيا هو جامعة تقليدية يديرها السعوديون بالكامل، وتشرف عليها السفارة السعودية حتى يومنا هذا. يجذب موقع الجامعة المتقدمين اليوم برسوم مجانية وإعانة شهرية وفرص لمتابعة الدراسات العليا في المملكة العربية السعودية. تُدرّس جميع الفصول باللغة العربية، وبالكاد يوجد أي نص إندونيسي مرئي في الحرم الجامعي، حتى على اللافتات.
هناك طالبات، لكنهن يدرسن على مستوى منفصل عن الطلاب الذكور ويشاهدن محاضرات فيديو تُبث مباشرة من الفصول الدراسية للذكور في الطابق السفلي. والجدير بالذكر أن معهد العلوم الإسلامية والعربية في إندونيسيا حاول مؤخرًا توظيف المزيد من الأساتذة النساء لتغيير هذا الوضع، ولكن اعتبارًا من سنة 2019، لا يزال عدد الأساتذة الذكور يفوق عدد الأساتذة النساء بما لا يقل عن ثلاثة أساتذة مقابل أستاذة واحدة.
كما قد يتوقع المرء، مثلت كتب محمد بن عبد الوهاب، مؤسس السلفية الوهابية، دائمًا جزءًا رئيسيًا من منهج المعهد. لكن المناهج الدراسية لم تكن أبدًا وهابية بحتة، وفي التسعينيات أصبح معهد العلوم الإسلامية والعربية في إندونيسيا مرتعًا للإسلاميين السياسيين من ذوي توجهات الإخوان (على عكس السلفيين الذين لا يربطهم أي شيء بالسياسة).
لهذا السبب، أصبحت الجامعة نقطة تجنيد رئيسية لحزب العدالة والرفاهية الذي استُلهم من جماعة الإخوان المسلمين والذي يُمثل أنجح حزب سياسي إسلامي في إندونيسيا. ينتمي بعض أكثر الخريجين تأثيرًا في المعهد، بما في ذلك رئيس الحزب السابق محمد هدايت نور وحيد، لحزب العدالة والرفاهية الحديث.
إن تطور معهد العلوم الإسلامية والعربية في إندونيسيا يجعل منه نموذجًا مصغرًا لمشروع الدعوة السعودي متعدد الأوجه، الذي يأوي كل من الإسلاميين السياسيين والسلفيين – بالإضافة إلى الكثير من الطلاب الفقراء الذين رحبوا بفرصة الحصول على منحة دراسية.
تعد باتام، من إحدى أكثر الأماكن التي يقل فيها احتمال ازدهار السلفية، وهي جزيرة منتجع بدائية نوعًا ما، تقع في منطقة اقتصادية خاصة معفاة من دفع الرسوم الجمركية، عبر الخليج من سنغافورة. ولكن لا تتسم الجزيرة بأي خصائص لتكون عملية التسوق فيها معفاة من الضرائب وتضم حانات رخيصة. في السنوات العشر الماضية، أصبحت موطنًا لمحطة إذاعية سلفية بارزة يطلق عليها اسم راديو هانغ والعديد من المدارس الداخلية السلفية.
لقد زرت إحدى المدارس، بيسانترين أنشور، التي تتمركز في حي السندانا الرئيسي في باتام في عام 2017. على الرغم من أنها كانت غير مجهزة بالكامل إلا أنها تستوعب أكثر من 150 طالبًا من إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة. وعند الحديث مع مدير المدرسة، الذي درس في المدينة المنورة من خلال منحة دراسية، طلب التحدث معي فقط من خلال غرفة مقسمة، لأنه يرفض وجود امرأة لا تربطه بها علاقة شرعية في المكان ذاته.
وسط مدينة باتام المزدحمة، يتضمن راديو هانغ مكتبًا رائعًا واستوديو تسجيل. على الرغم من أن المحطة عمرها عقود، لكنها اتخذت منعطفا دينيا في عام 2004 عندما أضحى صاحبها، الذي كان رجل أعمال محلي ويدعى زين العطاس، ذو ميول سلفية في منتصف العمر. في الوقت الراهن، تبث الإذاعة 20 ساعة متواصلة من المحتوى الديني كل يوم، بما في ذلك الخطب التي يؤديها رجال الدين. في سنة 2016، رفضت الجزيرة 418 طلب حصول على جواز سفر من سكان يشتبه في رغبتهم في الانضمام إلى تنظيم الدولة. واستشهدت السلطات المحلية براديو هانغ كعامل وراء تبني الكثير من الناس توجهات متطرفة.
وفقا للتقارير السنوية لوزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد السعودية، تضاءلت الجهود التي تبذلها الوزارة في إندونيسيا من الناحية المطلقة. وباتت الفلبين هدفها الرئيسي في جنوب شرق آسيا في الوقت الحالي. لكن فيما بعد تكيفت المؤسسات الإندونيسية مع الوضع. بعد جفاف تمويل مجلس الدعوة الإسلامية الإندونيسي الخليجي، تم استبداله بشكل جزئي بسياسيين مثل فرابوو سوبيانتو، وهو جنرال عسكري أصبح وزيرًا في الحكومة، وموّل مجلس الدعوة الإسلامية الإندونيسي طوال سنوات الألفين. من خلال هذه المؤسسات المرنة، يظل النفوذ السعودي قائما. وبالتالي، يمكن لكل مواطن سعودي مغادرة إندونيسيا غدًا. وسيظل هناك نظام بيئي سلفي نشط.
على الرغم من أن العديد من السلفيين إندونيسيين، لا يزال هناك ميل بين المسلمين الإندونيسيين إلى جعل تقاليد الخليج مثالية على الرغم من تفوقهم العددي الكبير- حيث أن هناك عددا أكبر من المسلمين في الأرخبيل أكثر من جميع دول الخليج معا. لذلك نادرًا ما تظهر مواقف معارضة. حاولت المؤسسة الإسلامية السنية الإندونيسية، على مدى السنوات القليلة الماضية، جعل “إسلام نوسانتارا” أو “إسلام الأرخبيل” منفتحا على الساحة العالمية، لكنها لا تزال تعاني من اضطرابات على الصعيد الإيديولوجي، وتميل إلى مفاهيم تافهة مثل “الاعتدال” والتسامح”.
نتيجة لذلك، تحتفظ صورة المملكة العربية السعودية بقوة كبيرة في المجالين الديني وغير الديني. كثيرًا ما يستشهد رجال الدين السلفيون الإندونيسيون بعلماء سعوديون في الأحكام التي يقدمونها. كما يدخر جميع المسلمين العاديين المال تقريبًا لزيارة مكة والمدينة. في إطار الاقتصاد الاستهلاكي الرأسمالي الإسلامي المزدهر في إندونيسيا، تنتشر المنتجات التي تضم صورة الكعبة في مكة المكرمة، بدءا من الساعات إلى التقاويم السنوية. اشتريت مرة الشاي المثلج من امرأة في مانادو، في شمال سولاويزي، التي كان حجابها مطرزًا بكلمة “سعودي” بحروف متصلة. وهذا ما يدل على أن المملكة تسوّق لبلادها كعلامة تجارية وشعار دعائي.
في هذا الإطار، بدأت المملكة العربية السعودية بتعديل الطريقة التي تُقدم بها نفسها في إندونيسيا. كان أول سفير سعودي التقيته في جاكرتا، أسامة بن محمد الشعيبي، في عام 2017، يتسم بأسلوب صارم. كان يرتدي الثوب التقليدي وغطاء الرأس الأحمر. وقد شعر بالاستياء عندما سألته عن دور الوهابية في الدبلوماسية السعودية، وشجب ضد ما اعتبره تدخل إيران في الخارج. لكن خليفته عصام الثقفي، الذي التقيت به بعد أسبوع من تعيينه في سنة 2019، كان أكثر تفاؤلا ويتسم بطابع غربي أكثر. كان يرتدي بدلة وربطة عنق، ويتحدث اللغة الإنجليزية بسلاسة.
أوضح الشعيبي خلال حوار أجريته معه قائلا: “نحن ننظر لإندونيسيا كجزء لا يتجزأ من رؤية 2030″، في إشارة إلى خطة محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي البالغ من العمر 34 عامًا، لتنويع اقتصاد المملكة بعيدًا عن النفط وتطوير قطاعات مثل الصحة والثقافة والسياحة، مؤكدا أن المملكة الوهابية تتطلع لتعزيز اقتصاد البلاد وليس فقط التأثير عليها على الصعيد الديني”. حتى إنه استمتع بأسئلتي عن الجهود التبشيرية السعودية. بينما كان سلفه حذرا، اعترف السفير الجديد أن هذه الجهود هي جوهر العلاقة بين البلدين، وليس هناك ما ينبغي التستر عليه”. وأضاف قائلا: “كل ما نقوم به هنا، من مسابقات القرآن إلى موائد الإفطار في رمضان، هي استجابة لطلب الجماعات الإندونيسية المسلمة”.
أخبرني الشعيبي بالطبع أن الشؤون الإسلامية لا تزال تمثل أولوية. لكنه أشار إلى أن السفارة السعودية تقوم الآن بتكريس موارد ضخمة من أجل تنظيم برامج خاصة باللغة العربية في إندونيسيا إلى جانب المنظمات الثقافية على غرار المجلس الثقافي البريطاني والتحالف الفرنسي. بالنظر إلى الطرق الغامضة التي عملت بها الدعوة السعودية في الماضي، فإن هذا التغيير في الخطاب ملحوظ. ولكن هناك سبب وجيه للغاية للتشكيك في رؤية 2030، التي تعرضت لانتقادات لكونها غير مجدية اقتصاديًا وتعد مجرد غطاء للتستر على قضايا حقوق الإنسان وتلميع صورة بن سلمان. من الصعب تصديق الوعود الإصلاحية المفترض للأمير ورؤية 2030، لا سيما بعد قتل الصحفي جمال خاشقجي الوحشية في القنصلية السعودية في منتصف الحملة الدعائية التي نظمتها البلاد سنة 2018.
سوف يستغرق الأمر بضع سنوات على الأقل لتحديد ما إذا كان الدور السعودي في إندونيسيا قد تغير حقًا. لكن الأمر المؤكد هو أنه خلال نصف القرن الماضي، لم تكن جهود الدعو السعودية ثابتة. ذلك أن الحفاظ على صورة متجمدة منذ 10 أو حتى 20 سنة يمثل أكبر عقبة أمام فهم كيفية عمل الأموال السعودية – والقوة السعودية الناعمة اليوم.
المصدر: الغارديان