أيام قليلة بعد تولّيه منصب الرئاسة الجزائرية، أكّد عبد المجيد تبون أن بلاده معنية أولا بالشأن الليبي، ثم عقد مجلس الأمن الوطني بعد سنوات من تعطّل انعقاده نتيجة مرض عبد العزيز بوتفليقة، لبحث التطورات في ليبيا، أعقب ذلك تحركات دبلوماسية جزائرية كبيرة لإيجاد حل سياسي للأزمة الليبية.
كلّ هذا، كان الهدف منه عودة الجزائر إلى المشهد الإقليمي كدولة محورية بعد غياب طويل، لكن فشلها الدبلوماسي الأخير في ليبيا وعدم تمكّن مرشّحها من الوصول إلى منصب رئيس البعثة الأممية هناك، أثبت تواصل الضعف الدبلوماسي في الجزائر وعدم تمكّنها من استرجاع مكانتها الإقليمية.
لعمامرة يسحب ترشحه
مرشح الجزائر رمطان لعمامرة (67 عاما) لشغل مهمة الموفد الأممي إلى ليبيا، قرّر أمس سحب ترشّحه لهذا المنصب، نتيجة الفيتو الأمريكي الذي رفع في وجهه رفضا لتوليه هذا المنصب الأممي المهم في ليبيا التي مزقتها الحرب المتواصلة منذ سنوات.
وقال الدبلوماسي الجزائري في بيان نشرته الصحافة الجزائرية “قام الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، بالمبادرة في 7 آذار/مارس 2020، ليعرض علي شخصيا منصب الممثل الخاص ورئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا”.
وتابع “لقد منحت موافقتي من حيث المبدأ بروح التزام لصالح الشعب الليبي الشقيق وكذلك تجاه المنظمات العالمية والإقليمية المعنية بحل الأزمة الليبية”، ويستدرك “المشاورات المعتادة التي يجريها غوتيريس منذ ذلك الحين لا يبدو أنها ستؤدي إلى إجماع مجلس الأمن والجهات الفاعلة الأخرى، وهو أمر أساسي لإنجاز مهمة السلام والمصالحة الوطنية في ليبيا”.
وينوي العمامرة الاتصال هاتفياً “في الساعات القادمة” بالأمين العام للأمم المتحدة لإعلامه بسحب ترشحه، حيث بدأ غوتيرش بالفعل البحث عن شخصية أخرى للمنصب. وسبق أن أعلن غسان سلامة الذي شغل منصب مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا منذ حزيران/يونيو 2017، استقالته “لأسباب صحية” في 2 آذار/مارس.
ترى السلطات المصرية والإماراتية أن تعيين رمطان لعمامرة في هذا المنصب الأممي الهام، سيعرقل مشاريعهم “المشبوهة” في ليبيا
ارتبط اسم رمطان لعمامرة لسنوات بالدبلوماسية الجزائرية وهو سياسي يوصف بأنه متعدد الكفاءات، إذ أنيطت به العديد من المسؤوليات في الدولة الجزائرية، فقد سبق أن عمل سفيرًا للجزائر في عدة بلدان منها الولايات المتحدة الأمريكية وجيبوتي وإثيوبيا وسفيرًا لبلده لدى منظمة الأمم المتحدة بين عامي 93 و96 من القرن الماضي، وعمل مبعوثًا باسم المنظمة الدولية إلى ليبيريا بين 2003 و2007.
كما عمل مفوضًا لمجلس شؤون السلم والأمن الإفريقيين، التابع للاتحاد الإفريقي، عام 2008 نتيجة اطلاعه على الكثير من الملفات. وقد شغل لعمامرة أيضًا، منصب أمين عام لوزارة الخارجية الجزائرية حتى 2010.، وتم تعيينه في الـ11 من سبتمبر/أيلول 2013 وزيرًا للشؤون الخارجية، ثم وزير الشؤون الخارجية والتعاون الدولي بين عامي 2015 و2017، وفي سبتمبر/أيلول من السنة نفسها عين عضوًا في اللجنة الاستشارية العليا لمنظمة الأمم المتحدة المكلفة بالوساطة الدولية، وفي 14 من فبراير/شباط من عام 2019، عين لعمامرة وزيرًا للدولة ومستشارًا دبلوماسيًا لرئيس الجمهورية.
فيتو أمريكي استجابة لرغبة مصرية إماراتية
رغم شُغله كل هذه المناصب، رفعت الإدارة الأمريكية فيتو في وجه الدبلوماسي الجزائري رمطان لعمامرة، لأسباب لم تذكرها، لكن تقارير كثيرة تحدّثت عن دور مصري وإماراتي في هذا الشأن، حيث يرفض كلاهما شغل رمطان لعمامرة لهذا المنصب.
ومارست كلّ من مصر والإمارات ضغطا كبيرا على الولايات المتحدة الأمريكية، لدفعها إلى رفع فيتو أمام تولي الدبلوماسي الجزائري رئاسة البعثة الأممية في ليبيا خلفا لغسان سلامة، ذلك أن لعمامرة يدعم الحكومة الشرعية في ليبيا.
وترى السلطات المصرية والإماراتية أن تعيين رمطان لعمامرة في هذا المنصب الأممي الهام، سيعرقل مشاريعهم “المشبوهة” في ليبيا، ذلك أنه سيكون حجرة عثرة أمام تنفيذ أجنداتهم في هذا البلد العربي الغني بالنفط.
نتيجة ذلك، قامت القاهرة وأبو ظبي بتنشيط شبكات نفوذهما في واشنطن، والضغط على إدارة دونالد ترامب لدفعه للاصطفاف لجانبهما، خاصة وأن الولايات المتحدة الأمريكية لم تحسم بعد موقفها مما يحصل في ليبيا، واكتفت منذ فترة بإصدار قرارات الإدانة والاستنكار لما يحصل هناك.
لا يمكن لهذين البلدين أن يتخيلا، مبعوثا أممية في ليبيا يكون محايدا وعلى مسافة واحدة من طرفي النزاع هناك، ذلك أن هذا الأمر سيهدّد مصالحهما وتحركات حليفهم المناهض للشرعية الأممية خليفة حفتر الساعي لتقسيم ليبيا وفرض نظام عسكري دكتاتوري فيها.
ويسعى البَلدان للدفع بشخصية تتوافق مع توجههما السياسي في ليبيا، وذلك سيرا على نهج غسان سلامة وقبله برنادينو ليون، وعُرف هؤلاء بمواقفهم المتساهلة مع اللواء خليفة حفتر على حساب حكومة الوفاق الوطني في طرابلس، وغض الطرف عن انتهاك الإمارات ومصر حظر السلاح المفروض هناك وتسليحهما ميليشيات حفتر.
وتحاول كلّ من الإمارات ومصر أن يظهرا بثوب الملتزم بوجهة نظر المجتمع الدولي تجاه الملف الليبي لكنهما في حقيقة الأمر يخالفها تمامًا فهما يحاولان تمرير ما يريدانه في ليبيا إما سرًا أو علنًا عن طريق ما يمكن تسميته بـ”شراء ذمم” كلّ الأطراف المتدخلة في الشأن الليبي.
تراجع مكانة الجزائر الإقليمية
تمكّن اللوبي المصري الإماراتي من فرض إرادته على الإدارة الأمريكية في ملف خليفة غسان سلامة يؤكّد تراجع مكانة الدبلوماسية الجزائرية في مجالها الإقليمي، فالفيتو المرفوع في وجه رمطان لعمامرة كان بمثابة “صفعة” للجزائر.
ما حصل في هذا الملف، يعني تواصل تراجع مكانة الجزائر الإقليمية، فهي إلى الآن لا تقدر على فرض توجهاتها، وذلك راجع إلى عديد الأسباب أهمها مرتبط بنظام الرئيس المستقيل بوتفليقة، فقد كانت البلاد في عهده غارقة في أزماتها الداخلية وكان النظام فيها وحاشيته مهتمين لكسب النقاط داخليًا أو خارجيًا، فهُم في سباتٍ لا علم لهم بما يجري حولهم.
طيلة سنوات عدّة، بقيت الجزائر منكفئة على ذاتها، ذلك أنها لا تملك شيئا من ذاتية الموقف أو القرار، لأن اللعبة كانت بيد فرنسا، فهي التي كانت تفرض منطق عدم التدخل في شؤون البلدان الداخلية، لما يخدم طبعا مصالح باريس بدول الساحل الإفريقي وشمال القارة والمغرب العربي.
يسعى النظام الجزائري الجديد بقياد تبون أن تكون بلاده حجر الارتكاز في ليبيا، فهو يبحث عن صناعة الاستقرار في دول المنطقة حتى لا يكتوي بنارها وترجع عليه وبالا
يرجع هذا الأمر إلى أن الجزائر كانت يحكمها رئيس مقعد، و ليس هو من كان يسير شؤون البلاد بل كان شقيقه سعيد من يفعل ذلك، إضافة إلى أن العصابة الحاكمة في فترة العهد البوتفليقي كانت تسير من طرف باريس، وفقا للعديد من الخبراء.
يعود تراجع مكانة الجزائرية الإقليمية أيضا إلى تراجع المنظمات الإقليمية التي تنتمي إليها، وهي أساسا الجامعة العربية التي قُبرت ودخلت في سبات دائم، واتحاد المغرب العربي الذي ولد ميتا إلى جانب الاتحاد الإفريقي الذي تصادر بعض الدول قراراته، الأمر الذي أدّى بالجزائر إلى الانكفاء الداخلي.
هذا الأمر يؤكّد أن الأدوات الدبلوماسية الجزائرية القديمة التي ترتكز على إرث بريق حرب التحرير والمساعدات الاقتصادية والإنسانية المباشرة المقدمة للدول الإفريقية قد وهنت وخفت بريقها و لم تعد تجدي نفعا، فدول العالم ابتكرت آليات جديدة لدعم نفوذها.
دور محدود في ليبيا
تراجع مكانتها الإقليمية، أثر على الدور الذي أرادت الجزائر القيام به في ليبيا. ومنذ توليه رئاسة البلاد، سعى الرئيس عبد المجيد تبون إلى أن يكون لبلاده دور كبير في ليبيا، على عكس ما كانت عليه في السابق، وهو ما فشل فيه إلى الآن.
السعي الجزائري لشغل هذا الدور، اتضح من خلال تحوّل العاصمة الجزائر إلى محطة دبلوماسية للفاعلين في الشأن الليبي، حيث زارها رئيس حكومة الوفاق الليبيّة المُعترف بها دوليًّا فايز السراج على رأس وفد كبير يضم وزيريّ الداخليّة والخارجيّة، كما زارها وزير الخارجيّة التركي مولود جاويش أوغلو، والرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، واحتضانها اجتماعات وزراء خارجية دول الجوار الليبي، وأيضا مشاركتها في مؤتمر برلين.
يسعى النظام الجزائري الجديد بقياد تبون أن تكون بلاده حجر الارتكاز في ليبيا، فهو يبحث عن صناعة الاستقرار في دول المنطقة حتى لا يكتوي بنارها وترجع عليه وبالا، وتشتت تركيزه عن معركة التنمية في داخل البلاد، لكن المؤشرات لا تبين نجاح النظام في ذلك.
هذا الفشل في إيجاد دور لها في ليبيا، يرجع إلى فشل النظام الجزائري في فرض مكانة محترمة له في المنطقة ككل، فالفاعلين الإقليمين والدوليين يمنعون أن تزاحمهم أي دولة في المنطقة، خاصة وأن هذه الدول تخالفهم التوجه.
و تسعى الجزائر لحلّ الأزمة الليبية سلميًا، فهي تعتبر أي اضطراب أمني أو سياسي في المنطقة، خطرًا من الممكن أن ينتقل إليها، لذلك فإنها تعمل على إيجاد حلول للأزمات التي تعرفها البلاد دون اللجوء للحل العسكري الذي يعتمده حفتر وحلفائه العرب والأجانب.
وتحرص الجزائر دائمًا على دعم حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليًا، وهو ما تأكد من خلال استقبالها للسراج واتهام إعلامها الرسمي حفتر بالتسبب في الأزمة التي تعرفها لييبا.
حسن استثمار الأزمة الليبية وبحث حلّ لها، من شأنه أن يشكل بداية حقيقية لعودة الجزائر إلى الساحة الإقليمية والدولية على الأقل مؤقتًا بشأن القضايا التي تهمها مباشرة، إلا أن هذا الأمر لا يبدو متاحا في هذا الوقت، ما يتطلب مزيد الجهود من السلطات الجزائرية.