تمثل تركمانستان حلقةً أخرى من حلقات الاستبداد والديكتاتورية التي تُعرف بها الأنظمة الحاكمة في جمهوريات آسيا الوسطى الخمسة، فهي لا تقل كبتًا أو انغلاقًا عنهم، ولم تعرف الديمقراطية أبدًا، حيث لا يوجد فيها مكان للانتخابات الحرة أو الأحزاب المعارضة أو مبادئ حرية التعبير أو أي شكل من أشكال حقوق الإنسان الأخرى، ما يجعلها شبيهة بكوريا الشمالية التي تتبع ثقافة الزعيم والسلطة الواحدة.
ويكاد يكون مستحيلًا معرفة ما يجري خلف الأبواب الموصدة، لأن المنظمات الحقوقية والإعلامية الأجنبية ممنوعة من الدخول إلى تلك البلاد، وإن سمح بذلك في بعض المناسبات الاستثنائية، يكون عادةً تحت رقابة شديدة وإن تجرأ أحدهم في السؤال عن علاقة السلطة بالشعب، فلا فائدة من تلك الجسارة، لأنك لن تجد أحدًا يجيب فضولك، وكأن الجميع مدرب مسبقًا على التستر على جرائم النظام أو غض النظر عنها، وذلك مفهوم، نوعًا ما، لو علمنا حجم الترهيب والتعذيب الذي يواجهه المعارضون.
الشعب التركماني
تركمانستان، ثاني أكبر دولة في آسيا الوسطى بعد كازاخستان، وهي الأقل كثافة سكانية من بينهم، إذ يبلغ تعدادها السكاني نحو 5 ملايين نسمة. غلب عليهم الطابع القبائلي والعشائري وكثيرًا ما استأجروا أنفسهم كمرتزقة لمختلف الحكام في آسيا الوسطى وبلاد فارس، ولكن مع دمج البلاد في الاتحاد السوفيتي اختفت هذه الولاءات القبلية جزئيًا من تركمانستان وساد شعور الوحدة، بعد سنوات من التنافس المرير بين القبائل على الهيمنة.
يجمع التنوع العرقي فيها بين التركمان بنسبة 85% والأوزبك بنسبة 5% والروس بنسبة 4%، ويتبعهم التتار والكازاخ والأذريون والأرمن والأوكرانيون بنسب ضئيلة ومختلفة. يدين التركمانيون بالإسلام بنسبة 90% (معظمهم من السنة على المذهب الحنفي)، و9% يدينون بالمسيحية الأرثودوكسية وغالبيتهم من الروس، والبقية ديانات أخرى، وبشكل عام تشجع الحكومة على المعتقدات العلمانية وتقمع الممارسات الدينية ومظاهرها.
يتحدث شعبها التركمانية، وهي اللغة الرسمية للبلاد، بنسبة 72%، وهي لغة تنتمي إلى فرع من المجموعة اللغوية التركية، والبقية يتحدثون الروسية بنسبة 12%، والأوزبكية بنسبة 9%، ولغات أخرى. علمًا بأن السلطات التركمانستانية منعت استخدام الروسية منذ نهاية فترة التسعينيات، وفي عام 2000 أصدر الرئيس السابق صابر مراد نيازوف مرسومًا يقضي بضرورة التحدث بالتركمانية في المؤسسات الحكومية والتعليمية كافة، وعلى ذلك ألغيت جميع المواد الدراسية غير التركمانية من المنهاج.
اقتصاد تركمانستان.. إخفاقات حكومية مدمرة
تاريخيًا، كانت تركمانستان محطة تجارية مهمة ورئيسية على طريق الحرير، ولكن الأرقام الحاليّة التي تترجم الوضع الاقتصادي في البلاد لا ترسم صورة اقتصادية إيجابية، فهي “تتأرجح على حافة الكارثة” بحسب وصف تقرير صادر عن مركز السياسة الخارجية في لندن، وتملك سجلًا ماليًا فوضويًا وأسود، إذ ذكرت وزارة التجارة الدولية في المملكة المتحدة أنه “لا يتم نشر بيانات اقتصادية موثوقة في تركمانستان”، مشيرةً إلى استيطان الفساد في الحياة الاقتصادية، حيث صنفت تركمانستان في المرتبة 161 من بين 180 دولة من حيث الشفافية.
يُعزى الاضطراب الاقتصادي في الدولة إلى تعليق صادرات الغاز الطبيعي إلى روسيا بين 2016 و2019، والتضخم المفرط (ارتفعت معدلات التضخم إلى ما يقرب من 300% في عام واحد)، ونقص المواد الغذائية الأساسية مثل السكر وزيت الطهي والبيض ومخاطر الاستثمارات المرهونة بنزوات الرئيس وقراراته التعسفية، فعلى الرغم من امتلاك البلاد لما يقدر بنحو 10% من جميع احتياطيات الغاز الطبيعي المؤكدة، فإنها تواجه أسوأ أزماتها الاقتصادية منذ 3 عقود.
تضع السلطات المحلية بعض أسر الأشخاص الذين يعيشون في الخارج في سجل خاص، لمراقبتهم والانتقام منهم إذا انتقد أو عارض أحدهم النظام
تفتقر الحكومة أيضًا إلى التخطيط السليم فيما يتعلق بالأولويات الاقتصادية، إذ يقول لوكا أنسيشي، متخصص في دراسات آسيا الوسطى ومحاضر بجامعة جلاسجو في إسكتلندا: “في الوقت الذي يصطف فيه الآلاف من الناس لشراء السلع الأساسية، تنفق الحكومة 2.3 مليار دولار على طريق “تركمان أوتوبان السريع”، وذلك جزء من إستراتيجية الرئيس في بناء فقاعات من الحياة الحديثة الخاوية على حساب مواطني الجمهورية.
كما فشلت تركمانستان التي تملك رابع أكبر احتياطي للغاز الطبيعي في العالم في تنويع وسائل الإنتاج والتصدير، ولم تسع حتى إلى إصلاح علاقاتها التجارية الرديئة والمهزوزة، ففي السنوات الأخيرة، تبادلت منتجاتها الاقتصادية التقليدية مع روسيا وبدأت في التوجه إلى الصين في حركة بطيئة ومحدودة، وذلك رغم أنها واجهت أزمة اقتصادية حادة عام 2018 وكان ينبغي أن تتصرف بمرونة أكثر على الصعيد الاقتصادي، إلا أنها لم تتخل عن سياساتها القمعية والانعزالية، وألغت دعم الغاز والكهرباء والمياه التي كانت موجودة منذ الاستقلال عام 1991.
شبه البعض بيردي محمدوف بحالة مادورو في فنزويلا: كلاهما مستبدين غير كفؤين، ومسؤولين عن تدمير اقتصادات دول غنية بموارد الطاقة
وصل الحد أيضًا إلى منع الأشخاص المتضررين من الأزمة من السفر إلى الخارج للبحث عن عمل في مكان آخر، وبحسب معهد حقوق الإنسان، فقد بلغ عدد الأشخاص الذين منعتهم السلطات التركمانية من السفر إلى الخارج نحو 30 ألفًا و874 شخصًا على الأقل، وذلك في عام الأزمة وتحديدًا في شهر أغسطس/آب، ووفقًا لمجموعة حقوق وحريات المواطنين التركمان في المنفى، تضع السلطات المحلية بعض أسر الأشخاص الذين يعيشون في الخارج في سجل خاص، لمراقبتهم والانتقام منهم إذا انتقد أو عارض أحدهم النظام، وفي حالات أخرى قد تضغط على بعض الناس وتجبرهم على العودة إلى البلاد.
ومع ذلك تفيد بعض التقارير أن الوضع الاقتصادي المتدهور ربما أدى إلى مغادرة أكثر من ثلث مواطني تركمانستان البلاد، حيث وصل معدل البطالة إلى 60% أو أكثر. وفي الوقت ذاته أنفقت الحكومة مليارات الدولارات على استضافة حدث رياضي دولي عام 2017، وبناء مطار جديد قادر على التعامل مع مئات الآلاف من المسافرين في بلد ربما لا يستقبل حتى 50 ألف أجنبي سنويًا ومواصلة البناء بالرخام الأبيض للفنادق الفاخرة في منطقة منتجع قزوين أفازا وفي العاصمة عشق آباد.
علاوة على ذلك، كان قربان قولي بيردي محمدوف يظهر باستمرار على شاشة التليفزيون الحكومي وهو يستعرض مدى روعة حياته ويتجول في السيارات باهظة الثمن ويجلس في غرف مفروشة بشكل فاخر، وفي العديد من النواحي، شبه البعض بيردي محمدوف بحالة مادورو في فنزويلا: كلاهما مستبدين غير كفؤين ومسؤولين عن تدمير اقتصادات دول غنية بموارد الطاقة.
تأليه الرؤساء
استطاع النظام الشيوعي السابق في الحقبة السوفيتية خلق أرضية خصبة للديكتاتوريات في جمهوريات آسيا الوسطى، فقد جاءت تركمانستان في المرتبة الثانية بعد كوريا الشمالية من حيث عزلتها، بحسب منظمة مراقبة الإعلام مراسلون بلا حدود، نتيجة لتدهور حالة الحقوق وتدخل النظام في جميع جوانب حياة مواطنيه مع سعيه للحفاظ على قبضته على المجتمع، ويشمل التدخل كل أنواع القمع الفردي والجماعي لحرية الإعلام والنشطاء الحقوقيين، إذ تمارس السلطات رقابة مشددة على جميع وسائل الإعلام المطبوعة والإلكترونية.
تشكلت هذه الظروف القمعية نتيجة لإدارة نيازوف الذي أعلن نفسه رئيسًا مدى الحياة للجمهورية السوفيتية السابقة، وأغرق البلاد بتماثيله المذهبة وصوره المنتشرة في جميع أنحاء الشوارع والميادين، والملصقة على جميع المنتجات الحكومية
يعلق رسلان مياديف، مؤسس ومحرر صحيفة تركمانستان البديلة على هذا الوضع قائلًا: “لا يوجد مشهد إعلامي في تركمانستان. جميع الصحف ومحطات الإذاعة والتليفزيون تكرر خط النظام، حتى في كوريا الشمالية وسوريا التي مزقتها الحرب، هناك حرية صحافة أكبر”.
تشكلت هذه الظروف القمعية نتيجة لإدارة نيازوف الذي أعلن نفسه رئيسًا مدى الحياة للجمهورية السوفيتية السابقة، وأغرق البلاد بتماثيله المذهبة وصوره المنتشرة في جميع أنحاء الشوارع والميادين، والملصقة على جميع المنتجات الحكومية، حتى إن نرجسيته وهوسه بذاته وصل إلى حد تأليفه كتابًا باسم “حكاية الروح” وأمر بإدراجه في المنهاج المدرسي وأنشأ قناة تليفزيونية لبث مقتطفات ومواضيع مذكورة من الكتاب، كما أعاد تسمية الشهور وأيام الأسبوع بأسماء أفراد عائلته، علاوة على ذلك خصص زوايا خاصة لصوره وسيرته الذاتية في المتاحف التاريخية لتبجيله وتقديسه.
لكن الموت أنهى مشواره السياسي ووضع حدًا لجنونه، ومع ذلك ورث بيردي محمدوف هذه الطباع، وراح يقلل بالتدريج من حضور نيازوف المفرط، ورمم كل موروثاته بواجهة جديدة من الغرابة والتشدد، إذ يُعرف محمدوف بغرابة القوانين التي يصدرها، فمثلًا طالبت السلطات التركمانستانية موظفي الدولة ممن تخطوا سن الأربعين بصبغ شعرهم باللون الرمادي حتى يتناسب مع شيبة شعره، ومؤخرًا طالبت طلاب الجامعات بالالتزام بالسلوك “اللائق” في العطلات الشتوية ويعني ذلك عدم التحدث على الهواتف المحمولة أو استخدام الإنترنت أو حضور حفلات الزفاف وزيارة الأصدقاء، وهي قوانين خرقاء بطبيعتها ولكنها تشير إلى مدى تدخل الحكومة في أصغر التفاصيل اليومية لمواطني هذه الجمهورية.
تعهد نيازوف بجعل تركمانستان بمثابة الكويت الثانية، الأرض التي يمتلك فيها الجميع سيارة مرسيدس على حد قوله، ولكن لا توجد أي مؤشرات حاليّة توحي باقتراب تركمانستان من تلك الصورة
ولا يكف بيردي محمدوف عن اللهث خلف التمجيد والتقديس، إذ أطلق على نفسه لقب “الحامي”، وواظب على الاستعراض، فتارة تجده في مقطع فيديو يستعرض مهاراته في قيادة سيارات السباق السريعة، أو يُظهر قدرته الفائقة في استخدام الأسلحة النارية والبيضاء، وتارة يؤدي أغنية ويعزف، تعزيزًا لصورة الشاعر المفلق والفارس المغوار ولاعب الغيتار الموهوب التي يحب الترويج لها.
ولكن سرعان ما تسقط كل محاولات بيردي محمدوف في تليمع صورته وتبييض سمعته مع تقارير وتصريحات المنظمات الحقوقية الدولية التي تصف حكومته بأنها “من أكثر الأنظمة قمعًا في العالم”، وغالبًا ما تختار الحلول المتطرفة من أجل التعتيم على الحقيقة، فمؤخرًا حظر الرئيس لبس الكمامات أو حتى التلفظ بكلمة “كورونا” في البلاد، حيث انتشرت الشرطة في الشوارع لاعتقال المارة الذين يتحدثون عن هذا الوباء في الأماكن العامة، وفي مثل هذه الحالات تغيب الشخصية المرحة والبطولية التي يحاول بيردي محمدوف تصديرها للرأي العام.
ومن المثير للتهكم، أنه في السنوات الأولى من الاستقلال، وعد نيازوف (المسمى أيضًا تركمانباشي، “زعيم التركمان”) في تحسين نوعية الحياة للسكان، وتعهد بجعل تركمانستان بمثابة الكويت الثانية، الأرض التي يمتلك فيها الجميع سيارة مرسيدس على حد قوله، ولكن بعد نحو 3 عقود من تلك التصريحات، لا توجد أي مؤشرات توحي باقتراب تركمانستان من تلك الصورة، على العكس تمامًا، صارت تركمانستان مثالًا للشعوب الخاضعة والمضطهدة، غير المأهولة للإصلاحات أو الثورات أو أي نوع من التغيير الذي قد يمس هيبة الرئيس الحامي!