عبر المنتمون للدين الإسلامي – منذ زمن طويل – فكرة التقوقع داخل تشريعات ثابتة وأحكام مقيدة، متجاوزين هذه المرحلة إلى آفاق أخرى أكثر مرونةً وانتشارًا، ساعدهم في ذلك ظهور العديد من الفرق والمذاهب الدينية التي استلهم كل منها من الدين زاوية للانطلاق، ومنها إلى وضع ثوابت جديدة وأسس مختلفة لطقوس وممارسات خاصة بكل فريق.
وكانت الصوفية وما ينضوي تحتها من فرق فرعية هي الرائدة في هذا المجال، فانتشرت بسرعة البرق حتى تجاوزت الحدود الجغرافية والفكرية، فكانت الأداة الأبرز لتعريف العديد من بقاع العالم بالإسلام، مرتكنة على ما تنتهجه من إستراتيجية انفتاحية تتمتع بالمرونة، وجد فيها الآخر ضالته مقارنة بالأحكام الثابتة التي لا تروق للكثيرين.
ولعبت مثل هذه الفرق على مر التاريخ دورًا محوريًا تعدى حدود الدين إلى أبعاد اجتماعية وسياسية وثقافية متنوعة، حتى باتت رقمًا صعبًا في مسيرة المجتمعات والشعوب، وصلت إلى حد توظيفها من بعض الحكومات والدول لتحقيق أهداف سياسية وأخرى عسكرية تخدم الأنظمة وتقوي مناعتها ضد كل ما يهدد أمنها واستقرارها.
في “نون بوست” نستعرض في هذا الملف الذي يحمل عنوان “التدين الناعم” ملامح الدور الجديد للفرق الدينية وعلى رأسها الصوفية وكيف يتم الاستعانة بها لتجاوز عباءتها الدينية، والتأثيرات التي حققتها لا سيما داخل المجتمعات غير الإسلامية، ونستهل الملف بالحديث عن الصوفية لدى دول الغرب، الواقع والتأثير.
لم تكن معرفة الأوروبيين بالصوفية على وجه التحديد معرفة حديثة كما يتوقع البعض، بل تعود إلى عدة قرون، ترجع إلى ما قبل اكتشاف الأمريكيتين، فبحسب الباحثة الألمانية آن ماري شيميل”يرجع الاتصال الأوروبي الأول مع الأفكار الصوفية إلى العصور الوسطى، فأعمال الزاهد والباحث الكاطلاني رامون لول الذي توفي سنة 1316، تُظْهِر ملامح قوية لتأثره بالأدب الصوفي، حيث يبدو عمله الموسوم بأسماء الإله المئة (Les Cents Noms de Dieu) مستلهَمًا من أعمال محيي الدين بن عربي (638-561هـ/ 1165-1240م) وكان رامون لول قد تعلَّم العربية والإسلام عن طريق أحد خدمة المسلمين بسبب حماسته الدينية، إذ “كان مولعًا بفكرة تحويل العالم الإسلامي إلى المسيحية”.
البُعد الغامض للإسلام
الارتباط الروحي الذي جمع بين الصوفية والغرب كان سببًا رئيسيًا وراء اعتناق الكثير من الغربيين للدين الإسلامي، وهو ما يفسر الاهتمام الكبير بالتصوف لدى الغرب، بوصفه سلوكًا نفسيًّا وروحيًّا، حيث يجد الأمريكيون والأوروبيون في الطرق الصوفية الانفتاح والليونة والدعم الذي يستجيب لاحتياجاتهم واهتماماتهم الفردية.
في كتابه المعنون بـ”الصوفية في الغرب” أو “Sufism in the west” سَطَّر أستاذ ومحاضر الدراسات الدينية بجامعة “Derby” البريطانية، جون هينيلز، بمساعدة أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة “إيرفورت” بألمانيا، الباكستاني جمال مالك، بعض الأطروحات والدراسات التي أسهم بها العديد من الباحثين الغربيين عن تاريخ وماهية الحركات الصوفية في الغرب، فيما يجيب عن بعض التساؤلات الخاصة بالطرق الأكثر تأثيرًا في عموم المسلمين الموجودين في النظم الغربية ذات الطبيعة الليبرالية المنفتحة.
هينيلز الذي قضى غالبية سنوات عمره البالغة 77 عامًا قبل أن توافيه المنية في مايو 2018، في رصد الاختلافات والتوافقات بين الأديان وشرائعها المختلفة، بالإضافة إلى ممارسات وطقوس مريدي كل طائفة، كشف أن غالبية الفئات الأكثر تأثرًا بالمد الصوفي في أوروبا والولايات المتحدة، ينتمون لأبناء المهاجرين المسلمين الذين تأثروا بـ”الرومانسية المثالية للروحانيات الشرقية” وأعلامها أمثال جلال الدين الرومي (1207- 1273) وهو المتصوف الأشهر صاحب الطريقة المولوية.
أما التعريفات المختلفة للتيار الصوفي في عيون الباحثين الغربيين، أشار الكتاب إلى أن التصوف هو “البعد الغامض للإسلام”، فيما يشير المصطلح إلى مجموعة متنوعة من الأنماط الروحانية التي تهدف إلى الإخلاص العميق لله الواحد القهار.
وعن الحركات الدينية التي أسهمت في إثراء تيار التصوف في الغرب أرخ الكاتب لبعض منها مثل حركة “الصوفية الدولية” ويرجع الفضل في بلورتها إلى الموسيقي الهندي “عنايات خان” الذي جلب مسار الصوفية من الهند إلى الغرب في 1910، بالاضافة إلى ابنه من بعده، وهو ما سيتم التطرق إليه بشيئ من التفصيل في مادة مخصصة لذلك لاحقا.
ومن الأسماء الرائدة التي ساعدت في نشر التصوف في الغرب “إدريس شاه” وهو متصوف أفغاني عاش ما بين (1924- 1996) مهاجرًا من الهند التي ولد بها إلى المملكة المتحدة التي ترعرع بها، كذلك “مظفر أوزاك” وهو من أبرز من نشروا الصوفية في الغرب، وتحديدًا في الولايات المتحدة وهو تركي الأصل عاش في الفترة ما بين 1916 إلى 1985، كما يعتبر الشيخ التاسع عشر لمذهب إحدى الطرق الصوفية المعروفة بـ”The Halveti-jerrahi order of Dervishes”.
النقشبندية الأوروبية
ورغم تعدد الطرق والمذاهب الصوفية في أوروبا وأمريكا، فإن أكثرها انتشارًا ما يطلق عليها “الطريقة النقشبندية”، وهي إحدى الطرق الصوفية التي اشتفت اسمها من رائدها ومؤسسها “محمد بهاء الدين نقشبند”، ولها عدة أنواع، تختلف من منطقة لأخرى، ففي أوروبا على سبيل المثال هناك النقشبندية المجددية، وتنتشر بشكل أكبر في ألمانيا، فيما يعزى هذا الانتشار إلى كونها تتمتع بتمدد ثري في تركيا، ومن ثم نُقلت لألمانيا.
كذلك هناك النقشبندية الحقانية التي يشير تمددها إلى الديناميكية التي يتمتع بها الصوفيون في الغرب، فيما يعد التيار الحقاني للنقشبندية، فرعًا حديثًا من الطريقة الأم ذات الأصول والجذور الآسيوية، كما يتميز ببعض السمات مثل التوجه السني البحت، والمشاركة الاجتماعية والسياسية الكاملة.
هذا بجانب الصوفية الأمريكية، التي تشتهر بمصطلحين أساسيين: “الهجين” أي تلك الحركات والمجموعات الصوفية التي أسسها المسلمون المهاجرون بعد انخراطهم في المجتمع في نزعة نوستاليجية لبيئاتهم التي ولدوا فيها، أما المصطلح الثاني فهو “المعمرة” حيث تمثل تلك الحركات حقيقة عالمية أبدية تنطلق من وجودية مطلقة يرجعها الباحث إلى مفهوم الغنوصية (وهو مصطلح يُطلق في الأغلب على مجموعة أفكار تتجاوز الملة في حد ذاتها إلى كونها ظاهرة شاملة توصف حالة من الفلسفة الدينية تفسر مفاهيم التوحيد الخالصة للإله الواحد) أكثر من مصطلح الدينية.
هناك ثلاث موجات ومراحل رئيسية للنشاط الصوفي في أمريكا، أوضحها هينيلز في كتابه،الموجة الأولى: وتؤرخ بدايتها عند أوائل 1900، بدافع التواصل والتفاعل الثقافي بين الأوروبيين والآسيويين خلال الفترة الاستعمارية آنذاك، الموجة الثانية: تزامنت مع نمو وغزارة الدراسات الدينية المقارنة في الولايات المتحدة، وذلك في فترة الستينيات والسبعينيات كأعمال وليم جيمس وهستون سميث وسيد حسين نصر وميرسيا إلياد.
أما الموجة الثالثة والأخيرة، فهي التي أطلقت لتسمية أنواع معينة من الأنشطة التي تقوم بها المجموعات الصوفية، ما يعكس تدريجيًا تحديد أقرب للإسلام المعياري خلال فترة الثمانينيات والتسعينيات، التي خلقت بيئة تجتذب وتخدم المجتمع الإسلامي المتعدد الأعراق في الولايات المتحدة.
كما أشار الكتاب إلى ملامح الصوفية البريطانية، والتي انتقلت عبر مسارات التجارة والحج، منوهًا أن المسلم في بريطانيا يجد في التصوف إشباعًا لحنين يحتل مشاعره ويعزف على أوتارها الروحية، هذا بجانب السمات التي تتميز بهاالطوائف الصوفية هناك أهمها جذب أبناء المهاجرين والعلاقات الاجتماعية والتزاوج بين مريديها والاندماج مع قيم المجتمع الغربي والتحرر من الأصولية الصارمة.
لماذا يدعم الغرب الصوفية؟
الانتشار السريع للصوفية في الغرب والدعم غير المسبوق الذي يقدم لها مقارنة بغيرها من الفرق الدينية الأخرى كان مثار تساؤل كثير من الباحثين ممن تساءلوا عن دوافع هذا الدعم، وهنا أشار الصحفي المتخصص في شؤون الحركات الإسلامية خالد سعيد، نقلًا عن المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري قوله: “مما له دلالته أن العالم الغربي الذي يحارب الإسلام، يشجع الحركات الصوفية، ومن أكثر الكتب انتشارًا الآن في الغرب مؤلفات محيي الدين ابن عربي، وأشعار جلال الدين الرومي، وقد أوصت لجنة الكونغرس الخاصة بالحريات الدينية بأن تقوم الدول العربية بتشجيع الحركات الصوفية، فالزهد في الدنيا والانصراف عنها وعن عالم السياسة يضعف ولا شك صلابة مقاومة الاستعمار الغربي”.
وأضاف سعيد في مقال له أنه طالما أولى المستشرقون وحكومات الدول الغربية بالصوفية الاهتمام والإعلاء من شأنها، وترجمة ذلك إلى دعم إعلامي ومادي ودبلوماسي غربي، كما سارعوا إلى التقرب من الصوفية ووضعهم على قائمة الزيارات الدبلوماسية وحضور الموالد وزياره الأضرحة والاحتفالات.
وفي هذا الشأن يقول المؤرخ والباحث دانيال بايبس مؤسس ومدير منتدى الشرق الأوسط: “الغرب يسعى إلى مصالحة التصوف الإسلامي ودعمه، لكي يستطيع ملء الساحة الدينية وفق ضوابط فصل الدين عن الحياة، وإقصاؤه نهائيًا عن قضايا السياسة والاقتصاد”.
وهو الرأي ذاته الذي أكدته الكاتبة فارينا علم الباحثة في الطرق الصوفية في الغرب، التي أشارت إلى أن جوهر المسألة هو فصل الدين عن الدولة، مضيفة “قد حذرت تعاليم الدين الكلاسيكية علماء الدين من التقرب الكبير من السلطة السياسية”، ففكرة الانعزال وترك ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، والنأي عن خوض معترك الاقتصاد والسياسة والرهبنة والدروشة، من هنا أتى الاهتمام والدعم السخي في كل الأصعدة”.
في المجمل فإن سرعة انتشار الصوفية في أوروبا وأمريكا لم تكن من باب المصادفة، فالدعم الذي تلقته تلك الطرق سواء من الحكومات أو المؤسسات المجتمعية يعكس مدى ما يوليه الغرب لهذا التيار الذي يسعون لاستخدامه كبديل آمن في مواجهة الطرق الكلاسيكية التي تعزز مفاهيم الجهاد والمقاومة وإعلاء شأن المسلمين في مواجهة الشعوب والحضارات الأخرى.