“فشل حكومة العثماني الإخوانية في التعامل مع أزمة كورونا” – “المجاعة التي ستضرب المملكة” – “الفساد الذي توغل في عضد الدولة المغربية” – “المأزق الذي بات عليه الملك محمد السادس بعد تصاعد أعداد المصابين بالوباء”.. عبارات وهاشتاغات هجومية تصاعدت وتيرتها الأسبوع الماضي على منصات التواصل الاجتماعي ضد المغرب وحكومته.
وما بين ليلة وضحاها صعد اسم المغرب ليتصدر قائمة الأكثر تداولًا على موقع “تويتر”، غير أن الملاحظ أن الحسابات التي ساعدت في الترويج لمثل هذه العبارات أغلبها غير موثقة وتحمل أسماءً مستعارةً، وذلك حسبما أشار تحقيق لموقع “الصحيفة” المغربي الذي أكد توصله من خلال بعض التقنيات الإلكترونية إلى أن تلك الحسابات تدار من طرف شركات مصرية وبتمويل إماراتي للعمل على إنتاج الحملات الإلكترونية الموجهة لتأليب الرأي العام بشأن قضية محددة.
ووفق الموقع المغربي فإن الحملة بدأت ليلة الأحد 12 من أبريل الحاليّ واستمرت بزخم كبير إلى حدود ليلة الأربعاء 15 من أبريل، واستهدفت المغرب وحكومته، وكذا الملك محمد السادس، ويقف وراءها جهات سيادية تعمل من قلب أبو ظبي مهمتها “صناعة ذباب إلكتروني” لإنتاج محتوى موجه لضرب شخصيات أو دول أو حكومات.
وتتزامن تلك الحملة مع تجميد موقعي فيسبوك وتويتر آلاف الحسابات الوهمية المصرية والإماراتية والسعودية التي استهدفت دولًا مثل ليبيا وقطر وتركيا وكذا المغرب، لتتكشف الأمور يومًا تلو الآخر، أن ما يحدث لم يكن عشوائيًا ولا من قبيل المصادفة، بل خطة ممنهجة لها أهدافها الخاصة التي تتبع في نهاية المطاف أجندة أبناء زايد في المنطقة.
وبعيدًا عن أصابع الإمارات الممتدة في العديد من العواصم العربية والشرق أوسطية، فإن دور أبو ظبي داخل المغرب بدأ في التصاعد خلال الآونة الأخيرة مستغلًا أدواته الناعمة وعلى رأسها الإعلام في محاولة لاختراق المنظومة الإعلامية المغربية للتحكم في أدوات توجيه الرأي العام وصناعته وفق أهواء محمد بن زايد وأخوته.
اختراق الإعلام المغربي
السؤال الأبرز الذي طرحته الصحيفة المغربية تمحور حول دوافع الحملة الإماراتية في هذا التوقيت، الذي لا يحمل أي توتر في العلاقات على الأقل خلال الفترة الأخيرة، إذ جرت العادة أن استهداف المغرب عبر “الذباب الإماراتي”، كان دائمًا يأتي متزامنًا مع خلافات تطفو على السطح، مثل غضب المغرب من أبو ظبي لعدم تصويتها على ملف المملكة لتنظيم لكأس العالم 2026، أو من خلال سحب المغرب لقواته من حرب اليمن أو رفضه لحصار قطر أو الخلافات في ليبيا و”صفقة القرن”.
غير أن الحملة الراهنة باتت غير مفهومة بالمرة، خاصة أنها تأتي بعد أقل من ثلاثة أشهر على لقاء جمع الملك محمد السادس بولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد آل نهيان، عند زيارة الأخير للمملكة، يناير الماضي، حيث قضى عطلة خاصة في قصره بمنطقة “أم عزة” ضواحي العاصمة الرباط.
لكن الإجابة عن هذا السؤال تعيدنا إلى ثلاث سنوات مضت، حين بدأت الإمارات في إعداد رؤية إعلامية جديدة عام 2017، عبر إعادة هكيلة مؤسسة “أبو ظبي للإعلام” التابعة لشركة أبو ظبي التنموية القابضة، وهو صندوق سيادي إماراتي، بات يفرض نفسه من خلال استدعائه بين الحين والآخر كمساهم برأس المال في بعض المواقع العربية وكان من بينها مواقع مغربية شهيرة.
وفي أواخر 2018 كان اللقاء الشهير بين ذراع ابن زايد الإعلامية الذي يشرف على الرؤية الجديد، سلطان الجابر، وزير الدولة ورئيس مجلس إدارة أبو ظبي للإعلام، مع ملاك أحد المواقع المغربية في الرباط، حيث تم النقاش عن دخول الصندوق السيادي الإماراتي كمساهم في الموقع المغربي.
ومن بين المواقع المغربية الكبيرة التي سقطت في مستنقع المال الإماراتي، موقع “هسبريس” الشهير، (أول صحيفة إلكترونية في المغرب، وهي صحيفة مستقلة تأسست في فبراير/شباط 2007) الذي صار تحت حماية أبو ظبي وفق تقرير لموقع مغرب “إنتلجنس”، حيث تم تسجيل موقع “Hespress.com” مؤخرًا تحت اسم نطاق “.ae”، المدرج ضمن النطاق الوطني لدولة الإمارات، ويشير بعض المراقبين إلى أن الموقع يخضع الآن للتشريعات الإماراتية وليست المغربية.
التقرير تساءل عن مصير العقود الموقعة بعشرات الملايين من الدراهم، التي أبرمها الموقع مع بعض الوزارات المغربية كوزارتي الفلاحة والسياحة، وحتى مجلس المستشارين، كما أن الموقع يستفيد أيضًا من الدعم العمومي الذي تمنحه وزارة الاتصال لوسائل الإعلام الإلكترونية المغربية.
الصحفي خالد البرحيلي وهو أحد مؤسسي الموقع، شن هجومًا مؤخرًا على الموقع إثر تقديم استقالته بسبب خلافات كبيرة بينه وبين المسؤولين في تلك المنصة، قائلًا في تدوينة له أن من يعملون بالموقع أصبحوا “مثل حرّاس الإمارات من أن تقاس (تُمسّ) بمقال أو تعليق أو خبر طائش قد ينشر في الموقع”، مقابل كون “الشيء المباح هو توجيه السهام إلى قطر”، مؤكدًا أن ما كاله من اتهامات للموقع لديه “إثباتات عنه، وحديث طويل يخصه ما زالت ذاكرة هاتفي تحتفظ به”.
وأضاف الصحفي المغربي: “لا يمكن بالمطلق داخل هسبريس أن يُكتب مقال رأي أو خبر أو تقرير أو تحقيق أو حتى فلاش خبري يتحدث بسوء عن الإمارات”، مشيرا إلى أنه خلال العام الماضي فقط “نشر أكثر من 193 مقالًا إخباريًا يمجد الإماراتيين، حتى إذا عطس الإماراتيون في دبي أو أبو ظبي فعلى هسبريس أن ينشر أنه خير عميم جاء إلى الأمة”، معلنًا أن “المدير العام للموقع يعيش في دبي”.
التوغل الإماراتي في الإعلام المغربي تجاوز المواقع الإلكترونية إلى الفضائيات كذلك، حيث كشف التقرير ذاته استعداد أبو ظبي لإطلاق قناة تليفزيونية موجهة للمشاهد المغربي، حيث كلفت قناة “سكاي نيوز” الإماراتية، مواطنًا إماراتيًا يسمى أحمد الربيعة بإطلاق قناة “سكاي نيوز المغرب”، وحددت لهذه القناة، حسب تأكيدات لصحيفة “الاستقلال” المغربية مهمة واحدة هي تدمير صورة المغرب، البلد المنفتح الذي يقود حكومته “حزب العدالة والتنمية” منذ عام 2012.
علاوة على ذلك تخطط أبو ظبي لبناء شبكة علاقات قوية من الصحفيين والإعلاميين المغاربة لخدمة أهدافها داخل المملكة، وتنفيذ أجندتها الخارجية، مستخدمة في ذلك سياسة إغداق المال والنفوذ، وهي الأداة التي تجيد الإمارات استخدامها وحققت من خلالها نجاحات عدة في بعض بلدان المنطقة وعلى رأسها مصر.
صناعة الفوضى
بات من الواضح أن صناعة الفوضى هي الثروة الحقيقية للإمارات بعد النفط، وعليه حشدت الدولة جهودها كافة لتعزيز تلك الثروة، ومن ثم أيقنت أن “الإعلام البديل” من خلال المواقع الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي – رغم أنه كان الأساس والشرارة الكبرى والمؤثرة في الشعوب لإفراز ثورات “الربيع العربي” – لم يعد كافيًا وحده في “قمع الحقيقة” وإعادة إنتاج الواقع برؤيتها.
وعليه كان لا بد من البحث عن إستراتيجية أخرى، اعتمدت بشكل كبير على الانتقال من مرحلة التأثير في المشهد إلى صناعته، ومن ثم بات التحول إلى شراء جزء من رأسمال بعض المواقع والفضائيات في العديد من الدول العربية أو تدشين منصات إعلامية خاصة بها تدار بأذرع إعلامية تابعة للدول المستهدفة ذاتها.
ومن هنا كان تكليف ولي عهد أبو ظبي لمستشاره للأمن الوطني والمتحكم في جهاز المخابرات، طحنون بن زايد آل نهيان، بصياغة رؤية صناعة “قوة ناعمة” للدولة، في الخارج، حيث بدأ جهاز طحنون يستقطب الصحافيين ويرسم معالم التوجه الإعلامي الموجه للإمارات تحت غطاء وزارة الإعلام التي كان يديرها فعليًا جهاز طحنون المخابراتي.
الخطوط العريضة لخطة طحنون كانت تعتمد في المقام الأول على العزف على وتر “صناعة الفوضى” و”الاستثمار في بؤس الناس” من خلال تسطيح عقولها بمحتوى يبعدهم عن السياسة، لذا وضعت ميزانية ضخمة تحت تصرف الجهاز المخابراتي لشراء أسهم وجزء من رأسمال العديد من المواقع في كل من مصر وتونس ومؤخرًا المغرب ثم الحديث عن السودان، لتكون هذه المواقع صوت الإمارات الخارجي ولتمارس “القوة الناعمة” في تجميل صورة أبو ظبي، وتوجيه سهام النقد للإسلاميين، من الخليج إلى المحيط.
المتابع للمواقع الممولة إماراتيًا داخل المغرب وخارجه، يلاحظ أنها على مدار السنوات الأربعة الماضية دأبت على توظيف العديد من المصطلحات السياسية لتصريفها للمتلقى المغربي، مع التركيز على إسقاط المفاهيم السياسية لخلطها، كما هو حال وصف أعضاء حزب “العدالة والتنمية” بـ”إخوان بنكيران” و”إخوان العثماني”، في محاولة لإعادة تشكيل الوعي الجماعي المغربي، ليتناغم وصف “إخوان المغرب” مع “إخوان مصر”، وتصبح صورتهما واحدة، في عملية “تطبيع” ممنهجة تهدف في النهاية إلى تشويه الأنظمة التي تتقاطع مع أبو ظبي في بعض المسارات الحساسة التي يرى أبناء زايد أنها من الممكن أن تؤثر على أجندتهم الإقليمية.
وفي يونيو الماضي كشف المركز الأطلسي للدراسات الإستراتيجية والتحليل الأمني عما أسماه “حرب باردة” غير معلنة يقودها ذباب الإمارات ضد المملكة، وذلك على خلفية المقال الذي نشرته جريدة إلموندو الإسبانية اتهمت فيه الأمين العام لمجلس الجالية المغربية بالخارج عبد الله بوصوف بالتورط في أموال مشبوهة.
وفي المجمل فإن الخلاف الإماراتي المغربي وإن خرج في السنوات الأخيرة إلى إطار العلن من خلال استدعاء السفراء العام الماضي، بسبب التراشق الإعلامي والسياسي بشأن بعض القضايا الإقليمية والدولية، حيث ما زالت أبوظبي لم تعتمد سفيرًا لها في الرباط إلى اليوم، إلا أن التوتر بين البلدين بدأ فعليًا بعد صعود حزب “العدالة والتنمية” إلى رئاسة الحكومة المغربية، بُعيد “الربيع العربي” سنة 2011.
حينها جيشت أبو ظبي وحليفتها الرياض جهودهما لمقاومة هذا المد الثوري الجديد، ورغم ما حققاه من نجاح كبير في المشهد المصري حيث الإطاحة بالإخوان المسلمين، فإن الوضع في المغرب قوبل بعقبات وتحديات أكبر، فشلت معها كل الجهود العبثية للدولتين الخليجيتين في تكرار السيناريو المصري، وهو ما دفعهما للبحث عن آليات أخرى لتحقيق تلك الأهداف وإن طال أمدها، كان على رأسها اختراق المشهد الإعلامي للتأثير في الرأي العام الداخلي.