تعيش تونس كغيرها من دول العالم على وقع انتشار فيروس كورونا المستجد، الذي صنفته منظمة الصحة العالمية “جائحة” نظرًا لخطورته وسرعة انتشاره، لكن بالعودة إلى التاريخ، نجد أن البلاد التونسية واجهت أوبئة عديدة عبر التاريخ.
من الطاعون إلى الكوليرا وصولًا إلى كورونا، أوبئة فتكت بالتونسيين، وكاد بعضها أن يفتك بمعظم سكان البلاد لخطورته وصعوبة السيطرة عليه، في هذا التقرير لنون بوست سنتطرق لأهم الوسائل التي اعتمدت عليها تونس لمقاومة هذه الأوبئة من الاستسلام وانتظار الموت إلى التداوي تقليديًا والدعاء إلى الله والحجر الصحي.
الحجر الصحي أو “الكرنتينة”
منتصف شهر مارس/آذار الماضي، أعلن الرئيس التونسي قيس سعيد، إقرار حجر صحي شامل في كامل التراب التونسي، مع تأمين الدولة للمرافق الحيوية من أمن وصحة وغذاء والإبقاء على المحلات التجارية مفتوحة، في إطار إجراءات مواجهة انتشار فيروس كورونا.
وطالب قيس سعيد في كلمته، التونسيين بالبقاء في منازلهم، للحد من انتشار فيروس كورونا المستجد، لتصبح تونس أول دولة عربية تفرض حجرًا صحيًا في كامل أراضيها لمواجهة انتشار فيروس كورونا، وجاء هذا القرار بعد أيام قليلة من فرض السلطات التونسية حظرًا جزئيًا للتجول في أنحاء البلاد كافة، ومنعت التنقل بين محافظاتها.
وسجلت السلطات التونسية إلى حدود مساء أمس الجمعة، 864 حالة إصابة بفيروس كورونا، و37 حالة وفاة، منذ تفشي المرض في البلاد بداية شهر مارس الماضي، طبقًا لإحصاءات وزارة الصحة التونسية.
قصة التونسيين مع الحجر الصحي ليست جديدة، فخلال انتشار وباء الطاعون في البلاد التونسية سنة 1783، ظهر هذا الإجراء. وصل هذا الوباء حينها عن طريق السفن التجارية القادمة من مدينة الإسكندرية في مصر، وقد خلف عددًا كبيرًا من الضحايا، وذهبت بعض الروايات إلى أن المرض حينها أهلك نسبة من السكان قُدرت بين خمس وثلث مجموع سكان الإيالة التونسية.
خلال انتشار الكوليرا في البلاد وفتكها بآلاف التونسيين لجأ باي البلاد إلى الله حتى يزيح الغمة عن الأهالي
حرصت سلطات تونس في ذلك الوقت، على رأسهم الباي “حمودة باشا”على التصدي للوباء وتطويقه خوفًا من هلاك كل الشعب نظرًا لخطورته، وضمن إجراءات التصدي للوباء لجأ الباي لفرض الحجر الصحي على جميع القادمين من أماكن الوباء، وهو ما يعرف حينها بـ”الكرنتينة”.
كان يوجد بتونس مكان للحجر الصحي “كرنتينة” في البحيرة قرب حلق الواد لمراقبة السفن التي تأتي من الشرق، فإذا ثبت وجود إصابات بإحدى السفن يخضع كل طاقمها للعزل لمدة 15 يومًا كما تحجز السفينة، كان الهدف من هذا الإجراء التأكد من خلو القادم من أي مرض معدٍ قد ينتقل إلى أهل البلد.
عدم وجود أماكن للحجر الصحي في كل موانئ البلاد، حتم على السلطات إجبار كل السفن المشكوك في وجود إصابات بالوباء بها إلى التنقل لميناء حلق الواد ومنع إرسائها بالموانئ الأخرى، وكان هذا الإجراء سببًا في نشوب حرب بين تونس والبندقية دامت سنوات وانتهت بانتصار تونس.
إضافة إلى ميناء حلق الواد، كان الحجر الصحي يطبق بجزيرة زمبرة خاصة على الحجيج العائدين من مكة المصابين بمرض “الكوليرا” وذلك لمدة 40 يومًا، كما خصص السجن المدني بتونس لحجز المرضى بوباء الطاعون سنة 1930.
خصص الباي وأعيان البلاد القصور والبساتين لعمليات الحجر، من ذلك عزل المُشِير أحمد باي الأول “أَمِيرُ الإِيَالَةِ التُونُسِيةِ”، نفسه في بستان لأحد وزرائه في قرطاج ثم انتقل إلى أحد قصوره، فيما لجأ الأوروبيون إلى قنصليات بلدانهم للهروب من الوباء والابتعاد عن الناس.
رفض العديد من العلماء الحجر الصحي
أثار هذا الإجراء جدلًا كبيرًا في صفوف العامة والعلماء، فقد حرم الشيخ محمد المناع التونسي (مالكي المذهب) الكرنتينة، وكان محمد المناع التونسي مدرسًا بجامع الزيتونة، واستند في تحريمه لهذا الإجراء إلى أدلة من الكتاب والسنة النبوية، انتهى فيها إلى أنها من جملة الفرار من القضاء، باختصار أن المرض قضاء الله سبحانه وتعالى ومحاولة اتقائه ومقاومته نوع من الفرار أو عدم القبول بقضاء الله، وذلك دلالة على ضعف الإيمان.
جمع 40 شريفًا اسمهم محمد والتوجه إلى الله
ضمن إجراءات التوقي من خطر الأوبئة التي عرفتها تونس أيضًا، نجد ما ذهبت إليه السلطات التونسية سنة 1850، فخلال انتشار الكوليرا في البلاد حينها، وفتكها بآلاف التونسيين لجأ باي البلاد إلى الله حتى يزيح الغمة عن الأهالي.
يذكر المصلح التونسي أحمد بن أبي الضياف في كتابه “إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان“، أن العالم الفقيه والقاضي الحنفي محمد بن حسين بيرم أشار على الباي “أحمد باي الأول” بانعقاد موكب خاشع، وجمع 40 شريفًا من أبناء الحاضرة اسمهم محمد في جامع الزيتونة المعمور.
أوكلت لهؤلاء الشرفاء البقاء في الجامع من الصباح إلى الظهر لقراءة سورة يس أربعين مرة، ودعاء الله بدعوات حررها لهم محمد بن حسين بيرم، ناقلًا إياها عن بعض كتب الصالحين، حتى يضمحل المرض بفضله ورحمته، فلم يمانع الباي في ذلك.
الاستسلام للقضاء والقدر
سنة 1818، عرفت حاضرة تونس “الطاعون”، وأول من نبه إليه وفق المؤرخ أحمد بن أبي الضياف حكيم من مسلمة الإفرنج اسمه رجب الطبيب، لكن الغريب أن محمود باي لما علم بالموضوع، أمر بضرب الحكيم وسجنه كالمجرمين.
مع انتشار الوباء وفتكه بالمئات، اضطر البعض للتسليم بضرورة الحظر الصحي “كارنتينة” حتى يتم السيطرة عليه وتجنب بلائه، فيما رأى آخرون عدم وجود مهرب من الطاعون وضرورة التسليم للقضاء والقدر.
خوفهم من المرض وعجز الطب عن إيجاد حل لهذه الأوبئة، جعل الناس تلجأ إلى الطب التقليدي
في ذلك الوقت، فر العديد من رجالات الدين المعارضين لقرار الحجر الصحي إلى خارج المدن، وأكدوا للأهالي أن هذه الأوبئة هي قضاء الله ويحرم الهروب من قضائه لذلك لا فائدة من الحجر واتخاذ إجراءات للتوقي منه، باستثناء الدعاء والتضرع إلى المولى تعالى.
رفض أغلب شيوخ وفقهاء الدين آنذاك قرار “الكرنتينة” وإغلاق المساجد والأسواق والمدارس القرآنية ومقامات الأولياء، اعتقادًا منهم أن هذا الحظر سيؤثر على الحياة الاقتصادية والاجتماعية للسكان، وأن لا فائدة منه إلا مزيد من الذنوب.
برر هذا الموقف التفسير السحري الديني الذي يجعل الطاعون أي الوباء طعن جن ليس بمقدور الإنسان مواجهته، وتدعم هذا الموقف السلبي نظرًا لعجز الطب عن إيجاد دواء لهذا الوباء، لذلك نصح الفقهاء بالاستسلام له والصبر عليه وانتظار الموت.
الطب الشعبي
خوفهم من المرض وعجز الطب عن إيجاد حل لهذه الأوبئة، جعل الناس تلجأ إلى الطب التقليدي (الشعبي)، ويقول أحمد السعداوي في كتابه “المغرب الإسلامي في مواجهة الطاعون..الطاعون الأعظم والطواعين التي تلته القرنين 8-9هجري/ 14-15”: “لو رأيت الأعيان ويطالعون من كتب الطب الغوامض ويكثرون في العلاج من أكل النواشف والحوامض”.
لجأ العديد من الناس إلى الطب التقليدي لعلاج مرضى الوباء
يضيف أحمد السعداوي “بخروا بيوتهم بالعنبر والكافور والسعة والصندل وتختموا بالياقوت وجعلوا البصل والخل والطحينة من جملة القوت، وأقلوا من الأمراق والفاكهة وقربوا إليهم الأترج وما شابهه”.
إلى جانب كل هذه الإجراءات، عمد بايات تونس إلى حرق ثياب الموتى وكسوة بيوتهم وغلقها وغسل الغرباء بالمقابر، بالإضافة إلى دفن الموتى في عمق لا يقل عن المترين، وأجبروا أصحاب العقارات على إصلاح محلاتهم أو بيعها.