مع مطلع العام الحاليّ دخلت إيران في حالة عدم اليقين، وحالة عدم اليقين في السياسة الخارجية لديها حسابات معقدة، من حيث خيارات النفقة والمنفعة، ففي الوقت الذي تئن فيه إيران الدولة تحت وطأة فيروس كورونا والعقوبات الأمريكية المستمرة، ما زال المرشد الأعلى علي خامنئي ومعه جنرالات الحرس الثوري لا يبالون بحجم التحدي الذي تعيشه الدولة اليوم، والأكثر من ذلك وصف المرشد الأعلى العام الحاليّ بأنه عام الإنتاج، العام الذي ستحقق فيه إيران الاكتفاء الذاتي في المجالات كافة، وهو توجه يعكس في حقيقته حالة انفصال كبيرة يعيشها المرشد، بين ظروف المجتمع المعقدة واليوتوبيا التي يعيش فيها.
هذه القطيعة بدورها لم تأت من فراغ، بل جاءت كنتيجة منطقية للهزة الكبيرة التي تعرض لها النظام السياسي بعد مقتل قائد قوة القدس في الحرس الثوري قاسم سليماني، ومن ثم أزمة إسقاط الطائرة الأوكرانية وانخفاض أسعار النفط وتصاعد العقوبات الأمريكية وعجز الحلفاء الأوربيين، إلخ
استغل وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف هذه الأزمة للدعوة إلى عدم تحقيق مزيد من الشمولية في النظام السياسي
وفي ظل هذه البيئة وجد النظام السياسي نفسه وحيدًا يصارع على أكثر من جبهة، والأكثر تعرض وكلائه في العراق وسوريا لضربات جوية مستمرة، وفي لبنان لعقوبات متواصلة، وفي اليمن لهدنة مضطربة لم تتضح ملامحها بعد، وعلى هذا الأساس فإن التخبط الذي يعيشه النظام اليوم في مواجهة تداعيات انتشار فيروس كورونا في البلاد، نتيجة طبيعية لكل ما تقدم.
لعبة الشطرنج مع كورونا
لجأ وزير الصحة الإيراني سعيد نمكي إلى استخدام تعبير “لعب الشطرنج”، لوصف موقع بلاده في مكافحة فيروس كورونا، رافضًا التنبؤ بما ستؤول إليه الأوضاع في البلاد، وهنا قال المتحدث باسم وزارة الصحة كيانوش جهانبور إن الأوضاع في إيران لا تدفع باتجاه تبني إستراتيجية المناعة الجماعية، فيما قال المتحدث باسم الحكومة الإيرانية محمود ربيعي إن الحكومة تتابع سيناريو يتناسب مع الوضع الثقافي الإيراني، وذلك ردًا على تحذيرات من موجة ثانية للوباء بعد إصرار حكومي على خفض القيود على بعض الأنشطة الاقتصادية.
وهنا يمكن القول إن إستراتيجية النظام الصحي في إيران كما وصفها المتحدث باسم وزارة الصحة لا تتمثل في السعي لتحقيق المناعة الجماعية، وأضاف “جميع الجهود تتركز على كشف حالات الإصابة، واتخاذ إجراءات مثل التباعد الاجتماعي وتعزيز التوعية والرقابة وفرض القيود للحيلولة دون إصابة القسم الأكبر من أفراد المجتمع وتجنب فرض مزيد من الأعباء على المستشفيات والمراكز العلاجية في البلاد”.
لم تؤد سياسات الإدارة الأمريكية إلى كبح جماح التيار المحافظ في إيران، بل على العكس من ذلك أثارت هذه السياسات حفيظة هذا التيار للهيمنة على كل مجالات الحالة الإيرانية
استغل وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف هذه الأزمة للدعوة إلى عدم تحقيق مزيد من الشمولية في النظام السياسي، وقال إن إيران بحاجة إلى “تدبير منزلي” لمواجهة العقوبات والفيروسات، وعليها إعادة بناء أسلوب حكمها، في الوقت الذي يعتمد فيه بقاء البلاد أكثر من أي وقت مضى على التكنوقراط غير الإيديولوجيين، وشدد على الحاجة للحصول على الدعم من الإيرانيين في الخارج أو حتى الحصول على مساعدات مالية من الأوروبيين عبر آلية الإنيستيكس أو عبر قروض من صندوق النقد الدولي، وأضاف “هذا التوجه هو أحد الخيارات المطروحة لمعالجة الأزمة الراهنة”.
وبخلاف ذلك، فإنه قبل أيام ألقى خامنئي خطابه بمناسبة رأس السنة الإيرانية الجديدة، وقدم ملاحظاته البعيدة المدى عن نموذج الحكم الديني في إيران ورفض المساعدة الأمريكية، بل أشار إلى أن الولايات المتحدة يمكن أن تكون وراء انتشار الفيروس في البلاد.
صراع الأجنحة داخل النظام
في إطار ما تقدم يمكن القول إن هذين الخطابين (وزير الخارجية والمرشد الأعلى) يعكسان حالة من الأزمة المعقدة التي يعيشها النظام السياسي، بل إنه يؤشر إلى خط الصدع السياسي الذي يفصل بين المعتدلين والمحافظين لعدة عقود ماضية، ففي الوقت الذي يسعى فيه المعتدلون إلى إيجاد نظام سياسي أكثر انفتاحًا، وسياسة خارجية تهدف إلى حل النزاعات عن طريق الدبلوماسية، يسعى المحافظون إلى تعزيز الحكم الديني المطلق داخليًا، والقوة العسكرية الصلبة في الخارج، وبين هذين التوجهين ما زالت الخيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للشعب الإيراني بعيدةً عن توجهات الطرفين.
لم تؤد سياسات الإدارة الأمريكية إلى كبح جماح التيار المحافظ في إيران، بل على العكس من ذلك أثارت هذه السياسات حفيظة هذا التيار للهيمنة على كل مجالات الحالة الإيرانية
وبدوره أصبح الرئيس الإيراني حسن روحاني اليوم عرضة للكثير من الضغوط، وهو ما يعقد موقفه السياسي كثيرًا، ففي الوقت الذي يعاني من ضغوط تفشي الفيروس، أصبح اليوم محاطًا بأغلبية متشددة عرقلت الكثير من جهوده، إذ يواجه الرئيس روحاني اليوم حملة كبيرة يقودها رئيس السلطة القضائية إبراهيم رئيسي لمكافحة الفساد، مستندًا إلى دعم التيار المحافظ الذي يمتلك اليوم الأغلبية في مجلس الشورى الإيراني، وعزز موقفه للتأثير بشكل حاسم على خلافة خامنئي البالغ من العمر 80 عامًا.
وبحسب استطلاع أجرته جامعة ماريلاند الأمريكية، أصبح رئيسي الآن أكثر شعبية من روحاني، وهو ما جعل التيار المحافظ المتحكم الرئيس في تقرير مستقبل النظام السياسي حتى أربع سنوات قادمة.
الأكثر من ذلك أيضًا، لم تؤد سياسات الإدارة الأمريكية إلى كبح جماح التيار المحافظ في إيران، بل على العكس من ذلك أثارت هذه السياسات حفيظة هذا التيار للهيمنة على كل مجالات الحالة الإيرانية، مستبعدين التيارين المعتدل والإصلاحي من المشهد السياسي في إيران، بل رفعت من سقف طموحات هذا التيار إلى إمكانية زيادة مصالح إيران الإقليمية إلى أقصى حد، عبر عملية سياسية واحدة ضد الولايات المتحدة تبدأ من العراق، على الرغم من التحدي الكبير الذي فرضه اغتيال سليماني.