توفي الخميس 16 من أبريل/نيسان الأديب التشيلي الكبير لويس سيبولفيدا عن عمر يناهز 71 عامًا في مستشفى أوفييدو الجامعي المركزي بشمال إسبانيا وذلك بعد ستة أسابيع من إصابته بفيروس كورونا المستجد، فبعد يومين من عودته من مهرجان “كورينتس ديسكريتاس” الأدبي في البرتغال الذي أقيم بمدينة بوفوا دي فارزيم شمال البرتغال توجه سيبولفيدا في 27 من فبراير/شباط إلى المستشفى من أجل الفحص وهناك تم تحويله إلى العناية المركزة في مستشفى كوفادونجا بمدينة خيخون الإسبانية وذلك بسبب الالتهاب الرئوي المشتبه به.
وفي وقت لاحق نُقل سيبولفيدا إلى مستشفى أوفييدو الجامعي المركزي لتوافيه المنية هناك بعد تدهور حالته الصحية، يُذكر أن الكاتب التشيلي الأكثر مبيعًا قضى معظم حياته في المنفى بأوروبا بسبب النظام السياسي للديكتاتور أوغوستو بينوشيه.
من هو؟
ولد الأديب التشيلي لويس سيبولفيدا في 4 من أكتوبر عام 1949، وخلال عام 1969 درس الإنتاج المسرحي في الجامعة الوطنية، وفي أثناء الدراسة حصل على منحة جامعية لاستكمال دراسته في موسكو ولكن تم سحبها بعد خمسة أشهر فقط بسبب سوء السلوك، عاد سيبولفيدا إلى تشيلي مرة أخرى مستكملًا نشاطه السياسي في الجامعة، حيث كان زعيمًا للحركة الطلابية في قسم الشؤون الثقافية وبموجب ذلك كان مسؤولًا عن إصدار سلسلات رخيصة للطلاب من أشهر كلاسيكيات الأدب العالمي.
بعد الانقلاب السياسي في تشيلي عام 1973 الذي أوصل الجنرال أوغوستو بينوشيه إلى سدة الحكم سُجن سيبولفيدا لمدة عامين ونصف ثم حصل على إطلاق سراح مشروط من خلال جهود القسم الألماني لمنظمة العفو الدولية وظل قيد الإقامة الجبرية ولكنه تمكن من الفرار.
من مخبأه الذي كان تحت الأرض، أسس سيبولفيدا مجموعة درامية هدفها المقاومة الثقافية، وبعد عام كامل تمكنت السلطات التشيلية من إلقاء القبض عليه وحكم عليه بالسجن المؤبد بتهمة التخريب ومحاولة قلب نظام الحكم، ومرة أخرى تدخل القسم الألماني من منظمة العفو الدولية وخفف الحكم إلى ثماني سنوات سجن.
بعدها غادر سيبولفيدا البلاد واستقر في الإكوادور وهناك شارك في بعثة اليونسكو لتقييم أثر الاستعمار على الهنود الحمر، ومن خلال عمله في اليونسكو تمكن من فهم أمريكا اللاتينية كقارة متعددة الثقافات واللغات وهو الأمر الذي انعكس بشكل واضح على كتاباته ورواياته.
سافر سيبولفيدا إلى ألمانيا فيما بعد بسبب إعجابه بالأدب الألماني وخاصة الرومانسيين مثل نوفاليس وفريدريش هولدرلين وعمل هناك صحفيًا يسافر على نطاق واسع في أمريكا اللاتينية وإفريقيا.
أدب لويس سيبولفيدا
راهن لويس سيبولفيدا بشكل كبير على الواقع الخصب الذي أنتجته أمريكا اللاتينية، بداية من تفاصيل الحياة اليومية ومرورًا بالموروث الشعبي ومخزون الذاكرة، ومن تلك الخامات البكر نسج لنا عوالم حكائية مميزة تمخضت عن واقع مأزوم، ولهذا جاءت أعماله ثائرة لكشف بشاعة النظم السياسية الديكتاتورية ومآسي المجتمعات المقموعة وهو الأمر الذي اختبره الكاتب بشكل شخصي.
ومن أشهر روايات الأديب التشيلي لويس سيبولفيدا:
رواية “العجوز الذي كان يقرأ الروايات الغرامية”
“نهض أنطونيو خوسيه بوليفار يرووانيو على مهل واقترب من الحيوان الميت وتأثر لرؤية طلقات الرصاص وقد مزقته.. بكى العجوز من الخجل شاعرًا بأنه خسيس ومحتقر وغير منتصر بأي شكل في هذه المعركة. وإذ غشّت الدموع والمطر عينيه فقد دفع جسم الحيوان إلى ضفة النهر فجرفته المياه إلى أعماق الغابة نحو أراض لم يقدّر قط أن دنسها الرجل الأبيض”.
لأكثر من 40 عامًا عاش العجوز الإكوادوري أنطونيو خوسيه بوليفار يرووانيو في كوخ بإحدى قرى الغابات الأمازونية في الإكوادور، هناك تعلم كيف ينسجم مع الطبيعة ويشارك هنود الشوار عاداتهم الثقافية والاجتماعية، وكان أنطونيو يقضي كل وقته بين مجالسة الهنود وقراءة الروايات الغرامية التي كان يحضرها طبيب الأسنان.
ولكن بعد ذلك أتى المغامرون الكبار إلى القرية للتنقيب عن الذهب والبحث عن السلالات النادرة من الحيوانات والطيور، وفي أحد الأيام وجد أنطونيو نفسه متورطًا من عمدة القرية في عملية البحث عن قط بري قتل الصيادون صغاره وتحول إلى حيوان مفترس يقتل الرجال ولهذا يجب التخلص منه، وخلال رحلة بحثه مع الصيادين يُدرك أنطونيو بشاعة الإنسان وتعطيله للنظم البيئية، بعدها يجد الصيادون القط ويقتلوه ليبكي عليه العجوز بكل حرقة ثم يعود إلى منزله لقراءة الروايات الغرامية لأنه لن يتمكن بأي حال من الأحوال من مجابهة الصيادين.
بأسلوب مليء بالسخرية يحكي لنا سيبولفيدا في رواية “العجوز الذي يقرأ الروايات الغرامية” التي تُرجمت لأكثر من 35 لغة عن الرجل الأبيض والجرائم التي ارتكبها بحق الشعوب الأصلية والبيئة والحيوانات، وتحديدًا ما ارتكبته الشركات الأمريكية في أمريكا اللاتينية، وقد أتت هذه الرواية كتأثير مباشر لعمل سيبولفيدا في منظمة اليونسكو ودراسته لأثر الاستعمار على شعب الهنود الحمر.
رواية “مذكرات قاتل عاطفي”
“… لماذا تغرق الولايات المتحدّة بالمخدرات الرخيصة الثمن؟”.
– “لأنّني أكرههم، وأرى أنه يجب إفسادهم… إنّه المنقذ الوحيد بالنسبة إلينا نحن الأميركيين اللاتينيين، أتفهم من أجل كلّ مهاجر، من أجل كل مكسيكي، مذلول، عند حدودهم العاهرة…”.
في روايته القصيرة “مذكرات قاتلي عاطفي” يحكي لنا سيبولفيدا قصة قاتل محترف ينفذ عملياته من أجل مبالغ مالية طائلة، وفي نفس الوقت يعيش هذا القاتل قصة حب مع فتاة فرنسية يخفي عنها طبيعة عمله، وأحداث الرواية تدور في ستة أيام فقط يشكل كل يوم فصلًا جديدًا وتتخذ الأحداث مسارين سرديين متداخليين: المسار الأول هو سعي البطل لتنفيذ مهمة قتل شخص يبيع المخدرات بأسعار زهيدة في الولايات المتحدة وهو الأمر الذي أثر على غيره من المروجين.
أما المسار الآخر للرواية فهو خيانة حبيبته له وسفرها إلى المكسيك بصحبة رجل “جعلها ترى العالم بشكل مختلف” على حد قولها في رسالتها التي بعثتها للقاتل، يركز البطل على تنفيذ مهمته ويذهب لقتل الرجل المنشود وهناك تكون المفاجأة، فحبيبته الفرنسية تركته بسبب ذلك الرجل وهنا يقتلها البطل بعد قتله للرجل ليس بسبب الخيانة ولكن لأن القاتل المحترف لا يجب أبدًا أن يترك دليلًا عليه.
هذه المرة يزيد سيبولفيدا من جرعة السخرية في الرواية، إذ يضعنا أمام كم هائل من الأحداث اللامنطقية والمروية بشكل غاية في الجدية، وتذكرنا هذه الرواية بشكل كبير بفيلم الدراما الفرنسي “Breathless” للمخرج الشهير جان لوك غودار حيث يذكرنا قاتل الرواية ببطل الفيلم ميشال بواكارد، كما يتشابه الفيلم والرواية في نفس الأحداث العبثية والمصادفات غير المنطقية.
رواية “قطار باتاغونيا السريع”
جميع قراء لويس سيبولفيدا يعرفون شغفه الحقيقي في الحياة، ليست الكتابة للأسف ولا المسرح، إنه السفر، يعشق لويس السفر والتجوال حول العالم ويهيم حبًا بالاستماع لقصص الشعوب المختلفة، وبطريقة ما يبرع لويس بتحويل كل الأمور التي عاشها إلى أدب وقصص، فمن حبه الكبير للسفر والتجوال جاءت روايته “قطار باتاغونيا السريع” التي يأخذنا فيها الكاتب عبر رحلة طويلة بالقطار بحثًا عن سفينة أشباح، وخلال هذه الرحلة نتعرف على الكثير من تاريخ البلاد التي يجوبها القطار، كما نتعرف على عادات وتقاليد الناس في كل بلد يمر عليه القطار ويحاول سيبولفيدا أن ينقل لنا بين طيات الرواية إحساس السعادة الهائلة للمغامرة الحقيقية.
في هذه الرواية تخلى سيبولفيدا عن سخريته وكتب بتقنية السرد التي طالما ميزت أدباء أمريكا اللاتينية وهي الواقعية السحرية، فمن خلال هذه الرواية وكما عهدنا في السرد اللاتيني يتدخل الواقعي مع المتخيل دون وجود حد فاصل بينهما.
طوال حياته ككاتب كان سيبولفيدا يمارس السخرية من كل شيء في تشيلي، من الجنرالات الفاسدين ومن الفقر ومن طبيعة الحياة ومن المجتمع الذي لم يتمكن من استعادة حقوقه، وفي بعض الأحيان كانت سخريته قاتمة خاصة من أولئك الذين يخافون لأنه كان يريد أن يخبرهم أن الخوف ليس إلا وسيلة للاستعباد وأنه لن يغير شيئًا، في أوقات أخرى كان سيبولفيدا يتخلى عن سخريته ويلجأ للخيال حتى تظل بلاده محفورة في ذاكرته كما يريدها، لا ينساها مهما حدث ومهما بعدت بينهما المسافات.