نشأ مصطلح الشعبوية في الفترة الزمنية الواقعة بين ثلاثينيات وسبعينيات القرن السابع عشر، حيث بدأت إرهاصاته الأولى في روسيا القيصرية والولايات المتحدة وذلك حين انطلقت حركة زراعية في روسيا بميول اشتراكية كانت تهدف إلى تحرير المزارعين من سطوة أصحاب الأراضي خلال عام 1870، وتزامنت تلك الحركة مع انتفاضة الريف الأمريكي حين خرج في احتجاجات ضد شركات السكك الحديدية والبنوك.
وبحلول القرن العشرين تغير المصطلح كثيرًا وأخذ صبغة وطنية حررته من الارتباط بالتوجه الاشتراكي، ورغم أن خبراء العلوم السياسية يقولون إنه من الصعب تحديد المقصود بمصطلح “الشعبوية” لأنه أضحى محمل بمدلولات ومعاني متناقضة، فإن خبراء آخرين يرون أن الشعبوية هي كل خطاب سياسي موجه إلى الطبقات الشعبية في مجتمع ما وقائم على انتقاد مؤسسات الدولة ونظامها السياسي ووسائل إعلامها ونخبتها المجتمعة.
وأشهر مثال معاصر للقادة الشعبوين هو الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فخطابه في حملته الانتخابية كان شعبويًا للغاية، حيث هاجم النخبة السياسية بلغة تتمحور حول الشعب وجمع في خطابه بين الأيدولوجية اليمينية المتطرفة واللغة الشعبوية، وهو ما تجسد بشدة في مقاله الذي كتبه في أبريل/نيسان 2016 بصحيفة وول ستريت حين قال: “الترياق الوحيد لعقود من الحكم المدمر من حفنة صغيرة من النخب هو فرض الإرادة الشعبية في كل قضية رئيسة تؤثر على هذا البلد.. إن الناس على حق والنخبة الحاكمة على خطأ”.
عن هذا المصطلح وتطبيقاته النظرية والعملية يتحدث الباحثان السياسيان كاس مودّه وكريستوبل روفيرا كالتواسر في كتابهما “مقدمة مختصرة عن الشعبوية” الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الذي ترجمه للعربية سعيد بكار ومحمد بكار.
الشعبوية حول العالم
في الفصل الأول من الكتاب يتحدث المؤلفان عن تاريخ مصطلح الشعبوية والتغيرات التي طرأت عليه، ففي البداية كانت الشعبوية تعبر عن مطالب الجماهير ولكن وبشكل ما تغير الخطاب الشعبوي، إذ أصبح يستغله قادة سياسيون يحظون بكاريزما من أجل التلاعب بأفكار الناس وعواطفهم لغايات سياسية، حيث يعتبرون أنفسهم الصوت الوطني الأوحد المعبر عن الإنسان العادي، وعادة ما يميل القائد الشعبوي إلى رفض فكرة التنوع المجتمعي، فهو يؤمن دائمًا بضرورة التعارض بين النخب والشعب، وفي الممارسات السياسية يرتكز الخطاب الشعبوي على التوظيف السياسي لمشاعر الغضب عند الجماهير وخاصة في أوقات الاضطرابات السياسية والكوارث والأزمات الاقتصادية.
في الآونة الأخيرة ظهرت موجة جديدة من الشعبوية في القارة اللاتينية على يد الرئيس المكسيكي أندريس مانويل لوبيس أوبرادور
بعد ذلك يتحدث الباحثان في الفصل الثاني من كتابهما عن الشعبوية حول العالم، فبجانب ترامب يمثل البريكسيت مثالًا حيًا على الشعبوية بسبب معاداته للنخبة السياسية في الاتحاد الأوروبي ولجوئه إلى حل الاستفتاء الشعبي من أجل التعبير عن إرادة الجماهير، وهنا يخبرنا “علم النفس القومي” أن حملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لعبت على وتر “الخوف البريطاني من أوروبا” وأوهام الإمبراطورية القديمة التي لا تغيب عنها الشمس، فكيف يمكن أن تكون هذه الإمبراطورية العريقة عضوًا على قدم المساواة مع دول أخرى بكيان واحد وهو الاتحاد الأوروبي؟
وفي أمريكا اللاتينية ارتبطت الشعبوية باليسار، حيث كان يحشد الشعبويين في أمريكا اللاتنية مثل الأرجنتيني خوان بيرون والفنزويلي هوغو شافيز الأرجنتينية كريستينا كيرشنر والبرازيلي غيتوليو فارغاس أنصارهم من خلال اللعب على وتر الانقسامات الاقتصادية العميقة بين الفقراء الذين لا يملكون والأغنياء الذين يملكون.
وفي الآونة الأخيرة ظهرت موجة جديدة من الشعبوية في القارة اللاتينية على يد الرئيس المكسيكي أندريس مانويل لوبيس أوبرادور والرئيس البرازيلي جايير بولسونارو، حيث عمدا في خطاباتهما السياسية إلى استخدام بطاقة الفساد وأعمال العنف وتخليص المجتمع من عصابات المافيا.
يأتي هذا التحول في الخطاب الشعبوي بالقارة اللاتينية نتيجة النمو غير المثالي للطبقة المتوسطة في أمريكا اللاتينية، فخلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين خرج 70 مليون شخص من أمريكا اللاتينية 40 مليون منهم من البرازيل وحدها من خط الفقر، ومع تراجع وتيرة الصراع اليومي على لقمة العيش فتح انعدام العدالة والافتقار إلى الخدمات العامة الرئيسية الباب على مصراعيه لخلق انقسام جديد في المجتمع يمكن للشعبويين استغلاله بأفضل طريقة ممكنة.
الشعبوية والتعبئة
في الفصل الثالث من الكتاب يتحدث المؤلفان عن “الشعبوية والتعبئة” وفي هذا المجال يقولان إن الزعيم الشعبوي يستخدم عدة أدوات لتعبئة الناس وهي: الحزب السياسي والحركة الاجتماعية والزعامة الفردية والخطاب الجماهيري، هنا يمكننا تذكر ما قاله الباحث الفرنسي غوستاف لوبان في كتابه الشهير “سيكولوجيا الجماهير” الصادر عام 1895، إذ يخبرنا لوبون في دراسته النفسية للجماهير أن الأفكار لا تكون فاعلة إلا إذا تحولت إلى عواطف ولا يمكن للقائد السياسي أن يحرك الجماهير إلا من خلال عاطفته المتطرفة ويضيف لوبون أن الجماهير لا يمكنها أن تعيش دون أمل أو وهم وفي الكثير من اللحظات فإن الناس لا يفضلون معرفة الحقيقة.
مر الكثير جدًا من الوقت على كلمات لوبون، ولكن التحليل بقي نفسه وحين نتحدث عن الخطاب السياسي للشعبوية نخص بالذكر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي تعمد في أثناء حملته الانتخابية اللعب على دغدغة مشاعر الشعب ومحاكاة لغة الطبقة المتوسطة، حيث لم يتكبد ترامب عناء الحديث عن المشكلات السياسية أو تحديات الاقتصاد ولذلك لم يسأم الشعب من خطاباته ولكنه عوضًا عن ذلك كان يجيد الخطاب الاستعراضي بطريقته الجذابة في الإلقاء، وفي وسط الحديث كان يقحم المصطلحات الشبابية ولهذا انحاز له الشعب، فخطابه كان مُسليًا لأنه روج لنفسه بطريقة مسرحية ساخرة.
بالإضافة إلى ذلك يرتكز الخطاب الشعبوي على تحريك المشاعر الوطنية وهو الأمر الذي تجسد في الشعار الذي رفعه ترامب “أمريكا أولًا”، وفي السياق نفسه يمكننا هنا تذكر قول الشاعر المصري الراحل عبد الرحمن الأبنودي في قصيدة أنا الدرويش “ملعون أبوها الحمامة أم غصن زيتون/معمولة لجل الضحايا يصدقوا الجلّاد”.
سلطة الشعبوية تتزايد على حساب الديمقراطية بسبب عدم الثقة في الأحزاب وتزايد وزن العنصر الشخصي في المجال السياسي على حساب مؤسسات الدولة
الشعبوية والديمقراطية
ما العلاقة بين الشعبوية والديمقراطية؟ وهل ثمة تأثير لإحداهما على الأخرى؟ هذا ما يتحدث عنه المؤلفان في هذا الفصل من الكتاب، فرغم أن المصطلحين يتشاركان فكرة محورية ترتكز على أن سلطة الدولة ينبغي أن تقوم على رضا الجماهير، فإن المصطلحين يختلفان في الجوهر، إذ تقوم الشعبوية على تجاوز مؤسسات الدولة الرسمية وكذلك رفض نخبة معينة سواء كانت هذه النخبة حقيقية أم مفترضة، فيتم النظر إليها دائمًا على أنها تشكل عائقًا أمام سلطة الجماهير ويجب إقصاؤها وهو الأمر الذي يمثل توجهًا ضد الديمقراطية.
وعلى جانب آخر يؤكد الباحثان أن سلطة الشعبوية تتزايد على حساب الديمقراطية بسبب عدم الثقة في الأحزاب وتزايد وزن العنصر الشخصي في المجال السياسي على حساب مؤسسات الدولة، إضافة إلى تصاعد دور الإعلام المرئي ووسائل التواصل الاجتماعي، كل هذا أدى إلى صعود سياسيين غير حزبيين يعتمدون على الديماغوجيا الإعلامية والنجومية وهنا لا تنبع شعبوية الزعيم السياسي من الشعب ولكن لأنه يجيد التحدث بلغة الشعب.
في النهاية يذكر الكاتبان أن النقد الموجه للشعبوية من مراكز الأبحاث الليبرالية وخطاب بعض وسائل الإعلام يرتكز على أن الخطاب الشعبوي يستغل الجماهير خاصة البسطاء منهم والعاديين من أجل الوصول للسلطة، ولكن الإشكالية أن نقد الأوساط الليبرالية واليسار الديمقراطي للتيار الشعبوي لا يكون واضحًا في الكثير من الأحيان وهنا يثور التساؤل: لماذا لا تتواصل تلك التيارات مع الجماهير؟ وفكرة أن البسطاء يمكن استخدامهم وتوظيفهم بسهولة تعد طرحًا فوقيًا يمكن أن يؤدي إلى نتائج عكسية تمامًا.