بين فترة وأخرى يعاد استئناف الحديث عن السيادة العراقية المنتهكة، بعد التدخلات الإيرانية والأمريكية بشكل خاص وذلك منذ 2003، لكن مع ازدياد حدة التصعيد بين طهران وحلفائها من جهة والقوات الأمريكية والتحالف الدولي من جهة أخرى بعد اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني في 3 من يناير 2020، أصبح حديث السيادة العراقية من الشعارات التي تتحدث بها الميليشيات الولائية التي تتبع الحرس الثوري الإيراني، خاصة بعد العجز الحكومي عن ضبط العلاقة بين الدولة والميليشيات والتوازن في العلاقة مع طهران وواشنطن.
كما أن العمليات الأمريكية والقصف الجوي بعد تداعيات الاغتيال، أحدثت توترًا في العلاقة بين بغداد وواشنطن، مع الاتهامات الحكومية لواشنطن بانتهاك السيادة عن طريق التحليق بطيران غير مرخص والقيام بعمليات قصف لمقرات الميليشيات في العراق بعدد من المناطق، لكن في المقابل، لا نسمع نفس الأصوات تدين تدخلات إيران المفضوحة، التي كان آخرها زيارة الأمين العام لتشخيص مصلحة النظام الإيراني علي شامخاني أو زيارة خليفة سليماني، إسماعيل قآني، وتدخلاته في تشكيل الحكومة العراقية ورفض المكلف السابق لرئاسة الوزراء عدنان الزرفي وقبول سابقه توفيق علاوي.
هل العراق دولة ذات سيادة؟
من الأكاذيب التي تكذبها الدول على نفسها هو ادعائها بأنها دولة ذات سيادة، فليس هناك سيادة كاملة لدى أي دولة من حيث اتخاذ قراراتها بمفردها دون أن تتأثر بمحيطها الإقليمي والدولي والحاجة للدول الأخرى في زمن العولمة، فهي سيادة بنسب متفاوتة، فليس هناك دولة في العالم ليست بحاجة إلى الدول الأخرى وتتخذ جميع قراراتها من دون ضغوط وتأثيرات دول وشركات العالم من حولها.
فماذا يتبقى من سيادة الدول في العالم أمام الصواريخ العابرة للقارات وعصر الاتصالات والإنترنت والاقتصادات المترابطة والعولمة والتجسس، إلخ، الذي جعل العالم قرية صغيرة تتفاعل معها الأحداث أولًا بأول، فماذا تبقى من السيادة أمام الحاجة الغذائية والأمنية والاعتمادية المتبادلة، خاصة بالنسبة لدول العالم الثالث كالعراق الذي سينهار دون دعم الولايات المتحدة الاقتصادي والمالي والعسكري.
إن السيادة في العراق آخر الأكاذيب التي تكذبها حكومة منقوصة السيادة والصلاحيات، فلم تعد هناك “دولة” أساسًا في العراق، إنما “سلطة” فقط أو شبه دولة وهي في مرحلة انحدار مستمر نحو الفشل، وستنهار دون الدعم الدولي والأمريكي بشكل خاص، فما يجري هو الصراع على النفوذ والسلطة بعيدًا عن سياقات وآليات الدول ومساراتها الرسمية، بسبب انفلات السلاح وعجز الحكومة عن وضع حد لتدخلات طهران ووكلائها وسيطرتهم على القرار، ناهيك عن ضغوط سياسات واشنطن لتقويض النفوذ الإيراني، فهي سياقات يَفرضها منطق القوة في صراع النفوذ، فالكل يتدخل في شؤون الدولة العراقية صاحبة الحدود المشرعة، لأنها لم تَعد دولة
لقد أصبحت سيادة العراق على لسان الميليشيات مادة للمزايدة الإعلامية، وعلى لسان المسؤولين وقادة الكتل والنواب أشبه ما تكون بحديث المراهق عن الرجولة، فتراه دائمًا يقول “أنا رجل!” ليس لشيء إلا لأن لديه شكًا بعدم القدرة على تولي مهام كبيرة، فالعراق والدول الضعيفة من دول العالم الثالث وأي دولة لا تؤدي مهامها بشكل صحيح والخدمات المرضية لأبنائها، تتبجح بالسيادة المستباحة تردد مقولة نحن دولة مستقلة ذات سيادة، لكي يتحمل الرأي العام المزيد من الفشل سواءً حفظ السيادة أم تقديم الخدمات.
السيادة وحكومة الكاظمي
إن من أهم النقاط القليلة التي ركز عليها المكلف الثالث مصطفى الكاظمي بعد ماراثون التكليف، هي السيادة العراقية وركز عليها بشكل مبالغ به، كونها فعليًا تشغل الرأي العام جراء التدخلات الإيرانية وردات الفعل الأمريكية المصاحبة، فجزء من مهام الكاظمي في هذه المرحلة هي “إعادة التوازن” للعلاقات العراقية الأمريكية الإيرانية ووضع حد للتدخلات الإيرانية التي تتدخل بشكل فج ومفضوح عن طريق حرسها الثوري، على عكس التدخلات الأمريكية الذكية التي لا تترك لها أثرًا مفضوحًا وتتدخل وتؤثر وفق السياقات الرسمية وعبر المؤسسات الحكومية وتقديم الدعم والتهديد بقطعه، فواشنطن تدعم حكومة الكاظمي وتضغط لجعل التدخلات الإيرانية وفق السياقات الرسمية فقط، أي لتقديم تعامل إيران الدولة مع الحكومة وليس إيران الحرس الثوري.
أخيرًا، إن تمكين السيادة العراقية يعتمد بشكل أساسي على قوة الدولة ووطنية قادتها، والعراق متراجع في جميع معطيات القوة العسكرية والاقتصادية والتجارية والمالية، إلخ ويعتمد على دعم الآخرين بشكل أو بآخر، وتعاني الدولة من سيطرة حلفاء إيران غير الوطنيين بالضرورة، وهو ما يعني لا سيادة عراقية على أرضه وستبقى الدولة مرتعًا للتدخلات الإقليمية والدولية وساحة للصراع.