شهدت السنوات الأخيرة على وجه الخصوص غيابًا أو تغييبًا للقضية الفلسطينية من الدراما العربية، فيما ألقت معظم شركات الإنتاج بالكرة في ملعب القنوات والجمهور هربًا من الخسارة وصعوبة التسويق، في محاولة لتبرئة ساحتها من سهام النقد الموجهة إليها بسبب حالة الجفاء الشديد بين القضية الأم والدراما العربية.
ومنذ الانتفاضة الأولى، ثمانينيات القرن الماضي، عانت الدراما التليفزيونية العربية من نقص حاد في الأعمال التي تتناول القضية الفلسطينية حيث لم يُنتج عنها إلا عدد محدود من المسلسلات، ومع اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000 شهدت القنوات العربية المختلفة زيادة ملحوظة في الأعمال المكرسة للقضية أو التي تتناول الجانبين التاريخي والإنساني لها، لكن سرعان ما تلاشت القضية من الخريطة الدرامية منذ ثورات الربيع العربي 2011.
غير أن الموسم الدرامي لرمضان الحاليّ 2020 من المتوقع أن يشهد عودة حميدة للقضية الفلسطينية على الساحة الفنية مرة أخرى، بعد غياب دام أكثر من عشر سنوات تقريبًا، من خلال عملين على الأقل عن القضية وشعبها، وإن لم يتخذا بعدًا سياسيًا إلا أنهما أعادا القضية مجددًا للمنازل العربية عبر الشاشة الصغيرة.
عودة متأخرة
العمل الأول الذي من المقرر أن عرضه بعد أيام خلال شهر رمضان، عمل أردني الإنتاج، يحمل اسمه “الخوابي“، وكان مقررًا له العرض العام الماضي، إلا أن أسبابًا إنتاجية أجلت عرضه إلى رمضان من هذا العام، وهو قصة مقتبسة عن ثلاث قصص عالمية (تاجر البندقية، الحب في زمن الكوليرا، الجميلة والوحش) في تركيبة ممتعة وشيقة وفريدة وغريبة تدور أحداثها في قرية متخيلة، للكاتبة وفاء بكر، وإخراج محمد علوان، وإنتاج مؤسسة عصام حجاوي للإنتاج والتوزيع الفني.
المسلسل وإن كان لا يتعرض للقضية الفلسطينية في بعدها السياسي ونقطة الصراع مع الكيان الصهيوني، إلا أنه ارتكز على فترة ما قبل النكبة، مسلطًا الضوء على الريف الفلسطيني بكل عاداته وتقاليده، مستعرضًا العديد من القصص التراثية التي شهدتها تلك المنطقة قبل عام 1948.
من جانبه يرى مخرج العمل محمد علوان أن مسلسل الخوابي بداية لإنتاج المزيد من الأعمال الريفية الفلسطينية، موضحًا في تصريحات له أن هذه التجربة “تتيح الفرصة للدراما الأردنية لتقديم إنتاجها بصورة مختلفة عن الأعمال البدوية التي أثبتت تميزها ونجاحها طوال سنوات ماضية”.
العمل يقدم للعالم العربي الهوية الفلسطينية بصورة اجتماعية عن فترة زمنية غير موثقة، كما تمت الاستعانة بمدقق للهجات بسبب صعوبة اللهجة على بعض الفنانين الأردنيين، حيث تطلب العمل حديث الممثلين باللهجة الريفية، وتدور أحداث المسلسل في ثلاثين حلقة.
أما المسلسل الثاني فهو بعنوان “حارس القدس” ويتناول القضية الفلسطينية من خلال استعراض قصة حياة ونضال مطران القدس الراحل هيلاريون كابوتشي، وهو من أعمال السيناريست السوري المخضرم حسن م يوسف، وإخراج باسل الخطيب، وبطولة الممثل السوري رشيد عساف.
ومما يميز هذا العمل أنه الأول من نوعه عربيًا أن تكون الشخصية الرئيسية فيه رجل دين مسيحي، ويبرز المسلسل الكفاح الطويل للمطران الراحل منذ طفولته في مدينة حلب السورية حيث ولد، والتحاقه بالكنيسة وتدرجه في مناصبها حتى وصوله إلى منصب مطران القدس في الستينيات وتعاطفه مع شعب فلسطين وقضيته من منطلق قومي عربي.
ويعتمد المسلسل في محوره الرئيسي على تعاون المطران مع المقاومة الفلسطينية خاصة بعد احتلال الصهاينة للقدس عام 1967 وهو الأمر الذي أدى إلى اعتقاله وسجنه لأربع سنوات في معتقل صهيوني قبل أن يتدخل الفاتيكان ويتوسط للإفراج عنه، ثم ينتقل بعد ذلك لسرد خروج المطران من السجن إلى المنفي في الفاتيكان واستمرار دعمه للمقاومة في كل من لبنان وفلسطين رغم بعده عنها ومشاركته في أسطول الحرية الداعم لغزة.
جدير بالذكر أن الدراما الفلسطينية نشطت خلال الفترة ما بين ثمانينيات القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة، حيث شهدت الساحة العديد من الأعمال التي تناولت القضية الفلسطينية من بديها التاريخي والإنساني، بجانب البعد السياسي وتعزيز روح المقاومة والتصدي لقوات الاحتلال.
يأتي على رأس تلك الأعمال مسلسلات لجأت إلى التاريخ للتعبير عن الواقع مثل مسلسلي “البحث عن صلاح الدين” و”صلاح الدين الأيوبي” وكلاهما أنتج عام 2002 ومسلسلات أخرى استعرضت البُعد الاجتماعي للقضية مثل المسلسل الملحمي “التغريبة الفلسطينية” الذي أبدعه كل من الكاتب وليد سيف والمخرج حاتم علي عام 2004 الذي يروي ما حدث لفلسطين وشعبها على مدار ثلاثين عامًا من خلال ثلاثة أجيال مختلفة من أسرة واحدة.
وكان للمخرج الفلسطيني السوري الشهير باسل الخطيب الريادة في الإخراج الدرامي للأعمال التي تطرقت للقضية، منها مسلسل “عائد إلى حيفا” المقتبس عن رواية بنفس الاسم للكاتب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني، وكذلك أعمال تناولت رموز المقاومة الفلسطينية مثل مسلسل “عياش”، إضافة إلى مسلسل “أنا القدس” الذي تناول ما حدث للمدينة المقدسة على مدار نصف قرن تقريبًا.
لكن مع بداية ثورات الربيع العربي 2011 شهدت خريطة الدراما تراجعًا كبيرًا فيما يتعلق بالتناول الفلسطيني، حيث لم تشهد السنوات التسعة الماضية أي أعمال تذكر عن القضية في ظل تركيز صناع الدراما ومنتجيها على تقديم أعمال تتناول انعكاسات الانتفاضات العربية على المجتمعات التي قامت فيها، بجانب الاعتماد على الأعمال التي تعزف على وتر الإثارة والتشويق بهدف الربح وتحقيق المكاسب المادية.
ما أسباب الغياب؟
كثير من النقاد أرجعوا غياب القضية الفلسطينية عن الدراما العربية لأسباب عدة على رأسها انشغال الأخيرة بالقضايا الاجتماعية وما يسمى بـ”الإرهاب”، بجانب انعكاس الأجواء السياسية العامة التي تخيم على أرجاء المنطقة على خريطة الدراما، وهو الرأي الذي ذهب إليه الناقد الفني يوسف الشايب الذي أكد أن القضية الفلسطينية أصبحت لا تحتل سلم أولويات الإعلام العربي.
الشايب في تصريحات له أشار إلى أن اتجاه الدراما العربية أصبح يركز على القضايا المحلية والمواضيع الاجتماعية، بعيدًا عن السياسة، حتى لا يدخل المنتجون في صراع الخلافات السياسية وتعقيداتها، وتمثلت القضية المتفق عليها في الدراما بمحاربة التطرف والإرهاب.
الرأي ذاته اتفق معه فيه المخرج الفلسطيني بشار النجار، قائلًا: “المجتمعات العربية تعج بالقضايا الداخلية التي تحتل أولوية في المعالجة الدرامية”، مبرئًا المنتجين والمخرجين العرب من التسبب بغياب القضية الفلسطينية عن الدراما العربية، موجهًا أصابع الاتهام إلى “ذوي الاختصاص الفلسطينيين، الذين قصروا في إنتاج الدراما المتعلقة بهذا المجال”.
وأشار المخرج الفلسطيني إلى أن من يتحكم في المضمون الدرامي هو الممول وتوجهاته الفكرية والسياسية، مضيفًا “هناك أجندات معينة تفرض على بعض الفضائيات، تتمثل بعدم بث أي عمل يتناول القضية الفلسطينية، كما أن ضعف شركات الإنتاج في تمويل هذه الأعمال أدى إلى تراجع إنتاج مسلسلات تتناول القضية”.
ورغم وجود بعض المحاولات القليلة لسد هذه الثغرة من خلال إنتاجات درامية في الضفة الغربية وقطاع غزة، فإنها لم تنجح بالشكل المطلوب، بحسب الكاتب الصحفي أشرف أبو خصيوان الذي علل ذلك بـ”غياب الفكرة الناضجة والإمكانات المالية”، موضحًا “صورة الفلسطيني اقترنت بالدم، وهذا ما لا يبحث عنه المشاهدون هذه الأيام، لذلك غابت المشاهد الإنسانية المؤثرة، ناهيك عن عدم وجود بيئة سينمائية فلسطينية داعمة للمواهب والقدرات الفنية، للقيام بأعمال درامية وسينمائية تخدم القضية الفلسطينية بشكل مؤثر”.
وفي السياق ذاته أشار الناقد السينمائي سعيد أبو معلا، إلى أن هناك تطورًا في الدراما الفلسطينية، حيث حاول عدد من الأعمال معالجة قضايا محلية ووطنية، إلا أنها كانت “مفعمة بالأيديولوجيا، وخطابها انفعالي، وضعيفة في السيناريو والأداء، في ظل عدم وجود مدرسة متخصصة بالتمثيل والدراما”، لافتًا إلى تفوق السينما الفلسطينية وتقدمها بأشواط على الدراما، بحكم أن من ينتجها من المتخصصين، بالإضافة إلى دعمها من مؤسسات غربية.
وفي ظل العودة الحميدة للقضية الفلسطينية على خريطة الدراما العربية بعد سنوات من الغياب يبقى السؤال: “هل من الممكن أن تكون تلك الأعمال فاتح شهية لجهات الإنتاج المختلفة في العالم العربي للعودة لصناعة أعمال عن فلسطين من جديد؟ أم أن ما حدث لا يعدو كونه استفاقةً مؤقتة وذرًا للرماد في العيون وفقط؟ هذا ما سيتم الإجابة عنه خلال الأشهر القليلة القادمة.