تعد إندونيسيا من الدول القليلة التي تشتهر بثراء الطرق والمذاهب الدينية فيها، خاصة الصوفية، إذ يوجد بها ما يزيد على 44 طريقة موزعة على مدن البلاد ومناطقها المختلفة، وتلعب دورًا كبيرًا – بجانب الأنشطة والفعاليات الدينية – في تعزيز حالة التماسك المجتمعي وتوحيد الصف في مواجهة الأفكار المتطرفة.
كما تمثل البلاد أحد أكبر مراكز الثقل السكاني الإسلامي في العالم، إذ يتجاوز تعداد سكانها 260 مليون نسمة، تتجاوز نسبة المسلمين منهم قرابة الـ90% من العدد الإجمالي، ورغم تباين الآراء بشأن توقيت وكيفية دخول الإسلام لإندونيسيا، فإن الرأي الأرجح وفق ما ذهب المؤرخون يعود إلى القرن الأول الهجري والثامن الميلادي عن طريق التجار العرب والمهاجرين الهنود.
الباحث توماس أرنولد في كتابه (الدعوة إلى الإسلام)، يشير إلى أنه في بعض المذكرات الصينية عام 684 ميلادية، عثر على داعية عربي في سومطرا الشمالية (إحدى مناطق إندونيسيا)، موضحًا أن المتصوفة كانوا من الدعاة الأوائل الذين نشروا الدعوة في هذه المنطقة.
ومما يعزز هذا الرأي ما أشار إليه الدكتور الحاج عبد الملك أمر الله، الشهير بالبروفيسور حمكا، أحد كبار علماء إندونيسيا، في كتابه (التصوف: تطوره وتطهيره) الذي نشره عام 1984، حيث ذهب إلى أن مكة كانت مقصد طلاب العلم الإندونيسيين وخصوصًا في الفترة بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر الميلاديين، وكانت مادة التصوف مهمة في تلك الأيام، حتى صار الالتزام بطريقة من الطرق الصوفية عند العلماء والطلبة الإندونيسيين عادة يعتقدون أنها تنمي نزعتهم الروحية وتقويهم، وعندما كان يعود هؤلاء إلى بلادهم كانوا يحملون العلم الشرعي، ويمارسون طريقة واحدة أو أكثر.
وفي أعقاب تفجيرات بالي التي نفذتها الجماعات المسلحة عام 2002، أصبح وضع إستراتيجية شاملة للتعامل مع الإرهاب إحدى أولويات الأمن القومي الأكثر إلحاحًا في إندونيسيا، ومن ضمن تلك الإستراتيجية كان الاستعانة بالتدين الناعم من أجل تقليل حدة الميل للانتماء للتيارات المتطرفة لدى الشارع الإندونيسي، وهو ما حدث بالفعل خلال السنوات الأخيرة، لتقدم تلك الفرق دورًا آخر غير الذي اعتاده الناس في العموم.
44 طريقة صوفية
أسست “حركة نهضة العلماء” أكبر الحركات الدينية في إندونيسيا، (التي تعتبر نفسها نفسها امتدادًا للمدرسة الأشعرية، التي أسسها الشيخ هاشم أشعري سنة 1926) جمعية تحت مسمى “الطريقة المعتبرة” وذلك عام 1957، كان هدفها تنظيم أنشطة الطرق الصوفية في البلاد.
الجمعية وضعت العديد من الشروط من أجل الاعتراف بالطرق الصوفية المنضوية تحت لوائها منها التزام الطريقة بأحد المذاهب الفقهية الأربعة الشهيرة (الحنفية، المالكية، الشافعية، الحنبلية)، وأن يكون الشيخ أخذ الطريقة والعهد عن سلفه، ومُجازًا عليها، وألا يخرج عن سياقها العام.
ومن بين العديد من الطرق التي تقدمت للحصول على عضوية الجميعة تم الاعتراف بقرابة 44 طريقة، غالبيتها سُنِّيَّة، وبعضها شيعية، مثل الطريقة البكتاشية، وهي طريقة صوفية علوية أقرب إلى التشيُّع، تعاليمها أُخِذَت عن كثير من الطرق الصوفية، نسبة إلى الحاج بِكْتَاش وَلِيّ، المُتَوَفَّى سنة 1270.
ومن أكثر الطرق الصوفية حضورًا في الشارع الإندونيسي، الطريقة الواحدية، وهي طريقة نشأت من الداخل ولادةً ونضجًا وانتشارًا، كما أنها من الطرق الأصيلة غير المتفرعة عن طريقة صوفية أخرى، وعمر هذه الطريقة لم يبلغ أكثر من 33 عامًا، ولاقت رواجًا وإقبالًا من مسلمين كُثر هناك.
تعتمد تلك الطريقة على عدد من الأوراد التي تسمى بالصلوات الواحدية، أَلَّفَهَا مؤسسها “كياهي الحاج عبد المجيد معروف” (1920 – 1989)، وتختلف الواحدية عن بقية الطرق في أنها لا تفرض على أتباعها البَيْعَة، التي هي أصل من أصول الطرق الأخرى، كما أن الواحدية لا تفرض على المُرِيد الخلوة أو العزلة الصوفية.
وعن شروط قبول الأعمال التعبدية ترى تلك الطريقة أنها لا بد أن تكون مبنيةً على أساس: “لله بالله – للرسول بالرسول – للغوث بالغوث”، وتعني الواحدية بذلك، أن يكونَ العمل لله وحده لا يُشرك فيه أحد، أو أن الله هو الذي خلق ذلك العمل، وألا يشعر المُريد بأن له قوة من نفسه، وأن ينويَ فعل ذلك، استجابةً للرسول أو “الغوث”، أي القطب، وهو أعلى مرتبة يصل لها الصوفي.
ثم تأتي الطريقة القادرية في المرتبة الثانية من حيث الانتشار والشهرة، وتُنسب إلى عبد القادر الجيلاني (1078 – 1166)، وينتشر أتباعها في بلاد الشام والعراق ومصر وشرق إفريقيا، وكان لرجالها أثر كبير في نشر الإسلام بإفريقيا وآسيا، وفي الوقوف أمام المد الأوروبي الزاحف إلى المغرب العربي.
ويعد الشيخ إسماعيل ظفي أحد أبرز من ساعد في نشر تلك الطريقة في القرن السادس الهجري، وذلك حين ارتحل إلى “آتشيه” بشمال سومطرة الإندونيسية، وهنا لاقت الطريقة رواجًا، حتى أصبحت الطريقة الأشهر في إندونيسيا، ومن أبرز شيوخها الشيخ الإندونيسي حمزة الفنصوري، أول مؤلف في الصوفية بإندونيسيا.
وأخيرًا.. تأتي الطريقة التيجانية لتكمل أضلاع المثلث الصوفي الثلاث الأشهر في البلاد، وهي طريقة سنية في المقام الأول، وتُنْسَب إلى أبي العباس أحمد بن محمد بن المختار بن سالم التيجاني (1737 – 1815)، عرفت طريقها للبلاد عام 1920، وقُيدت كطريقة صوفية فيها عام 1931، عقب سنوات عدة من وجود مريديها، دون اعتراف رسمي، وينتشر أتباعها في شمال إفريقيا ومصر وفلسطين والشام والسودان وموريتانيا والسنغال ونيجيريا وبعض البلدان الأخرى.
الصوفية.. القوة الناعمة
تغلغلت الصوفية في نسيج المجتمع الإندونيسي على مدار عقود طويلة مضت، استطاعت خلالها أن تنفذ إلى عضد الدولة في قمة هرمها، بعدما استقر في يقين الجميع الدور المهم المنوط بها أدائه، وفق ما ذهب إليه حلمي إحسان الحق، الباحث الإندونيسي والدارس بجامعة الأزهر والمقيم بالعاصمة المصرية القاهرة.
وقال إحسان الحق في حديثه لـ”نون بوست” إن العديد من المؤشرات والمظاهر تعكس حجم هذا النفوذ للصوفية ورجالها، مستندًا في ذلك إلى الثقة الكبيرة التي منحتها النظم الحاكمة في البلاد لقيادات الصوفية، فالشيخ شمس الدين السومطراني مثلًا، وهو أحد مشاهير الطريقة، كان رئيس الوزراء لدولة أتشيه الإسلامية (إندونيسيا حاليًّا) التي كانت تلك الأيام في حكم السلطان إسكندر مودا.
وأضاف الباحث الإندونيسي أن السومطراني كان يجمع بين المهام الكبيرة في آن واحد دون أن يؤثر ذلك على شغفه بتعلم أمور الدين، فكان يدير وبنجاح لافت للنظر مملكة أتشيه الإسلامية الواسعة النفوذ، وفي نفس الوقت الرئاسة في العلوم الدينية والشرعية، وخاصة علم التصوف، كما كان أديبًا يحتل المركز الثاني بعد شيخه حمزة الفنصوري.
كذلك لعب الشيخ نور الدين الرنيري، دورًا كبيرًا في الدولة الإندونيسية فكان بمثابة شيخ الإسلام الذي بذل كل جهوده في نشر الإسلام وتعاليمه، وحارب فيها تعاليم الوجودية التي يراها مذهبًا فاسدًا يخرج صاحبه عن الملة، وفي المجمل كان من الصعب أن يوجد عالم صوفي كبير دون أن يشارك سلاطين البلاد أو ملوكها ويساعدهم في أمور الدولة، على حد قول السومطراني.
وفي أبريل 2019 أعلن كبار ممثلي الزوايا والمؤسسات الصوفية حول العالم، من العاصمة الإندونيسية “جاكرتا” تدشين الاتحاد العالمى للتصوف، بشكل رسمى، واتفق أعضاء الاتحاد الجدد على تدشين جامعة صوفية وإطلاق قناة فضائية، تهدف إلى نشر التصوف السني حول العالم.
محاربة التطرف
في أعقاب التفجيرات التي وقعت في 12 من أكتوبر 2002 في منطقة كوتا السياحية في جزيرة بالي الإندونيسية، وأسفرت عن مقتل 202 شخصا، وتبنتها الجماعة الإسلامية في جنوب شرق آسيا وتنظيم القاعدة، وضعت السلطات الإندونيسية إستراتيجية شاملة للتعامل مع الإرهاب.
ومنذ تلك التفجيرات التي تعد الأكثر دموية في تاريخ البلاد وما تبعها من اعتداءات أخرى على مدار 18 عامًا أطلقت الحكومة الإندونيسية ما أُطلق عليه “نموذج العدالة الجنائية“، حيث جرى التعامل مع الإرهاب بوصفه جريمة من خلال ذلك النهج الشامل الذي يوظف كل أركان الدولة والمجتمع لمناهضة هذا الفكر المتطرف.
فعند إنشاء “الوكالة الوطنية لمكافحة الإرهاب” عقب تفجيرات جاكرتا عام 2009، كانت تلك المرة الأولى التي تتضافر فيها جهود الشرطة والجيش ووكالات الاستخبارات، بجانب القوى الشعبية لتأسيس هيئة أكثر تنسيقًا وإستراتيجية وطنية لمكافحة الإرهاب بمفهومه الأعم.
ورغم الوضعية الحرجة التي باتت فيها البلاد بسبب تلك التفجيرات تصاعدت معها الدعوات لتقليص التدخل العسكري لمكافحة الإرهاب رغم دعوة الرئيس جوكو ويدودو علنًا إلى دور أقوى للجيش عام 2017، حيث مارست منظمات حقوق الإنسان في البلاد ضغوطًا لدعم نموذج العدالة الجنائية ووضع حدود لتغول الجيش في هذه الإستراتيجية.
وهنا وجدت السلطة في الصوفية ضالتها في مخاطبة العقل المجتمعي واستمالته للتقليل من سيطرة الخطاب المتشدد الذي أثر بشكل كبير على عقلية الكثير من الشعب الإندونيسي لا سيما صغار السن، فأولت الدولة اهتمامًا غير مسبوق بالطرق الصوفية بما لا يتنافى مع احترام حقوق الأديان والمذاهب الأخرى، وأشركت بعض قادتها في العملية السياسية.
بجانب ذلك فتحت إندونيسيا أبوابها لاستقبال وفود الطرق الصوفية من البلدان الأخرى، إضافة إلى عقد بروتوكولات تعاون مشترك مع العديد من الهيئات المرتبطة بالشأن الصوفي، مثل الأكاديمية الدولية للتصوف الإسلامي التي عُقد معها بروتوكول تعاون، لنشر الخطاب الديني المتسامح وتفكيك الخطاب المتطرف الذي أنتجته التنظيمات الإرهابية، إلى جانب عقد محاضرات عن دور التصوف السُّنِّي التي يحرص على حضورها العديد من الشخصيات الدينية والسياسية والعسكرية بإندونيسيا.
ومع مرور الوقت نجح هذا النهج الجديد بالتوازي مع الجهود المبذولة من قوات الجيش والشرطة في احتواء الموقف قدر الإمكان وتخفيف معدلات الجريمة المتطرفة، في ظل تزايد أعداد المريدين لتلك الطرق التي وجدوا فيها المرونة النسبية والتعايش مع تطورات العصر مقارنة بالخطاب المتشدد الذي تنتهجه الجماعات المسلحة في البلاد وخارجها.