“اكتسبوا مهارات عسكرية”..”تعاملوا بوحشية لا يمكن تجاهلها خلال الحروب والعمليات التي اشتركوا بها”..”اندمجوا مع شبكات جهادية عالمية، واحتمال تورطهم في أعمال إرهابية من جديد أيضًا أمر لا يمكن تجاهله خاصة أنه من المستحيل عمليًا مراقبة كل شخص طوال الوقت”.. هذه جملة من تبريرات أغلب دول العالم وخاصة البلدان الأوروبية التي رفضت إعادة أبناء تنظيم داعش إلى أوطانهم الأم مرة أخرى بعد انهيار أحلامهم في سوريا والعراق وتضييق الخناق عليهم، ورغم هذه المخاوف الحقيقية، فإن دولة واحدة سبقت الجميع وأصبح لها تجربتها الخاصة في إعادة أبناء التنظيم واحتوائهم هي “كازاخستان”.
أزمة العائدين من التنظيم
تفاقمت مشكلة العائدين من تنظيم داعش، حين تم السيطرة على مقر خلافتهم السابق في شمال شرق سوريا، وبعد القبض على الكثير منهم أصبحوا يعيشون الآن في مخيمات بنفس المنطقة التي لا تبتعد كثيرًا عن الحدود التركية والعراقية، ومنهم رجال ونساء وأطفال من جميع الجنسيات الذين التقوا سابقًا على حلم الدولة الطامحة، وبعدما تفرقت بهم السبل طالب البعض منهم بالعودة إلى بلده الأم وخاصة أصحاب الجنسيات الأوروبية إلا أن رفض أغلب بلدان العالم إعادتهم شكل مشكلة كبرى.
الخوف من عقيدة داعش وصعوبة إعادة إدماج الأطفال والنساء كان حديث كل الأجهزة الأمنية بالعالم، فكيف ستتعامل معهم دون إجراءات أمنية خاصة واتفاقات دولية جديدة للتعاون القضائي، تقضي على بأس الجيل الثاني من التنظيم الذي ولد في كنف المعارك وبعضهم تورط في السبي والذبح أمام الكاميرات.
يقلل البعض من حساسيات الأزمة وتقديرات الأجهزة الأمنية المبالغ فيها ربما، ويتصور أن المشكلة سهلة، ويشكل التنظيم بمخيلته تشكيلات صغيرة يمكن السيطرة عليها، لكن الاندهاش من ردود الفعل العالمية سيختفي تمامًا عندما تعلم أن المنطقة التي سيطر عليها تنظيم داعش خلال أوقات توهجه، كانت تشكل مساحة دولة بحجم إيطاليا، حكموا فيها ملايين من البشر بين سوريا والعراق، كما كان لهم وجود هائل رقميًا وأغرقوا الشبكة العنكبوتية بدعايا تكشف امتلاكهم تصورًا كاملًا لنوعية الحياة في ظل حكمهم.
المركز الدولي لدراسة التطرف (ICSR) وفي مسح شامل أجراه على أعضاء التنظيم الذين ينتمون إلى 80 دولة، أكد أن من تبقى منهم حتى نهاية زوال دولة داعش ولم يقتلوا أو يعودوا عن أفكارهم هم الأخطر على الإطلاق، لأنهم الأكثر حماسة للتنظيم وأشد الأعضاء في الالتزام الأيديولوجي والمهارات العملية، لهذا يشكلون تهديدًا محتملًا عند عودتهم إلى بلادهم.
استند المركز إلى تصريحات عبد الكريم عمر، أحد أبرز المسؤولين في قوات سوريا الديمقراطية التي تضم ميليشيات كردية وعربية وتحظى بدعم أمريكي، وأفصح فيها عن جنسيات ما يقرب من 800 مقاتل أجنبي، بصفوف تنظيم الدولة من نحو 50 دولة.
أكد عمر آنذاك أن منهم ما لا يقل عن 700 امرأة و1500 طفل بمعسكرات الإيواء، وحدد هويات بعضهم ومنهم الشافعي الشيخ وأليكساندا كوتي، ويعتقد أنهما عضوان بارزان في فرقة إعدام تابعة لتنظيم الدولة عرفت باسم “الخنافس”، كانت مسؤولة عن إعدام الرهائن الغربيين فقط.
عودتهم.. خطأ أم صواب؟
قبل استعراض التجربة الكازاخستانية، يجب التأكيد أن بعض المراكز البحثية والحقوقية العالمية تعتبر رفض البلدان الغربية على وجه التحديد إعادة أبناء التنظيم مرة أخرى، خطأ كبيرًا، فالدول بمنظورهم يجب أن تتحمل دائمًا المسؤولية عن مواطنيها، وخاصة البلدان التي تملك نظمًا قانونية قوية مثل الولايات المتحدة والكثير من بلدان الغرب.
وتملك هذه المجتمعات خبرةً كبيرةً في التعامل بانتظام مع أفراد من عائلات المنظمات العنيفة، ولهذا لم يكن ينبغي تصدير للعالم فكرة رفض إعادة أبناء التنظيم لأوطانهم من جديد، والاكتفاء بتقديم مساعدات لهم في مخيمات الإيواء التي يقيمون بها، فتجميد القضية على المدى الطويل سيجعل الأوضاع أكثر خطورةً.
وسيخلق أبناء التنظيم الفرص المناسبة لإعادة هندسة أنفسهم داخل الجماعات التكفيرية أو اختراع تنظيمات جديدة أكثر وحشية توفر لهم الدعم والحماية، خاصة أن القائمين على حراستهم في أغلبهم ليسوا متعاطفين معهم، بعدما ذاقت بلدانهم الويلات على أيديهم، وبعضهم بالفعل كانوا ضحايا لانتهاكاتهم، وبالتالي إمكانية هروب هذه العناصر كما سبق وفرّ أفراد من التنظيم من مخيّم عين عيسى، سيكون الحل النهائي والوحيد أمامهم.
التجربة الكازاخستانية
في 2014 أفصح تنظيم داعش عن هوية مقاتليه، وبعضهم كان ينتمي إلى “كازاخستان” وهي جمهورية سوفيتية سابقة في آسيا الوسطى، وتعد تاسع أكبر دولة في العالم من حيث الكتلة الأرضية، ونحو 70% من سكانها البالغ عددهم أكثر من 18 مليون نسمة مسلمون.
قدرت الحكومة الكازاخستانية أعداد أبنائها المنتمين إلى التنظيم، بما يقرب من 300 عنصر، بعضهم قتل في سوريا والبعض الآخر استمر للنهاية في التنظيم، حتى نظمت لهم عمليات عودة منظمة عام 2019، بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية.
في عمليات الإعادة التي شملت أربع مراحل، نزح أكثر من 400 طفل و100 قبل عدة أشهر، وأعدت لهم كازاخستان مخيمًا خاصًا في مدينة “أكتاو” وكانت هذه الخطوة مفاجأة كبرى، حيث برزت هذه الدولة كقائد دولي في القضية، وأصبحت تجربتها حديث العالم الذي وضع كل خبراته لمراقبة برنامج إعادة التأهيل الذي أعدته ولم تتعامل معهم من منظور إجرامي، بل نظرت إلى إعادة الأطفال وأمهاتهم على أنها قضية إنسانية وأخلاقية.
كانت عملية الإعادة إلى الوطن في حد ذاتها اختبارًا رئيسيًا لكيفية عمل الحكومات والمجتمع المدني معًا لإدارة البالغين والأطفال الذين يُحتمل أن يمثلوا مخاطر على الأمن القومي الآن وفي المستقبل، وكيفية القيام بذلك داخل المجتمعات المحلية، وليس في المعتقلات، والتعامل بصبر شديد مع الاحتياجات المعقدة لهؤلاء العائدين.
تعاقدت كازاخستان مع منظمتين غير حكوميتين وفتحت 17 مركزًا إقليميًا لإعادة التأهيل والإدماج في جميع أنحاء البلاد، وكل مركز ضم نخبة كبرى من المتخصصين من علماء النفس والاختصاصين الاجتماعيين والأطباء النفسيين ورجال الدين والمحامين والممرضات والمعلمين، وجميعهم نذروا أنفسهم لمساعدة الأطفال والأمهات وأسرهم للتخلص من أفكار التنظيم وإعادة دمجهم في المجتمع من جديد.
حرصت الحكومة على ضم المجموعات المختارة بعناية وخبرات ضخمة تكونت لديهم من العمل مع ضحايا العنف المنزلي والإرهاب أو الاتجار بالبشر، وكان همهم الأساسي دعم الأطفال والنساء العائدين، ولم يتوقف عملهم على ذلك، بل على تشجيع المجتمع على قبولهم وإعادة إدماجهم وسط أبنائه.
أما رجال الدين، فكان عملهم الأساسي تفسير النصوص بعيدًا عن تأويلات ما أسموها “الحركات الدينية المدمرة” التي تحظرها الحكومة بشكل كلي ولا تسمح بالتطرف، بل إنها لا تسمح للفتيات بارتداء الحجاب في المدارس لأنها تعتبره ضمن مظاهر التمييز الديني غير مقبول على الإطلاق في البلاد، ولهذا كانت المهمة الرئيسية لهم إقناع الطفل أولًا بالجلوس والاستماع إلى تعاليم الدين من “مسلم غير متشدد”، والقبول بأحكام المجتمع كاملة وقوانينه، بما فيها خلع الحجاب، لمعرفة إن كان العضو السابق في داعش يسعى إلى كسب مزايا قصيرة المدى أو تغيير أعماقه بالفعل.
لكن في المقابل تقول تقارير دولية إن الصورة ليست وردية بشكل كامل، بل هناك أزمة شفافية في التجربة الكازاخستانية، فالدولة كانت خارجة للتو من تحديات ديمقراطية كبيرة تتمثل في كيفية إدارة ملف السلطة التي لم تشهد انتقالًا سلسًا لها منذ استقلالها قبل 30 عامًا.
وواكبت عمليات إعادة ترحيل الأعضاء السابقين في داعش، تنظيم انتخابات رئاسية لم تخل بالطبع من انتهاكات قانونية بسبب الإرث الشمولي لطول بقاء الرئيس نور سلطان نزارباييف، الذي تولى الحكم عام 1991 واستقال عام 2018 بعد ثلاثة عقود في الحكم، على خلفية احتجاجات اجتماعية قوية بسبب تردي الاقتصاد الذي تدهور بشدة من تداعيات تراجع أسعار النفط عام 2014.
لم تفلح قرارت نور في إقالة الحكومة وبعض المسؤولين لتخفيف الاحتقان، فتواراى عن الساحة وتولى إعادة هندسة المشهد السياسي كقائد للأمة، وهي لافتة تستحق التأمل، وخلفه قاسم جومارت توكاييف الذي تولى السلطة بشكل مؤقت، ودخل السباق الرئاسي الذي أجرى عام 2019، ليصبح الرئيس الثاني للجمهورية.
بحسب تقارير دولية، شهدت عملية سحب المواطنين الكازاخستانيين عدة اعتقالات، واحتجزت الجهات الأمنية 16 عضوًا من التنظيم وأربع نساء، ولم تقدم أي تفاصيل عن احتجازهم، باستثناء أنهم ينحدرون من مناطق مختلفة في كازاخستان.
وجرى التحقيق معهم بسبب تورطهم في الإرهاب، ومع ظهور انتقادات تؤكد تناقض هذا الفعل مع تصريحات سابقة للمسؤولين في الدولة تتحدث عن ضرورة الاحتواء، خرجت تصريحات جديدة من مصادر أمنية كازاخستانية لصحف عالمية، توضح أن مهمة بلادهم مع عناصر داعش ليست إنسانية فقط، فمهم أيضًا بالنسبة لهم تحييد التهديد الذي يفرضه بعض هؤلاء قبل عودتهم إلى بلادهم بمفردهم، وخاصة بعد ظهور العديد منهم في فيديو دعائي يضم أطفالًا ناطقين بالكازاخستانية ويطالبون بذبح الكفار وتهديد السياح الأجانب في البلاد.