في مثل هذا الشهر قبل عام وبينما كان المبعوث الأممي إلى ليبيا غسان سلامة يحضر لعقد الملتقى الوطني بغدامس وفي اليوم الذي زار فيه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش طرابلس، وبعد أسبوع فقط من لقائه العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، أعلن حفتر نيته اقتحام العاصمة الليبية في إطار ما سماه “معركة تحرير طرابلس من الميليشيات الإرهابية”، لكن المعركة التي كان من المفترض أن تؤدي إلى انهيار سريع لما تبقى من سلطة حكومة الوفاق الوطني في الغرب الليبي أتت إلى حد الآن بنتائج معاكسة تمامًا لما كان ينتظره حفتر وداعموه الإقليميون والدوليون.
فكيف نقرأ التطورات الدراماتيكية الأخيرة في الساحل الغربي الليبي؟
التداعيات المستقبلية المتوقعة على المستويين المحلي أم الإقليمي
عملية “عاصفة السلام” التي أطلقتها حكومة الوفاق الوطني لاستعادة الشريط الغربي الممتد من صرمان إلى العسة على الحدود مع تونس هي الأكبر بعد عملية استعادة السيطرة على مدينة غريان في يونيو 2019 (التي كسرت الحملة الأولى لقوات حفتر على طرابلس قبل سنة)، فبالإضافة إلى سيطرتها على سبع مدن ومساحات تفوق 3250 كيلومترًا مربعًا حسب المتحدث باسم قوات حكومة الوفاق محمد قنونو، لأول مرة منذ 3 سنوات يكون الطريق من مصراتة (كبرى مدن الغرب الليبي) إلى معبر رأس جدير سالكًا وتسيطر عليه بالكامل قوات حكومة السراج.
لكن لا يمكن قراءة هذه العملية الكبرى (من حيث نتائجها) إلا على ضوء متغيرين مهمين عرفتهما الساحة الليبية خلال الـ5 أشهر الماضية: الأول يتمثل في توقيع حكومة الوفاق مذكرة أمنية مع تركيا تقدم الأخيرة بموجبها الدعم العسكري لحكومة السراج مع فتح الباب لإمكانية إرسال قوات تركية إلى الأراضي الليبية، أما المذكرة الأخرى فهي تخص ترسيم الحدود البحرية مع تركيا التي أثارت جدلًا وانتقادات واسعة خاصة من اليونان ومصر، ومعها صارت الأزمة الليبية مرتبطة بشكل وثيق بالصراع الدائر على الغاز شرقي البحر المتوسط.
أما المتغير الثاني فهو يتعلق بانعقاد مؤتمر برلين الذي راهن عليه الأوروبيون لبعث الحياة من جديد في مسار الحل السياسي لكنه لم يفض إلى أي نتائج تذكر على مستوى إعادة السلم إلى ربوع ليبيا.
ونظرًا لطبيعة الصراع في هذا البلد، فإن أي تقدم ميداني لهذا الطرف أو ذلك ستكون له ارتدادات تشمل الداخل الليبي والإقليم، خاصة أن الحرب هناك صارت مرتبطة بالعديد من الأزمات والصراعات بالوكالة سواء في الفضاء المغاربي أم العربي أم الإفريقي أم المتوسطي.
على مستوى الداخل الليبي، تنقسم التداعيات إلى ما هو سياسي وعسكري:
– سياسيًا، هذا الانتصار سوف يدعم ويقوي الموقف التفاوضي لحكومة الوفاق في أي جولة محادثات قادمة مع حفتر، وقد شاهدنا خلال الأيام الماضية تشديدًا في اللهجة من رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج الذي صار يرفض حتى مبدأ التفاوض مع حفتر.
– أما عسكريًا، فأولًا عبر هذا النصر تكون حكومة الوفاق قد نجحت في درء أي خطر مستقبلي على طرابلس من ناحية المحور الغربي ولا يتبقى لقوات حفتر إلا المحور الجنوبي (ترهونة – قصر بن غشير) كمصدر تهديد للعاصمة.
ثانيًا، أضحت قاعدة الوطية الجوية الواقعة تحت سيطرة قوات حفتر شبه مطوقة، وعبر إخراج هذه القاعدة ولو نسبيًا من الخدمة العملياتية تكون قواته قد خسرت إحدى أهم القواعد التي تؤمن لها الإمدادات العسكرية من سلاح وذخائر ومؤن وتوفر لمقاتليها الغطاء الجوي الضروري لاستمرار معارك طرابلس.
وثالثًا، هذا النصر العسكري يفتح الباب لتركيز كل جهود قوات حكومة الوفاق على الجيب الجنوبي وبالتحديد على مدينة ترهونة التي يتوقع المتابعون للشأن الليبي أن تكون المحطة التالية للمعارك وهو ما بدأ فعلًا قبل يومين.
أخيرًا، وربما العديد من المحللين لم يهتموا بهذه النقطة وهي أن وقع هذه المعركة على معنويات مقاتلي حكومة الوفاق الوطني يعتبر أهم من وقعها المادي بكثير وذلك بعد خسارتهم مدينة سرت في شهر يناير الماضي.
لكن وبحكم تداخل وتقاطع الأزمة الليبية مع العديد من الصراعات والحروب الإقليمية سواء فيما يتعلق بالتنافس الأمريكي الأوروبي على إفريقيا أم صراع المحاور في العالم العربي (قطر – السعودية – الإمارات) أم الصراع بين تركيا واليونان وقبرص ومصر على الغاز شرقي المتوسط أم الحرب على الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء أم أزمة الهجرة مع أوروبا، فإن آثار أي انتصار عسكري لهذا الفريق أو ذلك لن تنحصر داخل حدود ليبيا وإنما سوف تشمل الإقليم ككل.
فأول ما يمكن الإشارة إليه أن التقدم الميداني الأخير لقوات حكومة الوفاق عزز حضورها على الحدود مع تونس وهذا قد يكون أحد الأسباب التي دفعت الرئيس التونسي قيس سعيد للمسارعة بمهاتفة فايز السراج لتأكيد دعم تونس للشرعية في ليبيا إثر التصريح المثير للجدل الذي أدلى به وزير الدفاع التونسي واصفًا فيه قوات حكومة الوفاق بميلشيات السراج، علمًا بأن التطور الميداني الأخير يعني الكثير بالنسبة للأمن القومي التونسي خاصة في بعده العسكري والاقتصادي.
الوضع في بلد المختار يبدو مقبلًا على جولات جديدة من الصراع، مع عدم وجود مؤشرات تدل على قرب وضع الحرب لأوزارها
كما أن السيطرة على المنشآت النفطية بصبراتة قد يساهم في إعادة تطبيع علاقات حكومة السراج مع إيطاليا التي تدهورت مؤخرًا على خلفية توقيع مذكرة ترسيم الحدود البحرية مع تركيا، وذلك نظرًا لما تمثله صبراتة من أهمية إستراتيجية لإيطاليا سواء كمدينة كانت تنطلق منها قوارب الهجرة غير النظامية بكثافة نحو أوروبا أم لاحتوائها على مجمع مليتة للغاز والنفط الذي تمتلك شركة إيني حصة 50% منه.
تركيا تبدو أكبر الكاسبين الإقليميين بعد هذه العملية، فخصوم حفتر صار لديهم شعور بأن هناك حليفًا حقيقيًا يمكنهم الاستناد والتعويل عليه في صد مشروع حفتر، بالإضافة إلى ذلك في حالة سقوطها، فإن قاعدة الوطية الجوية قد تكون محط أنظار تركيا التي تتطلع لتعزيز وجودها العسكري غرب ليبيا وذلك بغية استغلال هذه القاعدة في إطار العمليات المستقبلية التي قد تشنها ضد قوات حفتر في وسط أو جنوب البلاد.
إن الوضع في بلد المختار يبدو مقبلًا على جولات جديدة من الصراع، مع عدم وجود مؤشرات تدل على قرب وضع الحرب لأوزارها (خاصة مع انشغال القوى الكبرى بمواجهة وباء كورونا)، وذلك بعد تحول البلد إلى ساحة حرب بالوكالة وامتناع الفرقاء عن تقديم أي تنازلات تحقن دماء الليبيين وتقطع الطريق على كل القوى الأجنبية التي لن تتدخل في الشأن الليبي إلا لخدمة مصالحها وأجنداتها الخاصة.