خلال العمر الطويل لشعائر العزاء الحسينية، الذي بدأ بشكل رسمي في عصر السلطة الفاطمية وبرعاية الحكم البويهي في العراق، في القرن الرابع الهجري (358هـ/963م)، ظلت على تماس مباشر بسياسة البلد التي تحدث فيها، فإما أن يسمح بإقامتها دعمًا وترسيخًا لسياسة ومذهب السلطة الحاكمة واستخدامها لتثبيت أقدامها، أو تقمع بسبب سياسة السلطة وخشية من انفلاتها وتحولها لانقلاب سياسي عليها، فشعائر العزاء كانت تضم خطباء يلقون الخطب بالناس، وهذا يجعل السلاطين والوزراء والولاة يخشون خروج الأمر من أيديهم فيما لو كان الخطباء يحرضون الناس عليهم، وإن ظلت السياسة حاضرة في المشهد الأول، فإن الناس الذين كانوا يخرجون مرة ويقمعون أخرى، غالبًا ما كانوا مجهولين ولا يعرفهم أحد.
كانت مراسم العزاء في البداية، تقتصر على استذكار الأئمة والبكاء عليهم ورثائهم والثناء على أفعالهم والحث على السير على خطاهم والتعريض بمن عاداهم وقتلهم، وكان الناس يتجمعون في البيوت أو عند قبور الأئمة لأجل هذا، وأحيانًا كان تجمعهم يأخذ طابعًا ثوريًا ضد الظلم والسلطة الظالمة وتأكيدًا لوقوفهم مع العدل وآل البيت.
ورغم أن مراسم العزاء ترسخت كجزء أساسي من المذهب الشيعي منذ القرن الرابع، لكنها لم تستمر على وتيرة واحدة، فالعصر البويهي كان عصر اضطراب واختلال سلطة، ففي كثير من الأحيان كانت تحدث معارك بين من يريد إقامة الشعائر ومن يحاول إعاقتها، كما حدث بين الشيعة والحنابلة ببغداد، وحين جاء السلاجقة للعراق، تعرضت مراسم العزاء للضغوط، فقمعت أحيانًا ومنعت في أحيان أخرى.
ثم انتقلت مراسم العزاء بعاشوراء والأئمة، مع بداية الدولة الصفوية في القرن العاشر الهجري/السادس عشر الميلادي، انتقالتها الكبرى، فقد رسخت الدولة الصفوية من قيمة عاشوراء في نفوس الشيعة في كل مكان، وجعلتها جزءًا من سياساتها في نشر فكرها المذهبي وبسط نفوذها، ومنذ ذلك الوقت، بدأت نشأة الإخراج المسرحي لمعركة كربلاء، التي لم تكن جزءًا من مراسم العزاء فيما سبق، وكانت متأثرة ببعض التقاليد الدينية لدى الفرس.
لا يذهب الناس للزيارة الدينية بدافع سياسي، بل لأنها صارت بالنسبة لهم مسألة شخصية تمس ذواتهم وأرواحهم
ظلت الشعائر تتراوح بين ازدهار وتغييب، بحسب سياسة السلطة الحاكمة في العراق، فقد استمرت وتمت رعايتها في بداية الحكم الملكي بالعراق، ثم تعرضت للمنع لاحقًا كما فعلت حكومة ياسين الهاشمي (1935م) التي اعتبرتها من أسباب انتفاضة مدن الفرات الأوسط ذلك العام، وظلت على هذا المنوال بين صعود وهبوط.
في عام 1977، خلال حكم حزب البعث للعراق، أرادت محافظة النجف منع المسيرة المتجهة نحو كربلاء في عاشوراء، لكن بدأ بعض الشبان بالتجمع ومع ازدياد أعدادهم اشتبكوا مع الشرطة، ثم توجهوا إلى كربلاء سيرًا على الأقدام محاطين برجال الشرطة الذين يحاولون منعهم من التقدم، وما إن قطعوا بعض الكيلومترات ووصلوا منطقة “خان النص”، حتى واجهتهم قوة أخرى من الجيش التي تصدت لهم بخراطيم المياه والغاز المسيل للدموع، لكن هذا لم يثنهم، فتحول المنع إلى مجابهة بالرصاص الحي من الجيش العراقي، وهذا أوقع عددًا كبيرًا من القتلى، تم اعتقال قادة المسيرة، وحكم على معظمهم بالإعدام، ثم بعد حرب الـ80 مع إيران، أوقفت الشعائر بالكامل وبشكل نهائي.
تغير الحال بعد 2003 وانتهاء حكم البعث، فعادت الشعائر والمراسم الحسينية والزيارات الدينية لنشاطها وكانت عودتها متنفسًا للناس الذين فقدوها لأكثر من عقدين من الزمن، فازدهرت مرة أخرى، وكان رجوعها شكلًا من أشكال إثبات الذات الشيعية بعد سنوات القمع التي مارسها البعث تجاهها، وصارت مراسم العزاء تقام برعاية الحكومات العراقية ودعمها وتشجيعها وبمشاركة مستمرة لشخصيات سياسية بغرض التقرب من الناس، واستغلال الشعائر الدينية لمصالحهم الخاصة.
وطوال كل هذه القرون التي كانت الشعائر تستخدم فيها كأداة سياسية من الحكام، تحولت لأكثر من ذلك بالنسبة للناس، فصارت مراقد الأئمة جزءًا لا ينفصل عن إيمان الناس، وانتقلت انتقالات كبرى، من قبر يبكى عليه ويرثى صاحبه، لعقيدة وقبر يرتجى منه الفعل وإنقاذ الناس من مصائبهم وآلامهم وتلبية أمانيهم وأحلامهم، وكان هذا الرجاء والإلحاح بالقرب يزداد كلما عمّ الفقر والجهل وصعب حال الناس، فتصير القبور ملجأ لهم من ظلم الحياة وضيمها.
لا يذهب الناس للزيارة الدينية بدافع سياسي، بل لأنها صارت بالنسبة لهم مسألة شخصية تمس ذواتهم وأرواحهم، مكان مقدس يصلهم بالسماء مباشرة، يقرّب الأمنيات البعيدة ويحقق المستحيل، ينجي من الأمراض ويوفر بعد الدعاء والرجاء، فرص العمل للشباب والأزواج للفتيات والبيوت لمن بلا بيوت، ويكون الأئمة، على اختلاف أسمائهم، طريقهم الأكيد للوصول إلى الجنة، فيصلونه بكل التوق والشوق، والرغبة بالقرب ولمس الشبابيك وتقبيلها، فهذا القرب المقدس، هو أقصى ما يحلمون به، وجنتهم الأرضية التي ستأخذهم للفردوس المؤكد، ولا يضيرهم في هذا منع سلطة أو سماحها، فهي أمور متغيرة وعلاقتهم بالأئمة ثابتة ومقدسة.
بعد تاريخ طويل من المنع والقمع، لا يشكل فيروس كورونا إلا عقبة ضئيلة في طريقهم، حتى وإن كان يحمل شبح الموت ويحاصرهم
خلال الأسابيع الماضية وبعد انتشار فيروس كورونا في العالم كله، صادفت ذكرى وفاة الإمام موسى الكاظم، الواقع مرقده في مدينة الكاظمية ببغداد، وهذا يعني سيرًا على الأقدام من مختلف المدن والتوجه لقبره، واستقبال آلاف الزوار من إيران وأفغانستان وغيرها، وإقامة مراسم العزاء، وفي نفس الوقت، الإيفاء بالنذور التي ينذرها الناس، وتستوجب منهم زيارة الإمام لشكره أو لتقديم نذر جديد إن تحقق لهم ما يحلمون ويطمحون له.
ولم تفلح قرارات حظر التجول ولا المخاوف ولا التحذيرات، في منع الزوار الماشين إلى الإمام لزيارته، فبعد تاريخ طويل من المنع والقمع، لا يشكل فيروس كورونا إلا عقبة ضئيلة في طريقهم، حتى إن كان يحمل شبح الموت ويحاصرهم.