منيت أسعار النفط الأمريكي خلال الساعات الماضية بهزة عنيفة، وذلك حين تراجعت إلى ما دون الصفر للمرة الأولى في تاريخها، ليصل سعر برميل النفط إلى 20 سنتًا فقط، أي 5 براميل تساوي دولارًا واحد، وهو التهاوي الذي أصاب سوق النفط العالمية بحالة من الذهول لما يحمله من دلالات ربما تنعكس على بقية خامات النفط الأخرى.
البداية كانت مع الساعات الأولى من صباح أمس الإثنين، 20 من أبريل، حيث شهدت الأسعار تراجعًا ملحوظًا، وبصفة خاصةٍ العقود الآجلة للخام الأمريكي الذي هبط في البداية بنحو 26.2% إلى أقل من 15 دولارًا وهو أقل مستوى له منذ 1999، لكن مع حلول المساء انهارات الأسعار بصورة غير متوقعة، حيث هبطت أسعار العقود الآجلة (تسليم مايو/آيار المقبل) إلى نحو 20 سنتًا للبرميل فقط.
يعاني سوق النفط خلال الآونة الأخيرة من أزمة كبيرة جراء تراجع أسعاره بصورة كبدت الدول المنتجة له خسائر فادحة لا سيما التي تعتمد عليه بصورة كبيرة كمورد اقتصادي محوري، وساعدت حرب الأسعار بين السعودية وروسيا على تعزيز هذه الوضعية التي يبدو أن لا رابح فيها، فالكل خاسر وفق ما أكدت الشواهد والتطورات اللاحقة على مدار الأيام الماضية.
كما أن هناك خاسرين جراء هذا الانهيار التاريخي للذهب الأسود وتراجع الطلب على النفط ومشتقاته خلال الأشهر الماضية بسبب إجراءات الإغلاق في مختلف دول العالم إثر تفشي وباء كورونا الجديد، فإن هناك رابحين أيضًا من الممكن أن يوظفوا تخمة العرض من أجل تحقيق مكاسب مادية كبيرة.
لماذا هذا الانهيار؟
تعددت الأسباب الحقيقية وراء هذا التهاوي غير المسبوق، ليس في أسعار الخام الأمريكي فقط، بل في جميع الأسواق العالمية، والتي شهدت تراجعا كبيرًا خلال الشهرين الأخيرين، ربما ليس بقيمة الانهيار الذي شهده النفط الأمريكي لكنه تراجع يهدد اقتصادات الدول المنتجة ويضع مستقبلهم على المحك.
السبب الأبرز لهذا الزلزال هو انخفاض الطلب العالمي على النفط بشكل عام، بسبب جائحة كورونا التي أجبرت العالم على إغلاق معظم الأنشطة الاقتصادية، خصوصًا السفر سواء جوًا أم برًا أم بحرًا، الأمر الذي فرض حالة من ضبابية الرؤية للسوق ضاعفت حدة تراجع الرغبة على الشراء في الفترة المقبلة.
أما السبب الثاني فيتمحور حول تداعيات حرب أسعار النفط التي أشعلتها السعودية مطلع مارس الماضي، بسبب الخلاف مع روسيا بشأن تخفيض الإنتاج، وهو ما أدى إلى فقدان النفط أكثر من 50% من سعر البرميل مرة واحدة، ثم استمر التراجع مع إعلان المملكة زيادة إنتاجها في أبريل الحاليّ.
كثير من الخبراء أشاروا إلى أن السبب الأكبر وراء هذا التراجع الكبير في أسعار النفط الأمريكي هو ما يعرف بالعقود الآجلة أو Contango، وتعني أن تشتري جهة ما النفط في الوقت الحاليّ لكن التسليم يكون في المستقبل، فقد يكون التسليم بعد شهر أو شهرين أو ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر، وهذه العقود يكون لها تاريخ محدد للتداول، وينتهي التداول عليها تلقائيًا بانتهاء صلاحية هذا التاريخ.. إذًا ما الذي حدث؟
ما حدث بالأمس في تداولات العقود الآجلة للخام الأمريكي، هو انهيار عقود تسليم شهر مايو المقبل التي من المقرر أن تنتهي صلاحيتها اليوم الثلاثاء، وهو ما يعني توقف هذه العقود تلقائيًا بانتهاء تداولات اليوم، وبدء التداول الأربعاء على عقود شهر يونيو المقبل، بأسعار مختلفة، الأمر الذي دفع المتداولين لبيعها والتخلص منها بشكل سريع.
لكن هنا يبقى تساؤل: لماذا تسعى تلك الشركات التي حصلت على النفط بالعقود الآجلة للتخلص مما لديها من نفط عقود مايو؟ والإجابة هنا تتعلق بتفاقم مشكلة التخزين وامتلاء السعة التخزينية، وهو ما أدى إلى ارتفاع تكلفة التخزين بشكل لم يسبق له مثيل، وهذا يعني أن المتداول لن يستطيع تخزين النفط عند استحقاق تسليمه أو تخزينه بأسعار خيالية.
يذكر أن الأسعار المتدنية شجعت بعض كبار مستوردي النفط – خصوصًا الصين – على شراء النفط بالمستويات المعتادة نفسها تقريبًا بغرض تخزينه، للاستفادة من الأسعار المنخفضة، لكن ذلك خلق إشكالية أخرى وهي التخزين، وهو التفسير العملي لمسألة تراجع الأسعار إلى ما دون الصفر، أي البيع بالسالب.
وفي هذا الشأن وصفت صحيفة فايننشال تايمز البريطانية الموقف بالقول: “المنتجون قد يدفعون للمشترين، في محاولة لتأجيل اضطرار المنتِج لإغلاق شركة الإنتاج”، في إشارة إلى مدى عمق الأزمة التي يواجهها قطاع الطاقة الأمريكي بفعل كارثة وباء كورونا وحرب الأسعار.
أما المحلل النفطي جيسون جاميل فوصف الوضعية الحاليّة لا سيما في الولايات المتحدة بأنها “أسوأ أزمة تواجهها صناعة النفط على الإطلاق”، وهو ما يمثل تحديًا خاصًا للرئيس الأمريكي الذي يمر بأصعب فترات رئاسته الأولى في البيت الأبيض، وسط السباق للفوز بفترة ثانية.
وللعلم فإنه حتى الآن تحافظ أسعار العقود الآجلة للخام الأمريكي في يونيو/حزيران المقبل، على بعض التماسك، بسبب رهان بعض المستثمرين على إمكانية التعافي سريعًا، وهو أمر غير محسوم ولا يوجد ضمان على أن انهيار الأسعار اليوم لن يتكرر مرة أخرى مع حلول 21 من مايو المقبل (موعد تسليم خام عقود يونيو).
ماذا عن قرار أوبك خفض الإنتاج؟
في الـ12 من أبريل الحاليّ أعلن تحالف “أوبك بلس” أنه اتفق على تقليص الإنتاج بمقدار 9.7 مليون برميل يوميًا (أي بنحو 10% من المعروض العالمي) وذلك بعد محادثات مطولة على مدى أربعة أيام، تخللتها ضغوط من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بعد الخسائر التي تكبدها قطاع النفط الصخري في بلاده.
الاتفاق المبرم الأكبر يعد في التاريخ من حيث معدلات خفض الإنتاج، إذ يفوق أربعة أمثال التخفيضات التي اتفق عليها المنتجون في خضم الأزمة المالية العالمية عام 2008، في محاولة لوقف انهيار الأسعار الذي شهدته السوق النفطية منذ تفشي فيروس كورونا الجديد.
ترامب حينها عبّر عن سعادته بهذه الخطوة، قائلًا في تغريدة له على حسابه على تويتر: “اتفاق النفط الكبير من أوبك بلس قد أنجز.. سينقذ مئات الآلاف من الوظائف في قطاع الطاقة داخل الولايات المتحدة”، متوجهًا بالشكر إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وملك السعودية سلمان بن عبد العزيز لسعيهما نحو إنجاز الاتفاق، مضيفًا “تحدثت للتو معهما.. إنه اتفاق عظيم للجميع”.
تقرير سابق لـ”نون بوست” كان قد أشار إلى أن تخفيض معدل الإنتاج اليومي بما قيمته 10% من إجمالي المنتج من المادة الخام ربما يكون رقمًا كبيرًا له تأثيره القوي في الظروف العادية، غير أن الوضعية الراهنة ربما تقلل حجم وتأثير هذا الرقم، خاصة مع حالة الشلل التام التي أصابت الاقتصاد العالمي، وعليه تراجع الطلب على النفط بصورة لم يشهدها العالم منذ عقود طويلة.
التقرير نقل عن عدد من الخبراء أنه رغم إيجابية الاتفاق وما يحمله من مؤشرات جيدة للأسواق، فإنه لن ينهي تخمة المعروض النفطي في الأسواق، نظرًا لانخفاض الطلب في الصين لنحو 25% وانهيار الطلب في الهند بنحو 70%، إلا أن السوق متخم بـ20 مليون برميل وهناك تقديرات أمريكية بـ30 مليون برميل، وهو ما حدث بالفعل.
خفض الإنتاج في ظل تراجع الطلب لم يؤثر كثيرًا في مجريات الأوضاع داخل السوق، فالتخمة ما زالت قائمة، خاصة مع اقتراب منشآت التخزين من الامتلاء عن آخرها، وبالطبع زيادة كلفة التخزين، وهو الذي حدث فيما يتعلق بالخام الأمريكي تحديدًا، فالشركات تريد التخلص من الخام الذي لديها ولو من دون مقابل، لأن تخزينه يكلفها مبالغ كبيرة، وبالطبع انعكست تلك الوضعية على سعر الخام في السوق.
وسبق لمحللين من صحيفة وول ستريت جورنال أن أوضحوا أن هبوط أسعار العقود الآجلة مقابل الفورية سيجبر شركات النفط على تكديس البراميل في أماكن أكثر تكلفة، بما في ذلك على السفن، وبحسب مصادر ملاحية فإن حجم النفط في المخزون العائم على متن الناقلات بلغ 160 مليون برميل على الأقل بما يشمل 60 ناقلة عملاقة، التي تبلغ سعة الواحدة منها نحو مليوني برميل، وبالمقارنة، كان عدد الناقلات المستأجرة مع خيارات للتخزين بين 25 و40 ناقلة عملاقة في مطلع أبريل/نيسان، وأقل من عشر ناقلات في فبراير.
الرابحون والخاسرون
في مقال له على موقع “أويل برايس” يرى الخبير الاقتصادي بالبترول والطاقة مايكل لينش أن قطاعات من صناعات النفط وبعض البلدان والشركات ستكون بمنزلة الرابح الأكبر من هذه الأزمة مقابل آخرين خاسرين، معتبرًا أن منتجي أوبك الذين لا يملكون طاقة تكرير كافية للنفط، ولا يملكون عقود توريد طويلة الأجل مع الدول المستوردة هم الأكثر خسارة، وهم في هذه الحالة: أنغولا ونيجيريا بجانب العراق الذي يمثل ثاني أكبر منتج للنفط في المنظمة، حيث يبيع معظم الخام الذي ينتجه، كما أن السعودية تفعل ذلك أيضًا.
كما أن قدرة المصافي لكل دولة عضو بمنظمة أوبك وحسب إنتاجها المستهدف خلال شهري مايو ويونيو القادمين، تظهر أن طاقة التكرير المحلية المجمعة لهذه الدول تمثل نصف ما ينتجونه في حال التزموا جميعًا بحصصهم حسب الاتفاق، وفقًا لتقديرات لينش، منوهًا إلى أنه لو أخذنا بعين الاعتبار أن التزام الدول بالاتفاق لن يكون بنسبة 100%، فهذا يعني أن أعضاء أوبك سينتجون أكثر من ضعف طاقتهم التكريرية للنفط.
ومن ثم فإن البلدان التي لديها عقود توريد نفط طويلة الأجل ستكون في وضع أفضل من تلك التي تعتمد على مبيعات الخام الفورية، وفق لينش الذي ينبه إلى أن أسواق النفط الفورية تواجه مشاكل في الطلب حاليًّا، مضيفًا “الدول المنتجة للنفط التي لديها حصص أعلى من المبيعات الفورية لن تكون قادرة على التخزين مقارنة بغيرها، كما أن المصافي الضخمة التي تعاني من زيادة المعروض ستحاول التخلص من بعض العقود طويلة الأجل”.
وفي السياق ذاته فإن الشركات التي لديها قدرة أكبر على تكرير الخام سيكون لديها مصافي تكرير لترسل إليها الفائض، مع العلم أن سوق المنتجات المكررة ضعيف أيضًا، لأن الطلب على البنزين والديزل ووقود الطائرات منخفض في جميع أنحاء العالم، فيما سيتحمل موزعو المنتجات المكررة (البنزين والديزل وغيرها) أكبر الخسائر في هذه الأزمة، حيث إن الاستهلاك في حدوده الدنيا، كما هو الحال على سبيل المثال في الولايات المتحدة أكبر مستهلك لهذه المنتجات.
أما فيما يتعلق بالرابحين من هذا الانهيار، فهم أصحاب السعة التخزينية الأكبر سواء في البر أم البحر، وفقًا لما قاله موقع “أويل برايس” بأن التخزين هو “السلعة” الأكثر طلبًا في سوق الطاقة خلال الشهر الماضي في ظل انهيار الطلب وارتفاع العرض، وحاليًّا، يتدافع التجار لحجز مواقع التخزين العائم.
ومن جانب آخر فمن المتوقع أن ترتفع أسعار استئجار الناقلات العملاقة بشكل كبير وترتفع تكاليف التخزين، وذلك من أجل القدرة على تلبية المبيعات المستقبلية، حيث يتوقع التجار أن يتعافى الطلب بعد انحسار جائحة كورونا، وبحسب وكالة الطاقة الدولية فإنه على الرغم من الإجراءات التي اتخذتها أوبك+ ومجموعة العشرين لتقليص الإنتاج، فإن صناعة النفط ستكون تحت اختبار القدرة على التخزين في الأسابيع المقبلة.
وفي أمريكا من المرجح أن تمتلئ مساحات التخزين بحلول منتصف شهر مايو، وربما تلعب أسعار النفط المنخفضة دورًا في دفع شركات النفط الصخري إلى خفض إنتاجها، وهو ما حدث مع شركة كونوكو فيليبس، إحدى هذه الشركات التي قالت إنها ستخفض طواعية إنتاج 200 ألف برميل يوميًا في كندا والولايات المتحدة، حتى تتحسن ظروف السوق، ومن المرجح أن يتبعها آخرون قريبًا، وعليه فإنه في ظل تخمة المعروض النفطي، سيكون أصحاب سعة التخزين الأعلى هم أكبر الرابحين في هذه الأوقات غير العادية من صناعة النفط.
ماذا عن العرب؟
كثيرًا ما تساءل البعض عن تداعيات التطورات التي شهدتها سوق النفط العالمية على المنطقة العربية، خاصة أن الانهيار الذي جرى لم يشمل النفط الخليجي على وجه التحديد رغم تراجع أسعاره بقيمة الثلثين تقريبًا خلال الشهرين الأخيرين، وهنا يذهب بعض الخبراء إلى أن المنطقة العربية ليست ببعيدة عن تداعيات الأزمة.
المحلل المالي محمد عايش وردًا على هذا السؤال قال إن العالم العربي وخاصة الدول المنتجة للنفط يتجه إلى أسوأ أزمة اقتصادية منذ الاستقلال، مؤكدًا أن العرب أمام أزمة مزدوجة تتعلق بالنفط وتتعلق بفيروس “كورونا” الذي عطل عجلة الاقتصاد بشكل شبه كامل في المنطقة العربية.
عايش أضاف في مقال له: “خلال الأسابيع القليلة الماضية، اضطرت السعودية أيضًا أن تقترض 7 مليارات دولار، وبالتوازي فعلت دولة الإمارات الأمر ذاته، واستدانت البحرين مليار دولار، وقررت سلطنة عُمان خفض إنفاقها العام بواقع 1.3 مليار دولار، وأعلن الأردن أنه يبحث عمن يُقرضه 640 مليون دولار، وتبدو الكويت الأفضل حالًا في المنطقة العربية بسبب ادخاراتها (صندوق الأجيال) وسياساتها المالية المتحفظة”.
أوضح كذلك أن دخول دول الخليج في “كساد كبير” يعني بالضرورة أن ملايين العاملين من العرب هناك سوف يعودون إلى بلدانهم لتتفاقم أزمة أخرى في عالمنا العربي وهي أزمة البطالة، مستطردًا: “إذا أضفنا ذلك إلى أزمة كورونا فإننا سنجد أنفسنا أمام مستقبل لا نستطيع إلا أن نسأل الله فيه العفو والعافية”.
هذا بجانب التراجع المتوقع في أسواق المال الخليجية، حيث افتتحت سوق المال السعودية والأسواق الأخرى في دول الخليج على تراجع كبير في تعاملات اليوم، وبدأت سوق “تداول” السعودية تعاملاتها على انخفاض بنسبة 2.1%، فيما تراجعت الأسواق كذلك في الإمارات والكويت البلدين المنتجين للنفط، وانخفضت قيمة سهم شركة أرامكو، أكبر شركة نفطية في العالم، بأكثر من 2%.
بعد سياسي آخر ربما يطل برأسه كأحد تداعيات هذا التهاوي الكبير يتعلق بتوتر العلاقة بين الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة لا سيما السعودية التي يحملها ترامب مع روسيا مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع الراهنة بسبب حرب الأسعار المستعرة بينهما من الأسبوع الأول من مارس الماضي.
الرئيس الأمريكية في أول رد فعل له على ما حدث، قال إن إدارته تبحث إمكانية وقف شحنات النفط القادمة من السعودية كإجراء لدعم قطاع التنقيب المحلي المتضرر، وذلك ردًا على مطالبات من بعض النواب الجمهوريين بوقف الشحنات بموجب سلطته التنفيذية.
من السابق لأوانه تقييم تأثير هذا الانهيار الكبير في أسعار النفط بصفة عامة، خاصة أنه مرتبط ببعض المستجدات التي من المؤكد أنها لن تستمر على طول الأمد، فمع إسدال الستار على جائحة كورونا من المتوقع أن يعود الطلب كما كان على النفط، الأمر الذي تعود معه الأسعار في الارتفاع، لكن من المؤكد أن ما حدث جرس إنذار شديد اللهجة سيغير الكثير من ملامح الخريطة الاقتصادية العالمية بجانب خريطة التحالفات الدولية كذلك.