حسب محللين بدأ الانقسام العسكري في ليبيا بعد محاولتي اللواء المتقاعد خليفة حفتر الانقلاب على السلطة الشرعية المنتخبة بليبيا، إذ كانت الأولى بطرابلس في شهر مارس/آذار الماضي، وخرج وقتها رئيس الوزراء الليبي علي زيدان مطالبا بإلقاء القبض على حفتر باعتباره انقلابيا، والثانية في السادس عشر من مايو/ أيار الماضي عندما حاولت قوات مختلطة من عسكريين وقبليين الدخول إلى بنغازي تحت مسمى عملية الكرامة مستهدفا من خلالها “الجماعات الإسلامية المسلحة”، الأمر الذي فاقم من حالة الفوضى والانقسام بين الليبيين، وسقوط المئات بين قتلى وجرحى في صفوفهم، إلى جانب التدمير الذي لحق بالبنى التحتية للبلاد، وأثار هذا الوضع قلق دول الجوار وتزايدت مخاوفها من امتداد تلك الفوضى إلى داخل بلدانهم.
بينما انطلقت عملية عسكرية قادها مجموعات مسلحة من اثني عشر مدينة بالغرب الليبي على رأسها مدن مصراتة والزاوية وغريان وتاجوراء بعضها تابع لرئاسة الأركان العامة الليبية وبعضها الآخر لا يتبعها لإخراج مليشيات القعقاع والصواعق والمدني التي كانت تسيطر على وزارات الدفاع والداخلية ورئاسة الأركان العامة ومطار طرابلس الدولي ومقر جمعية الدعوة الإسلامية، وهي قوات تتهمها فجر ليبيا بأنها من بقايا كتائب نظام العقيد الراحل معمر القذافي مؤيدة لانقلاب حفتر.
ويصف مراقبون الصراع الجاري في ليبيا بأنه صراع في مرحلته الحالية بين ثورة فبراير/شباط والثورة المضادة التي انتعشت بليبيا من وجهة نظرهم بعد انقلاب الثالث من يوليو/تموز بمصر الذي أسقط الرئيس السابق المنتخب محمد مرسي على يد الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي ضمن تحالف إقليمي ضم دولتي الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية.
إلا أن هذا التوصيف من وجهة نظرهم لا يخلو من سيولة وهلامية أطرافه في الوقت الراهن، إذ يضم تيار الثورة المضادة باعتقادهم خليط من العلمانيين، والليبراليين الرافضين لتمكين تيار الإسلام السياسي من السلطة ولوكان ديمقراطيا، ويضم كذلك أنصارا للنظام السابق، ورجال أعمال كونوا ثرواتهم عبر فساد مؤسسات الدولة بالنظام السابق.
ويضم تيار ثورة فبراير/ شباط هو الآخر نسيجا غير ملتئم في عمقه، كالتيارات الإسلامية المتشددة التي ترى في حفتر خطرا على وجودها وبقائها، لكنها في نفس الوقت لا تؤمن بأي عملية ديمقراطية تنتقل من خلالها السلطة، وفق شعارات عقائدية تؤكد أن الحاكمية لله وليست للديمقراطية، ويضم كذلك إسلاميون معتدلون كالإخوان المسلمين الليبيين، ووطنيين تصنفهم بعض الدوائر الغربية ” بالوطنيين المتشددين” ومدن محسوبة على ثورة فبراير/شباط، ووصوليين ومنتفعين.
وهو مشهد قد يتغير في القريب العاجل إلى صراع من نوع آخر، ينطلق من الأزمة التقليدية بين التيارات الإسلامية والعلمانية، وهما تياران موجودان في بذور الأزمة الحالية. فزاويا الانقسام الليبي تبدو معقدة وشديدة التباين والتغير في الوقت الراهن وغير ثابتة.
من جانب آخر يبدو المشهد الليبي منقسم بين مجموعات مسلحة تملك القوة على الأرض وحققت نجاحات بغرب ليبيا، وعلى وشك حسب التطورات الميدانية الأخيرة أن تهمين على غرب ليبيا بالكامل، بعد الأنباء الواردة تقدم وتوغل كبير في مناطق ورشفانة غربي العاصمة طرابلس آخر معاقل الثورة المضادة المؤيدة للنظام السابق ولعملية الكرامة بقيادة اللواء حفتر، وكذلك اقتراب مجلس شورى ثوار بنغازي الذي يضم عدة كتائب أغلبها إسلامية وعلى رأسها جماعة أنصار الشريعة بقيادة محمد الزهاوي والمصنفة إرهابية وفق قوانين الولايات المتحدة الأمريكية.
وبين شرعية سياسية يعتبرها البعض منقوصة بحوزة مجلس النواب الليبي المنتخب والمنعقد حاليا بطبرق، بسبب مخالفات دستورية وقع فيها المجلس بسبب مكان الانعقاد، والداعي إلى انعقاده، وتمثيل المؤتمر الوطني العام بمراسم التسليم والاستلام، وتدور في فلك مجلس النواب وتؤيده حكومة عبد الله الثني المستقيلة، وحزب تحالف القوى الوطنية بقيادة محمود جبريل، والتيار المدني الذي نشأ قبيل انتخابات مجلس النواب نهاية يونيو/حزيران الماضي بدافع منافسة الإسلاميين على الانتخابات في ليبيا. كما يدعم مجلس النواب بطبرق اللواء المتقاعد خليفة حفتر رغم عدم استجابته لقراره بوقف الاقتتال الدائر، وكتائب الصواعق والمدني والقعقاع بطرابلس.
مجلس النواب الليبي نفسه لم يسلم من عملية الانقسام، فقد غاب عنه حسب أخر التقديرات قرابة ربعه عن حضور جلساته وأغلبهم من مدن الغرب الليبي الأكثر كثافة سكنية من مدن الشرق أو الجنوب الليبي، واعتبر محللون أن عدم نقل جلسات المجلس على الهواء مباشرة أو التصريح بالعدد الحقيقي لأعضاء المجلس الحاضرين بطبرق أدخل المجلس في أزمة النصاب القانوني المفترض لاتخاذ قرارات حاسمة كتلك التي اتخذها، مستدلين بدعوة مجلس النواب المفوضية العليا للانتخابات اعتماد نتائج انتخابات الدوائر الفرعية التي أجريت بالدائرة الثانية درنة بصرف النظر عن عدم إجراء الانتخابات بدرنة المركز بسبب منع إسلاميين متشددين لإجرائها، وهو ما ترفضه المفوضية حتى الآن لعدم وجود تخريجات قانونية.
على صعيد آخر يبدو المشهد الدولي تجاه ليبيا إلى الآن بحسب متابعين تتجاذبه دول جوار ليبيا الست ” الجزائر، تونس، السودان، مصر، تشاد، النيجر” حيث تدعو مصر التي تترأس اللجنة السياسية الخاصة بليبيا، ضمن حلفها الإقليمي الإماراتي السعودي إلى ضرورة التدخل عسكريا في شرق ليبيا لتوجيه ضربات عسكرية للجماعات الإسلامية بسرت وبنغازي ودرنة، وقد قامت بالفعل حسب تصريحات مسؤولين أمريكان لصحيفة النيويورك تايمز، بتوجيه ضربة جوية لمعسكرات تابعة لقوات فجر ليبيا بالعاصمة طرابلس أواخر أغسطس/آب الماضي.
بينما تنطلق الجزائر من منطلق تجربتها الخاصة في التعامل مع الجماعات الإسلامية المتشددة، وترى في تيار الإسلام الوسطي السياسي قدرة على مواجهة التيارات المتشددة فكريا وعسكريا، كما أن الجزائر التي تترأس اللجنة الأمنية الخاصة بليبيا ضمن السداسية حسب سياسيين جزائريين لن تسمح لمصر بأن تتوغل فيما تعتقده مناطق نفوذها الحيوية بشمال وغرب إفريقيا، إلا أن مراقبين أبدوا خشيتهم من أن تعمل الجزائر خاصة وهي مقدمة على رعاية حوار بين أطراف ليبية عدة منتصف سبتمبر/أيلول الجاري على تحويل الصراع الليبي من صراع بين ثورة فبراير/شباط، وثورة مضادة، إلى حرب بين تيار إسلامي معتدل وآخر متشدد وفق نظرية حرب الوكلاء الدولية.
بينما السودان وفق مواقفها الرافضة لأي تدخل أجنبي في ليبيا يراها مراقبون أنها راهنت على دعم ثورة فبراير/ شباط وكل التيارات السياسية والعسكرية المؤيدة لها، في محاولة خلق حليف استراتيجي مهم لها في ليبيا حال نجاحه في السيطرة على مقاليد السلطة بليبيا لإخراجها من عزلتها الدولية التي تعانيها بسبب المواجهة الدولية وعدم قبولها ضمن الأسرة الدولية كشريك، ومساعداتها اقتصاديا بعد فقدانها الجنوب السوداني.
ويرى المراقبون أن السودان بسبب تاريخها الطويل مع مصر تعارض أي مشروع مصري، حيث أن السياسة المصرية على امتدادها التاريخي ترى في السودان جزءا من مصر، قبل وبعد انفصالها عنها عقب الانقلاب العسكري الذي قادها الرئيس الراحل المصري جمال عبد الناصر. وذلك بعكس الموقف الجزائري الذي قد يقبل أو يعارض السياسات المصرية.
وعن موقف دولتي جوار ليبيا من الجنوب تشاد والنيجر يرى المراقبون أنها خاضعة لمصالح سهلة مع ليبيا تتمثل في الدعم المادي وفق تطمينات تحصل عليهما الدولتان الفقيرتان من حكام ليبيا الجدد، ومصالح صعبة تتعلق بالديمغرافيا السكانية المتداخلة، بين قبائل طوارق وتبو هاتين الدولتين وامتدادهما بليبيا، حيث منح نظام القذافي بعد اندلاع ثورة فبراير/ شباط قرابة 400 ألف من تشاد والنيجر جنسيات ليبية لمساعدته في القتال، ودخلوا للجنوب الليبي إلا أنهم بعد نجاح ثورة ليبيا لم يتحصلوا على الرقم الوطني الذي بموجبه يحصلون على حقوق المواطنة كاملة، مما جعلهم يشكلون مجموعات مسلحة تدافع عن وجودها وسط عجز تشاد والنيجر عن توفير حياة كريمة لهم، وتتعلق أيضا بترسيم الحدود الصحراوية بين هذه البلدان الثلاثة.
في ختام هذا التحليل يرى بعض المحللين السياسيين أن دول جوار ليبيا عاجزة عن خلق توافقات سياسية توقف الاقتتال الداخلي، سواء بالنظرة الأمنية المصرية، أو جمع الأطراف المختلفة للحوار وفق الرؤية الجزائرية.
وأن من سيجمع كل الأطراف الليبية لبناء معادلة سياسية توافقية جديدة هو الولايات المتحدة الأمريكية التي يروها الآن مقبلة على التدخل في ليبيا عبر استخدام عصا مجلس الأمن والقرارات الدولية، واستخدام قوائم تجريم الأطراف غير المنصاعة للتفاوض عبر المحكمة الجنائية الدولية، إذ لن تسمح الولايات المتحدة بتدهور الحالة الليبية أكثر من ذلك.