ترجمة وتحرير: نون بوست
جعلتنا أزمة كوفيد-19 نعيش حياتنا بنسق بطيء. توقفت الوظائف، وأُلغيت الإجازات ولم يعد السفر ممكنا. أصبح لدينا الكثير من أوقات الفراغ شئنا أم أبينا. بالنسبة لأولئك الذين لا يشتغلون في الرعاية الصحية أو في تأمين الاحتياجات الأساسية، تمرّ أيام الحجر ببطئ شديد.
مع ذلك، فإن ما يحدث بالتوازي هو أن العوامل التي سوف تشكل مستقبلنا بأكمله تتسارع بشكل كبير ــ التوترات العالمية، والسياسات الاقتصادية، والأفكار السياسية، والتكنولوجيات الجديدة. إن القرارات والقضايا الكبرى التي ربما كنا سنواجهها على مدى العقدين المقبلين، أصبحت ماثلة أمامنا بشكل مفاجئ. نحن على وشك خوض تحديات الـ20 سنة القادمة في ظرف 12 شهرًا، لذلك فنحن نحن بحاجة إلى الاستعداد.
وللتمعّن في أبرز مثال جلي على ذلك، ألق نظرة على منطقة اليورو. فقد جادل البعض منا لسنوات حول حقيقة أن اليورو لا يستطيع العمل بشكله الحالي. وبعبارة أوضح، قيل إن الإيطاليين لن يعملوا بشكل منتج مثل الألمان، بالتالي لن يوافق الألمان على سداد ديون الإيطاليين. ولولا أزمة كورونا، لكانت تلك الفجوة الجوهرية في أسس اليورو قد بقيت مجرد مسألة مثيرة للقلق، لكنها ليست وشيكة. إلاّ أنها أصبحت في الوقت الراهن مطروحة بقوة. فعندما كانت إيطاليا في حاجة إلى المساعدة من الشمال، جاءها الدعم متأخرا وأقل بكثير من المتوقع. فجأة، أصبح الاتحاد الأوروبي يواجه أزمة وجودية.
فكِّر أيضا في الصراع بين الولايات المتحدة والصين، والذي بدأ يحتدّ في السنوات الأخيرة. في الواقع، يهدد فيروس كوفيد-19 بتعميق هذا الصراع، حيث يحاول كل بلد إلقاء اللوم على الآخر. ففي هذه السنة التي تشهد انتخابات رئاسية في الولايات المتحدة، سوف يتعهد المرشحون باتخاذ موقف متشدد لضمان فصل التكنولوجيا الأمريكية عن التكنولوجيا الصينية.
سوف تستنتج العواصم الغربية والشركات الكبرى أنها لا يجب أن تعتمد بعد الآن على الإمدادات القادمة من دولة بعينها، في عالم تُغلق فيه الحدود عند أول إشارة لوجود مشكلة. بالتالي، فإن عملية “تفكيك العولمة” – بمعنى أن تتجه كل دولة نحو استهلاك بضائع تُنتج قريبا من حدودها، حتى لو كانت أكثر تكلفة ــ سوف تتسارع بوتيرة أكبر. فبدلًا من أن يكون نسق هذه العملية بطيئا مع تطور أساليب التصنيع في ظل استخدام الطباعة ثلاثية الأبعاد، فإنها ستتسارع مدفوعة بالضرورات السياسية والأمنية.
ستشهد أغلب دول العالم تغيرات سريعة بشكل مفاجئ، ولا يقتصر ذلك على الغرب فقط
من المرجح أن تتضرر اقتصادات منطقة آسيا والمحيط الهادئ خلال الأشهر القادمة بدرجة أقل بكثير مقارنة بمعظم دول الغرب. لقد استعدت دول منطقة آسيا والمحيط الهادئ لمواجهة وباء شبيه بالسارس، بينما توقعنا نحن الغربيون شيئًا أقرب إلى الإنفلونزا الإسبانية، هذا إذا كنا قد فكرنا في الأمر من الأساس.
لهذا السبب، اعتمدت دول منطقة آسيا والمحيط الهادئ إجراءات حجر صحي ومراقبة صارمة لمقاومة انتشار الفيروس بينما عانينا لفترة طويلة في محاولة للتعايش معه. وإذا سارت الأمور بالنسق الذي نعيشه حاليا، فإن الناتج المحلي الإجمالي لدول آسيا سيتخطى في 2020 ناتج بقية دول العالم مجتمعة. في الحقيقة، سوف ننتقل إلى عصر دول المحيط الهادئ بأسرع مما كان يعتقده أي شخص.
في الواقع، ستشهد أغلب دول العالم تغيرات سريعة بشكل مفاجئ، ولا يقتصر ذلك على الغرب فقط. في الواقع، كانت الدول النفطية تُدرك من خلال ما يتوقعه الخبراء أن الطلب على النفط سيبلغ ذروته خلال السنوات القادمة ثم ينخفض قبل سنة 2030. واليوم، تعيش هذه الدول مثالا عمليا على ذلك، حيث انخفضت أسعار النفط إلى أدنى مستوياتها، لدرجة أن الدول لم تعد قادرة على ضبط ميزانياتها. في المملكة العربية السعودية، أصبحت الحاجة لتنويع مصادر الدخل بعيدًا عن إنتاج الطاقة أكثر إلحاحا، وليس هناك ما يكفي من السيولة لتحقيق ذلك. وبالنسبة للدول الأخرى على غرار روسيا، التي تعتمد على عائدات ضخمة من النفط والغاز، فإن إشارات الخطر تتضح أكثر فأكثر.
قد تبدو هذه التغييرات المتسارعة على الصعيد العالمي بعيدة عنا قليلا، لكنها ستعمّق في المقابل التجاذبات السياسية حول قضايا مثل غياب العدالة الاجتماعية والديون وصلاحيات الدولة، بشكل يؤثر مباشرة في حياتنا. إذا تحدثنا عن الدول المتقدمة فحسب، فإن عشرات الملايين من الناس يفقدون وظائفهم ومصادر دخلهم، وهم في الغالب أولئك الذين كانوا بالأساس الفئة الأقل ثراءً.
أدى الاعتماد المتزايد على التكنولوجيات الحديثة في العقود الأخيرة إلى توسيع فجوة التفاوت الاجتماعي، حيث زادت عائدات أصحاب رؤوس الأموال بدلا من العمال، وبقي الأشخاص الأقل تعليما خارج منظومة الاقتصاد العالمي. هنا، سنشهد الركود الأكثر حدة في حياتنا، وستولي الحكومات اهتمامها بالقضايا الأكثر إلحاحا، أي فرض الضرائب على الأثرياء، والاعتناء بأصحاب الدخل الضعيف، وإلزام الشركات بتحمل مسؤولية موظفيها.
يُعتبر الشباب الفئة الأكثر تضررا على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي – فالسنة التي تذهب سُدى لا يمكن أن تعود أبدا، وفرص الوظائف التي كانوا يأملون في الحصول عليها ستكون أقل من السابق – وستكون قضية شطب الديون في طليعة السجالات الانتخابية. ستطالب الأحزاب السياسية في حملاتها الانتخابية بتخفيف الديون أو شطبها كليا بالنسبة للأفراد، وبأن تلغي البنوك المركزية الديون المستحقة على الحكومات، مع ما يترتب على ذلك من تزايد نسب التضخم مستقبلا.
معظم التحوّلات المتسارعة، تداهمنا بقوة، ولكن بإمكاننا أن نجابهها إذا ما راقبنا قدومها بالشكل المطلوب
أما أكثر ما أربكنا، فهي الأسئلة الملحة حول من يملك بياناتنا، وكيف ستستفيد الحكومات من تلك البيانات. لقد داهمتنا هذه الأسئلة في أسابيع قليلة وليس في سنوات. بمجرد أن نحمل جميعا تطبيقا على هواتفنا لإظهار مكاننا ومن التقينا به، سيزداد الضغط لاستخدام هذه المعلومات لأغراض أخرى. هل نستخدمها لوقف هجوم إرهابي أم لحل جريمة قتل أو للكشف عن جاسوس؟ إذا ثبت ذلك، فيجدر التساؤل عن ملامح الحدود الجديدة بين الدولة والفرد؟
إن معظم هذه التحوّلات المتسارعة كما ذكرت، تداهمنا بقوة، ولكن بإمكاننا أن نجابهها إذا ما راقبنا قدومها بالشكل المطلوب. إذا نظرنا إلى الأزمة بتفاؤل، يمكن أن نرى أنها تحفّز الإبداع، حيث أصبح ابتكار أفكار جديدة في مجالات الرعاية الصحية والاتصالات أكثر إلحاحا، وبعضها سيغير حياتنا بشكل أسرع وعلى نحو إيجابي، مما كان سيحدث لولا هذه الأزمة. إذا كان من الممكن إبطاء أي من التحوّلات الخطيرة التي ذكرتها، من خلال تطويق هذه الأزمة، فسيكون ذلك بفضل تجارب الأدوية التي تُجرى حاليا، والاختبارات المستحدثة لاكتشاف الفيروس، وأجهزة الرعاية الصحية التي تم ابتكارها مؤخرا.
على أي حال، لا شك في أن الأوقات التي نقضيها في المنزل هذه الأيام، تبدو وكأنها تمر أبطأ من أي وقت مضى. لكن كوفيد-19، من خلال تأثيره البالغ على المجتمعات والحكومات وعلى توزيع النفوذ في العالم، سيجعل الأمور تتطوّر بشكل سريع جدا.
المصدر: التلغراف