شكل قيام الثورة الإسلامية عام 1979، البداية العملية لسعي إيران نحو تحقيق حلمها الإمبراطوري في التأسيس للحكومة الإسلامية العالمية التي يقودها الولي الفقيه، وفق ثوابت إستراتيجية جديدة وضع أسسها المرشد الأعلى للثورة الخميني، بناءً على سياقات جيوسياسية تجاهلت حقائق التاريخ والجغرافيا، وهو توجه يستند في أساسه التاريخي للمجالات الجيوستراتيجية التي تحركت في إطارها الإمبراطورية الفارسية القديمة، وهو ما أدخل منطقة الشرق الأوسط بدورها في دوامة من الصراعات العسكرية والمذهبية، التي ما زالت تأثيراتها شاخصة حتى هذا اليوم.
المنظور الإيراني للأنظمة الإقليمية
تتمثل المشكلة الإستراتيجية التي تواجهها إيران اليوم، في أنها ليست طرفًا في أي نظام إقليمي (أمني أو سياسي)، فبالنظر لموقعها الجيوبوليتيكي وعمقها التاريخي وتأثيرها الاقتصادي والعسكري، إلا أنها لم تنجح في أن تكون عضوًا طبيعيًا في أي جماعة إقليمية، ولعل النظرة الاستعلائية والبعد الثوري من أهم الأسباب التي منعت إيران من ذلك، فالنظرة الاستعلائية متمثلة في أنه لا يمكن لها القبول في أن تكون طرفًا مشاركًا في صياغة الترتيبات الأمنية، بل لا بد أن تكون المتحكم في صياغة هذه الترتيبات ومؤثرة فيها، بناءً على فرضية أن أغلب الدول التي تشكل جغرافية الشرق الأوسط اليوم، كانت خاضعة بشكل أو آخر لسيطرة الإمبراطورية الفارسية، أما البعد الثوري فيتمثل هو الآخر بأنه يرفض كل هذه السياقات الإقليمية المحيطة بإيران، على اعتبار أنها جزء من سياسة استعمارية فرضتها القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية.
إن الفكرة السائدة هي أن الشرق الأوسط كان دائمًا منطقة غير مستقرة، وكلما اتجهت نحو الاستقرار نسبيًا، بصورة يمكن معها تصور ملامح نظام أمني إقليمي جديد، يقع انفجار ما بأشكال غير متوقعة، لتبدأ العملية من جديد، والقضية هذه المرة أن الانفجار الكبير لم يقع بفعل حرب إقليمية كحالة حرب 1967، أو حركة غير تقليدية خارج الصندوق كحالة 1977، أو حادثة دولية كبرى كحالة حرب أفغانستان 2001، أو غزو خارجي كحالة احتلال العراق 2003، أو حتى ثورة منفصلة كما جرى في إيران عام 1979، وإنما انفجرت المنطقة من الداخل بفعل سلسلة متتالية من الثورات الشعبية ضد نظم سياسية كحالة مصر وليبيا وسوريا، بما أدى إلى تصدع عدة وحدات إقليمية، مع خلق بيئة إستراتيجية لم يعد من الممكن معها بالنسبة لصانع القرار أن يتوقع ما سيجري مستقبلًا، والتوقع بالمناسبة هو جوهر فكرة النظام الجديد.
وانطلاقًا من هذه الرؤية يمكن القول إن منطقة الشرق الأوسط تخلو من منظمة أمنية إقليمية شرعية وشاملة لجميع الأطراف الإقليمية، ورغم كل الجهود التي بذلت وتبذل في هذا الإطار، فإنها لم تنجح، فجامعة الدول العربية ومبادرة الحوار عبر المتوسط والمبادرة الأمنية التي أطلقها حلف الشمال الأطلسي تحت مسمى منتدى إسطنبول للتعاون، لم تحقق نجاحات تذكر على الصعيد الأمني، بل حتى مجلس التعاون الخليجي يندرج تحت هذا الإطار.
ومن هنا ينظر صانع القرار الإيراني بأن ذهاب إيران باتجاه الدعوة لتشكيل جماعة إقليمية جديدة، على أنقاض المنظمات الإقليمية الحاليّة، ضرورة ملحة، وهي ضرورة عبرت عنها إيران في أكثر من مناسبة، كان آخرها تأكيد الرئيس الإيراني حسن روحاني لأمير الكويت صباح الأحمد، خلال اتصال هاتفي جرى بين الطرفين يوم الإثنين الماضي، أن الأمن الإقليمي سيتحقق من خلال التعاون بين دول المنطقة، وأضاف روحاني “نأمل أن تنبه هذه الظروف الصعبة بعض الدول لإعادة النظر في أخطائهم، فالأمن الإقليمي ليس إلا تعاونًا وصداقة بين دول”.
المشهد العسكري الإيراني بعد غياب سليماني عن الساحة الإقليمية، جعل صانع القرار الإيراني يدخل تحديثات اضطرارية
تحركات إيرانية جديدة
في الأيام القليلة الماضية، شهدت تحركات إيرانية مثيرة، وعلى الرغم من أنها جاءت في سياقات مختلفة، فإن الهدف الذي يجمعها، هو مشهد إقليمي جديد تكون إيران عضوًا فاعلًا به، إذ إن صانع القرار السياسي في إيران، يعاني اليوم من تعقد الهوامش الإستراتيجية التي يتحرك من خلالها، ولعل هناك الكثير من الأسباب الإستراتيجية التي جعلته يواجه مصاعب في هذا الإطار، فإلى جانب تداعيات جائحة فيروس كورونا وغياب قاسم سليماني والعقوبات الأمريكية المتواصلة، بدأ هناك ما هو أكثر خطورة، ألا وهو نفوذها الإقليمي الذي يعاني اليوم من حالة سبات إستراتيجي، نتيجة تفتت ضوابط الإيقاع الإستراتيجي والحالة النيوتينية لمتغيرات الشرق الأوسط.
فالمشهد العسكري الإيراني بعد غياب سليماني عن الساحة الإقليمية، جعل صانع القرار الإيراني يدخل تحديثات اضطرارية/تكتيكية على طبيعة هذا المشهد، بحيث تحول من مفهوم القيادة المركزية إلى القيادة المحلية اللامركزية، ومن إستراتيجية الدفاع المتقدم إلى إستراتيجية الاستنزاف، وهي متغيرات جعلت مسألة الحفاظ على النفوذ الإقليمي، ملفًا حاضرًا في كل نقاشات الساسة وصناع القرار في إيران.
جاءت الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إلى سوريا يوم أمس، لترسل رسائل متعددة في هذا الإطار، ومحاولة تعويم صورة إيران “الفاعلة” على الساحة السورية.
والحال أن التطورات الصحية التي شهدتها طهران مع أزمة كورونا من جهة، والتطورات الميدانية التي سجلها الميدان السوري في الآونة الأخيرة لا سيما لناحية العمليات التركية في الشمال، وتفاهم أنقرة وموسكو على إعادة إحياء اتفاقات وقف النار في مدينة أدلب وريفها من جهة ثانية، وضعت إيران على الهامش في الحدث الإقليمي عمومًا والسوري خصوصًا، وقد وجدت على ما يبدو أن هذه الحقيقة تستدعي منها استئناف نشاطها على الساحة، للقول للحلفاء قبل الخصوم، إنها لا تزال صاحبة دور مؤثر في سوريا، فكانت زيارة ظريف للأسد، ومع ذلك يمكن القول إن المرحلة المقبلة ستشهد مزيدًا من الإصرار الروسي الأمريكي على تطويق نفوذ إيران في سوريا.
وفي نفس السياق، دخلت إيران مجددًا على خط الشؤون الداخلية العراقية، في وقت يكافح رئيس الوزراء المكلف مصطفى الكاظمي، الذي شدد سابقًا على ضرورة عدم تبعية الحكم لأي جهات خارجية، من أجل تشكيل حكومة جديدة، بالتزامن مع أزمتي النفط وفيروس كورونا، فأعلن رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية اللواء محمد باقري، أن بلاده تتابع قضية تنفيذ الحكومة العراقية لقرار البرلمان القاضي بإخراج القوات الأجنبية من البلاد.
وقال باقري في كلمة ألقاها أمس خلال المؤتمر العام لقادة قوى الأمن الداخلي عبر الدائرة التليفزيونية المغلقة: “الشعب العراقي ومحور المقاومة ردوا بقوة على عملية اغتيال سليماني، بحيث تمت المصادقة على إخراج القوات الأمريكية من العراق في البرلمان العراقي وهو أمر ليس صغيرًا”، مضيفًا “بعد اغتيال الفريق الحاج سليماني ورفاقه، تمت متابعة قضية إخراج القوات الأمريكية من العراق”، مشيرًا إلى أن الحكومة العراقية تسعى لتنفيذ القرار، وسيتابع محور المقاومة تحقيق هذا القرار.
لو حدث شيء للسفن الأمريكية العاملة بالوقود النووي في مياه الخليج، فلن يبق أي كائن حي وأي مياه نظيفة في المنطقة
تحذير بحري إيراني
بعد ستة أيام من احتكاك بحري هو الأول من نوعه منذ إطلاق الولايات المتحدة الأمريكية مهمة “سنتينال” لحماية الملاحة في منطقة الخليج العربي، دعا المتحدث باسم الخارجية الإيرانية عباس موسوي القوات الأمريكية إلى الالتزام بقواعد الملاحة البحرية، متهمًا إياها بمحاولة منع دوريات الحرس الثوري من تنفيذ جولات تفقدية بمياه الخليج العربي، ومؤكدًا في الوقت ذاته استعداد إيران للحوار مع دول الجوار.
وقال موسوي في تصريحات أوردتها وكالة الأنباء الرسمية أمس: “ينبغي للقوات الإيرانية في مياه الخليج أن تتمكن من تنفيذ جولاتها التفقدية بإحكام وهدوء”، مضيفًا “ندعو القوات الأمريكية إلى الالتزام بقواعد الملاحة البحرية في الخليج، وألا تجبر قواتنا على توجيه التحذيرات لها، نعتبر وجود القوات الأجنبية، وخاصة الأمريكية في المنطقة، غير شرعي وعاملًا لزعزعة الأمن”.
وقال قائد القوة البحرية في الحرس الثوري الأدميرال علي رضا تنخسيري: “لو حدث شيء للسفن الأمريكية العاملة بالوقود النووي في مياه الخليج، فلن يبق أي كائن حي وأي مياه نظيفة في المنطقة، لمدة تتراوح بين 10 إلى 12 سنة”، وأضاف تنخسيري “طهران أبلغت دول الخليج بذلك”، قائلًا: “هذا الأمر سيكون خطيرًا جدًا عليكم، وينبغي لكم الحذر”.
مشيرًا إلى أن إيران لديها الكثير من منابع المياه العذبة نظرًا لمساحتها الجغرافية الواسعة”، وشدد على أن “قوات الجيش والحرس الثوري ترصدان التحركات في مياه الخليج ومضيق هرمز وبحر عمان باستمرار”، مؤكدًا: “لا يمكن لأي سفينة أن تدخل المنطقة من دون أن نكون مطلعين على كل تفاصيلها”. يلخص كل ما سبق من تحركات جدية وتصريحات حادة الاستراتيجية الجديدة التي تحاول إيران فرضها على الساحة السياسية من أجل إعادة فرض هيمنتها على مجريات الأحداث في المنطقة.