تعتبر قضية “الأمن الغذائي” إحدى أهم القضايا التي تشغل دول ومنظمات العالم منذ نصف القرن الماضي، فالغذاء يبقى دائمًا وأبدًا السبيل الأول للجماعات لتحقيق الاستمرار والنجاة، إن صح التعبير، وتبرز أهمية هذه القضية بالضرورة، في وقت الأزمات والمحن كالوضع الحاليّ الذي يعانيه العالم بسبب تفشي فيروس كورونا المستجد.
وحاليًا، تسعى جميع دول العالم إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي من السلع الأساسية، خصوصًا أن الأزمة الحاليّة غير مقرونة بوقت محدد لانتهائها، وهذا ما يشكل خطرًا على مستقبل الأمن الغذائي العالمي القريب، وبالفعل حذر مديرو وكالتين تابعتين للأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية من خطر حصول “نقص في المواد الغذائية” في السوق العالمية، بسبب الاضطرابات في التجارة الدولية وسلاسل الإمدادات الغذائية جراء تفشي فيروس كورونا.
وهنا، نحاول الحديث عن الأمن الغذائي في الوطن العربي ووضعه وإشكالياته وإمكاناته ومقوماته، وكيف تعززت أهميته في الفترة الحاليّة.
ما الأمن الغذائي؟
يعرف الأمن الغذائي بأنه قدرة الدولة على تأمين المخزون الكافي من السلع الغذائية للأفراد خلال فترة زمنية محددة، لا تقل عن شهرين ولا تزيد على سنة، إلى حين أن تستطيع تجديد هذا المخزون مرة أخرى، وتختلف هذه المدة حسب الدولة والمادة الغذائية نفسها.
وبحسب تعريف منظمة الأغذية والزراعة الدولية (الفاو)، فإن الأمن الغذائي هو توفير الغذاء لجميع أفراد المجتمع بالكمية والنوعية اللازمتين للوفاء باحتياجاتهم بصورة مستمرة من أجل حياة صحية ونشطة.
أما عن مقومات الأمن الغذائي، فهي تتمثل في خصائص الدولة الجغرافية والمناخية ووفرة المصادر المائية ووفرة الموارد البشرية ووفرة الأراضي الزراعية والمراعي والغابات، ووفرة الثروة الحيوانية وامتلاك التكنولوجيا الحديثة.
يبدو أن من السهل تحقيق الأمن الغذائي العربي، فالدول العربية تمتلك أراضي زراعية واسعة كمصر والسودان
حاولت الدول العربية، اللحاق بالقضايا الجوهرية التي كان العالم يتحدث عنها القرن الماضي، ووضعوا تعريفًا للأمن الغذائي العربي في إعلان تونس الصادر عن وزراء العرب عام 1996، وهو: “توفير الغذاء بالكمية والنوعية اللازمتين للغذاء والصحة بصورة مستمرة لكل أفراد الأمة العربية اعتمادًا على الإنتاج المحلي أولًا على أساس الميزة النسبية لإنتاج السلع الغذائية لكل دولة عربية، وإتاحته للمواطنين العرب بأسعار تتناسب مع دخولهم وإمكاناتهم المادية”.
وبالنظر إلى تعريفه ومقوماته، يبدو أن من السهل تحقيق الأمن الغذائي العربية، فالدول العربية تمتلك أراضي زراعية واسعة كمصر والسودان، كما تمتلك موارد بشرية هائلة أغلبها تعمل في مجال الزراعة، إضافة لأن هناك دولًا، كدول الخليج، تمتلك المال الذي يوفر التكنولوجيا الحديثة.
واقع الأمن الغذائي العربي
في عام 2008، أظهرت التقارير بأن الدول العربية لم تحقق الاكتفاء الذاتي، بل إنها في حالة عجز غذائي متنامٍ، على الرغم من أنها تمتلك مقوماته، فحجم الإنتاج العربي من المواد الغذائية لا يكفي لتغطية الاستهلاك المحلي العربي وهو ما يستدعي اللجوء إلى الاستيراد لتغطية هذا العجز، ويبين ذلك قيمة الواردات العربية من مجموعات السلع الغذائية الرئيسة.
وأشار تقرير أوضاع الأمن الغذائي العربي 2008 الصادر عن المنظمة العربية للتنمية الزراعية إلى ارتفاع الواردات من نحو 28 .27 مليار دولار عام 2006 إلى نحو 70 .32 مليار دولار في العام 2008 بنسبة ارتفاع نحو 8 .19%، وأشارت بعض التقديرات إلى أن الدول الخليجية وحدها تستورد نحو 90% من المواد الغذائية من الخارج، وهو ما يعنى ارتفاعًا كبيرًا في الفجوة الغذائية الخليجية.
كما أصدرت الأمم المتحدة دراسة عام 2018 عن آفاق تعزيز الأمن الغذائي في العالم العربي، تستعرض الوضع المحتمل للغذاء والزراعة في المنطقة عام 2030، مفاده أن الدول العربية غالبًا لن تحقق الاكتفاء الذاتي من الغذاء وستواصل اعتمادها على التجارة لتوفير احتياجاتها الغذائية وذلك على الرغم من الزيادة المحتملة في الإنتاج المحلي في هذا القطاع.
إشكاليات الأمن الغذائي العربي.. السعودية ومصر نموذجًا
إن واقع الدول العربية يحتم عليها توفير الأمن الغذائي لمواطنيها – على الأقل -، فلو أخذنا مصر والسعودية كنموذجين، نجد أن مصر “الزراعية” تعتمد في غذائها على الفول والحبوب بشكل كبير، كما نجد أن السعودية “الثرية” تعتمد على الأرز بشكل أساسي، ولكن مع الأسف، الواقع يختلف تمامًا.
كانت مصر تعتبر سلة غذاء الوطن العربي، وكذلك نموذجًا تاريخيًا لاكتفائها الذاتي في المنتجات الغذائية، نظرًا لتوافر المساحات الزراعية الكبيرة ووفرة الأيدي العاملة، وكانت تعتمد في أزماتها التاريخية على الفول والقمح، إلا أنها أصبحت اليوم من أكبر المستوردين لهاتين السلعتين.
وباختصار شديد، يعود هذا الأمر إلى عوامل كثيرة، منها فساد الحكومات وارتفاع تكلفة الإنتاج وانخفاض عوائد المحصول وتوقف التوسع فى الرقعة الزراعية بما يكفي الاحتياجات والزيادة السكانية المهولة التي ترافق غياب خطة حقيقية لتوفير المحاصيل الإستراتيجية التي تكفي السكان، حالها كحال عدة دول عربية أخرى.
ومع مرور الزمن، تحولت مصر تدريجيًا من الإنتاج إلى الاستيراد، واعتمدت على ثلاث دول رئيسية هي: ليتوانيا وإنجلترا وأستراليا، حيث أظهرت تقارير عام 2017، أن مصر تستورد فولًا بنحو 125 مليون دولار سنويًا.
هذا الاعتماد الكبير على الاستيراد، وضع مصر تحت الخطر الدائم في ظل تغير الأسعار العالمية، وقد تضررت مصر بالفعل بشكل كبير عام 2019، بسبب موجة الجفاف التى ضربت أوروبا خلال العام الماضي.
هناك إشكاليات أخرى تواجه الأمن الغذائي العربي كالنمو الديموغرافي السريع والنسبة المتدنية من الأراضي الزراعية مع تزايد نسبة التصحر
فقد أثر هذا الجفاف على أداء المحصول، وبالتالي تراجع المعروض العالمي من الفول لدى أكبر الدول المنتجة له، ولم تجد مصر ما يكفيها من هذا المحصول الأساسي لمواطنيها، ولم تعمل حتى على مشاريع التوسع الزراعية وتشجيع الفلاحين في ذلك.
وعلى نفس الآلية، أصبحت مصر أيضًا أكبر دولة مستوردة للقمح في العالم، بعد أن كانت أكبر الدول تصديرًا له، حيث استوردت العام الماضي وحده أكثر من 3 ونصف مليون طن قمح، وأعلن وزير التموين المصري أن بلاده تمتلك احتياطًا إستراتيجيًا منه يكفيها لـ4 شهور فقط.
أما السعودية، فتعتبر من بين الدول الأعلى استهلاكًا واستيرادًا للأرز، ومن المفهوم أن السعودية – مثل أغلب دول الخليج -، بلاد صحراوية تعاني من قلة موارد المياه، ولذلك فإن عملية الزراعة فيها صعبة، وخصوصًا لمحصول الأرز.
وبالتالي تضطر دول الخليج للاستيراد، معتمدة في ذلك على سياسة التوازن لأنها دول مصدرة للنفط، ولكنها تتأثر بأسعار النفط وأسعار المحاصيل العالمية، وتدخل في أزمة الحبوب الإستراتيجية كالتي دخلت فيها مصر، ولم تلجأ حتى الآن، وخصوصًا السعودية، لحل الاستثمار المباشر بزراعة الأرز في الدول التي تستورد منها، كالهند وباكستان، لذلك تبقى دائمًا تحت رحمة ظروف السوق العالمية.
بشكل عام، فإن أغلب الدول العربية تواجه أزمة في الأمن الغذائي، وتحديات زراعية، بسبب عجز أنظمتها وغياب إستراتيجيات وبرامج التنمية الزراعية بين الدول العربية التي تشمل زيادة إنتاج المحاصيل والمياه، وتحسين كفاءة استخدام المياه، والحد من خسائر ما بعد الحصاد وغيرها، والتشجيع على استخدام مياه الصرف الصحي المعالجة لأغراض الري.
ثمة إشكاليات أخرى تواجه الأمن الغذائي العربي، كالنمو الديموغرافي السريع والنسبة المتدنية من الأراضي الزراعية مع تزايد نسبة التصحر وقلة الأمطار وعدم السيادة على مصادر المياه وضعف التقنيات والتكنولوجيا المستخدمة ونقص الدعم للمستثمر الفلاحي، إضافة إلى المنافسة الشرسة في الأسواق العالمية.
الأمن الغذائي العربي وكورونا
يعاني العالم بأسره اليوم من أزمة معقدة ومركبة بسبب تفشي فيروس كورونا، تفوق أزمة العام 2008، وهي الأزمة الأخطر منذ أزمة الكساد الكبير عام 1929، فالدول مهددة بأزمات اقتصادية كبيرة ونقص في الغذاء، والدول العربية ضمن ذلك بكل تأكيد.
ويتبين اليوم أن هناك دولًا عربية استطاعت تحقيق الأمن الغذائي لشعبها، كالمغرب وتونس والجزائر والأردن وقطر والكويت التي تمتلك مخزونات كافية لأشهر قادمة من السلع الأساسية والأدوية والمستلزمات الطبية في معركتها مع فيروس كورونا، وهناك دول تعاني في تحقيقه، نظرًا لأسباب كثيرة.
وبكل تأكيد تتباين فترة مقدرة كل دولة في تحقيق الأمن الغذائي عن الأخرى، ولعل قطر أفضل النماذج العربية في فهم إستراتيجية الغذاء في الأزمات، فقد رفعت مخزونها الإستراتيجي تحسبًا لأي تعثرات محتملة في سلاسل الإمداد، وتمتلك حاليًّا مخزونًا إستراتيجيًا من المواد الغذائية والاستهلاكية والإمدادات الطبية يفي بكل احتياجات المواطنين والمقيمين.
أما الكويت، فقد أعلنت بأن مخزونها الإستراتيجي من الأغذية آمن وكافٍ لستة أشهر قادمة، كما أنها قدمت اقتراحًا لمجلس التعاون الخليجي، ينص على إنشاء شبكة أمن غذائي خليجية متكاملة موحدة، لتحقيق الأمن الغذائي النسبي لدول المنظومة، التي يعتبر وضعها أفضل من باقي الدول العربية في الأمن الغذائي.
ختامًا، فإن مسألة تحقيق الأمن الغذائي تظهر خلال الأزمة أو في نهايتها، حيث يعتبر أنه قد تحقق فعلًا عندما يكون الفرد لا يخشى الجوع أو أنه لا يتعرض له، واليوم تواجه جميع الدول العربية خطر الجوع، ومن المتوقع أن تنجو بعضها ويقع بعضها الآخر.