ترجمة وتحرير: نون بوست
مع انشغال الجميع بفيروس كورونا، لم تظهر أي مؤشرات على إمكانية تراجع حِدّة أحد أطول الصراعات في الشرق الأوسط، ويبدو أن الأطراف الخارجية مصممة على تأجيج الوضع. يهتم صانعو السياسة الأمريكيون في الغالب بالدور المتصاعد الذي تلعبه روسيا، ولكن الولايات المتحدة والقوى الأخرى يتجاهلون الدور الذي تلعبه الإمارات العربية المتحدة على الساحة الليبية. وفي الحقيقة، يحتاج هذا الواقع إلى التغيير إذا كان المجتمع الدولي جادًا بشأن التوصل إلى حل بين الأطراف المتحاربة في البلاد.
يتمثل أحد أهم دوافع الإمارات في دعمها للمشير خليفة حفتر في معاداتها لتيارات الإسلام السياسي، حيث تريد أبوظبي إرساء حكم استبدادي في ليبيا من شأنه أن يقضي على كافة أشكال الإسلام السياسي، مما يجعلها في خلاف مع قطر وتركيا اللتين تفضلان أن يحكم الإسلاميون البلاد، أو يشاركوا في السلطة على أقل تقدير.
لبلوغ تلك الغاية، كانت الإمارات قد موّلت ودعمت سياسيا الانقلاب على الرئيس المصري المُنتخب ديمقراطيا محمد مرسي في سنة 2013. وفي لعبة خاسرة للجميع، حفّزها تولي الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي السلطة في مصر، والصراعات ما بين دول الخليج، استثمرت أبو ظبي والدوحة وأنقرة المظالم التي تعرض لها الليبيون في فترة ما بعد الثورة، وأحبطوا الانتقال الديمقراطي، فانزلقت البلاد إلى حرب أهلية.
تراجع دور تركيا وقطر في ليبيا تدريجيا بعد سنة 2014، ويرجع ذلك جزئيا إلى عدم تقبل قسم كبير من الشعب الليبي للإسلاميين، ولكن أساسا بسبب بدء المسار السياسي الذي دعمته الأمم المتحدة. لكن في الوقت الذي وحّد فيه المجتمع الدولي جهوده للتوصل إلى حل سياسي، توسع حضور الإمارات في البلاد.
منذ الرابع من نيسان / أبريل 2019، نفذت أبو ظبي بمفردها أكثر من 850 غارة بواسطة طائرات دون طيار وطائرات نفاثة نيابة عن حفتر. تُظهر الإحصائيات أيضًا أنه منذ كانون الثاني / يناير 2020، حلّقت أكثر من مئة طائرة نقل جوي يُشتبه في أنها تحمل أطنانًا من الأسلحة من الإمارات العربية المتحدة إلى شرق ليبيا ومصر. كما اتُهمت أبو ظبي أيضا بخداع العمال السودانيين للعمل كمرتزقة مع قوات حفتر، إلى جانب نقل وقود الطائرات لدعم جهوده الحربية.
تمادى بعض السياسيين إلى درجة تبرير سلوك الإمارات العربية المتحدة، وذلك لأنهم يتفقون مع طموحاتها الجيو اقتصادية
يُعتقد أن غارات الطائرات دون طيار الإماراتية قتلت عشرات الأشخاص وتسببت في أضرار مادية جسيمة، ليتكبد المدنيون في ليبيا فاتورة باهظة للتدخل الإماراتي. هذا الوضع لا يؤدي إلى إدامة الصراع فحسب، بل يزيد من تفاقمه، مما يخلق كارثة إنسانية كبرى في إحدى أكثر مناطق العالم هشاشة.
مع ذلك، لم تبذل الأمم المتحدة، ولا القوى العظمى التي تقدم غطاء سياسيا لأبو ظبي، أي الولايات المتحدة وفرنسا، جهودا تُذكر من أجل كبح هذا التدخل، وتمادى بعض السياسيين إلى درجة تبرير سلوك الإمارات العربية المتحدة، وذلك لأنهم يتفقون مع طموحاتها “الجيو اقتصادية” التي لا حدود لها. ربما كانت تلك الطموحات مفهومة نوعا ما في السنوات الماضية، ولكن مع ما تبديه الإمارات حاليا من استعداد تام لتدمير طرابلس وبنيتها التحتية، فقد أصبح واضحا أن استثمارها الأيديولوجي في حفتر يفوق أي اعتبارات اقتصادية مستقبلية.
لكن حتى الأهداف الإيديولوجية المعلنة للإمارات العربية المتحدة لم تعد تلقى صدى لدى العامة. في الواقع، يشعر العديد من الليبيين بخيبة أمل مما خلّفته الثورة، ويرحّبون بقدوم قائد قوي بإمكانه إرساء الأمن والاستقرار. وبصرف النظر عن التداعيات التي يطرحها هذا السيناريو على مستقبل الديمقراطية في البلاد، فإن قوة حفتر مشكوك فيها.
في الواقع، لم تكن انتصاراته التي خلفت الكثير من الضحايا وأحدثت دمارا هائلا في بنغازي ودرنة، لتتحقق على الأرجح دون الدعم الإماراتي والمصري. كان قرب القاهرة من ليبيا وتوافق السيسي الإيديولوجي مع ولّي العهد الإماراتي محمد بن زايد مُعززًا لقوة حفتر، إذ اعتمد على الرجلين لمنحه التفوّق الجوي فضلاً عن الدعم الاستراتيجي والعتاد العسكري. أنشأت أبو ظبي قاعدة جوية خاصة بها في شرق ليبيا خلال سنة 2017، والمثير للسخرية أنها جدّدتها في خضم حوار سياسي يهدف إلى إنهاء النزاع. مكّن هذا الدعم من توسّع حفتر في مساحات شاسعة من البلاد مع استمرار أبوظبي في توفير الغطاء الجوي.
خلال النزاع الحالي للسيطرة على طرابلس، لا تزال الطائرات المسيرة صينية الصنع التي يقودها الإماراتيون والطائرات ذات الأجنحة الثابتة تستخدم تلك القاعدة الجوية كمنصة إطلاق، مما يُسهّل تقدّم قوات حفتر. كان حفتر بحاجة إلى هذا الدعم المُكثف لتحقيق التفوّق العسكري الذي يتمتع به اليوم. لكن رغم أن ذلك منحه نفوذًا في النزاع المسلح ومحادثات السلام، فإن قدرته على حكم ليبيا بعد انتهاء الصراع دون دعم أجنبي مشكوك فيها إلى حد كبير.
على العموم، لم يكن التدخل العسكري الإماراتي وحده هو الذي منح حفتر المزيد من النفوذ. تنبع قوته من قدرة الإمارات على التأثير – وفي بعض الأحيان على تجميد – الدبلوماسية المحيطة بليبيا من خلال استغلال علاقتها الثنائية مع فرنسا. وفي ظل تراجع دور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وسّعت الإمارات دورها من خلال الاستفادة من عدم قدرة الدول الأوروبية على التأثير بشكل موحد دون حضور الولايات المتحدة. كانت فرنسا، الحليف الأوروبي الأساسي الذي حفّز أبوظبي على فرض رؤيتها في ليبيا، وقد أقامت معها بالفعل علاقات أمنية ثنائية وثيقة.
بدأ الدعم العسكري السري الفرنسي لحفتر في بنغازي في وقت مبكر من سنة 2015، بهدف مكافحة الإرهاب واستعادة الأمن في ليبيا. يبدو دعم باريس لمستبد مثل حفتر مناقضا لقيمها الديمقراطية الليبرالية، لكنه يتماشى بشكل عام مع جهودها لتطوير تحالفات عسكرية مع القادة المستبدين في أجزاء أخرى من إفريقيا لتأمين الساحل.
بالنسبة للإمارات العربية المتحدة، لم يكن العامل العسكري أهم ما استفادته من دعم باريس لمشروعها في ليبيا، بل العامل السياسي. أعطى انتخاب إيمانويل ماكرون رئيسًا لفرنسا سنة 2017 الإمارات فرصة لفرض وجودها في ليبيا، إذ قدم لها غطاءًا دبلوماسيًا مهما بسبب تبني ماكرون سياسة خارجية تخريبية.
ساعد تدّخل فرنسا في تحويل سيطرة حفتر على شرق ليبيا ومعظم البنية التحتية النفطية إلى مكاسب سياسية، وبدأ ذلك المسار عندما عقد ماكرون لقاء بين حفتر ورئيس وزراء حكومة الوفاق الوطني فايز السراج في 2017. وأضحى ذلك الاجتماع بمثابة اللبنة الأولى لمحادثات السلام التي تطورت منذ ذلك الحين، ودفعت بقية دول المجتمع الدولي للتحرّك بشكل تدريجي لدعم مبادرة تقاسم السلطة.
أفرز تورط أنقرة وموسكو مزيدا من الاهتمام والنقد من القوى الغربية أكثر من تورّط أبو ظبي
حتى إيطاليا، التي كانت لديها مخاوف بشأن إمكانية إعادة إنتاج ديكتاتور آخر في ليبيا، انخرطت في المسار السياسي. ولكن هذه المبادرة السلمية تعاني من قصور واضح، لأن بعض الأطراف الرئيسية ليست جادة في التوصل إلى تسوية. بعبارة أخرى، لم يكن حفتر ولا الإمارات راغبين بفكرة ليبيا الموحدة التي تقاسم فيها حفتر السلطة مع حكومة الوفاق الوطني.
علاوة على ذلك، نجحت الإمارات في إضعاف دور الدبلوماسية التي تهدف إلى بناء الروابط في كامل ليبيا. ومن خلال علاقاتها الثنائية وقدرتها على مسارسة الضغوط، ساعدت أبو ظبي حفتر في التملّص من الكثير من الإدانات العلنية لانتهاكاته. وكان حفتر في أعقاب المؤتمرات السياسية التي تستضيفها عواصم أجنبية غالبا ما يشن عمليات عسكرية تتعارض مع هدف هذه الاجتماعات. ولم يفعل صانعو القرار في الغرب الكثير لإيقاف حفتر، كما لم يشكوا قط في فعالية استراتيجيتهم لإقامة هدنة أو تبني خطة لتقاسم السلطة.
تجسّدت تناقض القوى الدولية التي تدعم حفتر بالتزامن مع ضغطها من أجل التوصل إلى اتفاقية سلام في مرحلة معينة في سنة 2019. بعد فترة وجيزة من توسع حفتر في عملية تدعمها فرنسا إلى منطقة فزان في جنوب غرب ليبيا، وسيطرته بشكل كامل على البنية الأساسية النفطية في البلاد، عقدت الإمارات العربية المتحدة اجتماعا استضافت فيه كلا من السراج وحفتر بهدف توقيع اتفاق لتقاسم السلطة.
وفي ظل حالة من التراخي الغربي، نكث حفتر بهذه الصفقة وهاجم طرابلس في نيسان/ أبريل 2019، ونشرت الإمارات طائراتها دون طيار لدعمه. ومن خلال قيامه بذلك، دمر حفتر العملية السياسية ووسّع الحرب الأهلية.
في الحقيقة، يوفّر الدعم الإماراتي الحماية بشكل فعّال لحفتر ويساعده في الإفلات التام من العقاب على الساحة الدولية. وما يزيد الطين بلّة حقيقة توّرط تركيا وروسيا مرة أخرى في النزاع، مستفيدين من عدم اكتراث المجتمع الدولي بهجوم حفتر في نيسان/ أبريل 2019.
وقد أفرز تورط أنقرة وموسكو مزيدا من الاهتمام والنقد من القوى الغربية أكثر من تورّط أبو ظبي. أرسل هذان البلدان مئات المرتزقة والمتعاقدين العسكريين، فضلاً عن أطنان من المعدات العسكرية إلى ليبيا، وقد تم إدانتهما بسبب ذلك، ولكن التدخل الإماراتي لا يزال يُعامل بقدر كبير من اللامبالاة.
في الحقيقة، تعتبر هذه العقبة الرئيسية أمام الوصول إلى تسوية طويلة الأمد في ليبيا. أدى تحيّز السياسيين الغربيين إلى توفير غطاء للإمارات وأنقذها من كل الانتقادات. ومع تعثر هجوم حفتر في الوقت الذي تعزز فيه أنقرة حضورها العسكري في ليبيا، تشعر الإمارات مرة أخرى أنها يمكن أن تُصعّد دون الخشية من أية عواقب.
في الوقت الراهن، يتعيّن على الدبلوماسيين الأوروبيين الضغط على باريس لإعطاء الأولوية لمقاربة أوروبية أكثر تماسكًا في مواجهة المصالح الضيقة لأبوظبي في ليبيا. وحتى يومنا هذا، فشلت اللقاءات السرية بين الدبلوماسيين الغربيين ونظرائهم الإماراتيين في الحد من التصعيد بسبب عزوفهم عن استخدام أدوات الضغط المتاحة.
يتعيّن على المسؤولين الأوروبيين والأمريكيين الضغط بشكل مشترك من خلال التهديد برفع السرية عن المعلومات المتعلّقة بجميع انتهاكات حظر الأسلحة التي فرضتها الأمم المتحدة في ليبيا، بما في ذلك الانتهاكات الإماراتية التي طال أمدها. إن التهديد برفع تلك المخالفات إلى لجنة العقوبات التابعة للأمم المتحدة، وما قد يجّره ذلك على سمعة أبو ظبي، من شأنه أن يفرض عليها تغيير سلوكها في ليبيا.
هذا من شأنه أن يكون أيضا تحذيرا جيدا للإمارات في ضوء تجاهلها للقانون الدولي في أماكن أخرى عدا عن ليبيا. ولعلّ الطريقة الوحيدة لكبح جماح الدعم الإماراتي لحفتر وما قد يفرزه ذلك من دمار في ليبيا، هو توحيد الجهود الدبلوماسية بين واشنطن والاتحاد الأوروبي.
المصدر: فورين بوليسي