عندما كان ثوار مصر يعتصِمون في ميدان التحرير بقلب القاهرة، مطالِبين بعزل ديكتاتور مصر حسني مبارك، وذلك بعد انطلاقة شرارة الربيع العربي في تونس أواخر عام 2010 التي انتهت بهروب بن علي أواسط يناير/كانون الثاني 2011 وإعلان نجاح ثورتها البيضاء، كان السؤال الكبير الذي يتردَّد في سوريا هو “هل سيزهر الربيع في دمشق؟”.
وهو السؤال الذي لم تستطع حتى ماكينة نظام الأسد الإعلامية تجاهله، رغم سياستها التي اعتادَت السكوت عن كل ما يحدث حولنا، وكأننا نعيش في عالم آخر موازٍ لا توجد فيه بلاد إلا سوريا ولا رئيس إلا الأسد ولا أحداث إلا ما تنقله الصحف الرسمية الثلاثة!
لكن الثورة السورية انطلقَت على أي حال، مُتوقَّعَةً من كثير من المراقبين المطّلِعين على طبيعة القمع وسلب الحريات داخل سوريا، وعلى طبيعة الشعب السوري والجيل الجديد الذي نشأ في كنف حكم البعث وعاش مقولة “الحيطان إلها أذان” واقعًا، في الوقت نفسه الذي انفتَحَت فيه البلاد على العالم بعد دخول القنوات الفضائية والإنترنت إليها، ومفاجِئَة لنظام آل الأسد في سوريا وأجهزة الأمن التي لم يخطر لهم يومًا أن الشعب الذي صرفوا جهدهم في قمعه لـ40 عامًا ما زال يمتلك إرادة تدفعه للخروج متحديًا سلطتهم.
ورغم أن السوريين ما زالوا مختلفين على الموعد الدقيق لبدء الثورة السورية، بين طيف واسع يرى الـ15 من مارس/آذار موعدًا لانطلاقتها، بعد استجابة عدد من السوريين في عدد من المحافظات لدعوات على الإنترنت لخروج المظاهرات، وعدد آخر يرى الـ18 من مارس/آذار موعد انطلاق الثورة بعد حركة الاحتجاجات الواسعة في درعا واستشهاد أول شباب سوريا برصاص الأمن، بينما يعتبر عدد قليل يوم الـ17 من فبراير/شباط هو التاريخ التأسيسي للثورة السورية وذلك عندما تجمهر عدد من السوريين في دمشق يرددون “الشعب السوري ما بينذل” على إثر إهانة شرطي لمواطن سوري، دافعين أحد وزراء النظام إلى القدوم للمنطقة وتهدئة الناس دون أن ينسى تحذيرهم بقوله “عيب يا شباب.. هي اسمها مظاهرة”، فالمظاهرة وأي شكل من المطالبة بالحقوق في سوريا الأسد هي بلا شك عيب، بل لا يختلف عنصرا أمن على كونه مؤامرةً على البلاد!
الشعب السوري ما بينذل.. دمشق 17 من فبراير/شباط 2011
رغم هذا الاختلاف على موعد انطلاق الثورة، فإن الجميع يتفقون أن السوريين تمكنوا أخيرًا بعد عقود على حكم البعث من تحطيم جدار الخوف.
حمزة الخطيب.. الطفل المعذّب
شكّلَت درعا البداية الحقيقية للاحتجاجات في سوريا، فعلى جدار إحدى مدارس مدينة درعا كتب بعض الأطفال متأثرين بأحداث الربيع العربي عبارات كان أحدها “أجاك الدور يا دكتور”، في إشارة إلى أن دور بشار الأسد للسقوط حان على غرار أقرانه في تونس ومصر، وهو ما اعتبره رئيس فرع الأمن السياسي في درعا عاطف نجيب – قريب بشار الأسد – تطاولًا غير مقبول، ليُوجه على الفور باعتقال الأطفال الذين تجرؤوا على “الحلم”! وكان على أولئك الأطفال الذين لم يتجاوز عمر أكبرهم الـ14 أنْ يعاينوا أساليب التعذيب التي تحترفها مخابرات نظام الأسد.
فما كان من أهالي درعا بعد رفض الأمن الإفراج عن الأطفال، إلا أن خرجوا في الـ18 من مارس/آذار في مظاهرة طالبوا فيها بالإفراج عن أبنائهم إضافة إلى عزل المحافظ ورئيس فرع الأمن السياسي، ليتمادى النظام أكثر في بطشه تبعًا لنظريته التي يؤمن بها “أن أي تنازل سيتبعه مزيد من التنازلات”، ويرد على احتشاد الأهالي بفتح الرصاص الحي عليهم، متسبّبًَا بسقوط أول شهيدين في الثورة من أبناء درعا، وهما محمود جوابرة وحسام عياش، لتتحول مظاهرة درعا هذه إلى مظاهرات، ويصبح كل تشييع للشهداء مناسبةً لمظاهرة جديدة، يسقط فيها شهيد جديد يتحول تشييعه إلى مظاهرة جديدة.
ومع تزايد عنف الأمن تجاه الأهالي بدأت قرى وبلدات ومدن حوران “محافظة درعا” بالانتفاض نصرةً لمدينتها، وانطلق أهلها يتحركون سيولًا بشرية إلى المدينة التي أحكم الأمن – مع قطع من الجيش – إغلاقها لمنع وصول الأهالي إليها، لتتحول درعا سريعًا إلى ساحة أولى مواجهات الثورة الخالدة بين حناجر الشعب ورصاص النظام.
تشييع أول شهداء الثورة.. درعا – 19 من مارس/آذار 2011
قريبًا جدًا من درعا وفي أثناء مرافقَتِه والده مع عدد من أهالي بلدة الجيزة محاوِلين الوصول إلى المدينة، تمكن الأمن من اعتقال حمزة الخطيب ذي الـ14 ربيعًا أواخر شهر أبريل/نيسان، لتُسَلِّمَه بعد شهر تقريبًا إلى أهله جثة هامدة، آمرين بدفنه دون “شوشرة”! لكن عددًا من شباب الجيزة أقنعوا أهله بتوثيق جثته، ليخرج مقطع الفيديو الذي هزّ السوريين – بل والعالم – لحجم التعذيب الذي تُبدِيه جثة الطفل المنتفخة، رصاصٌ في مناطق مختلفة، حروق، كسر في العنق، وفوق ذلك قطعوا عضوه التناسلي!
ليتحول الطفل الشهيد الذي اختار أهله الآية الكريمة من سورة الرعد {سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} |24| لتوضع على شاهد قبره، إلى أيقونة للثورة السورية تلهب مشاعر السوريين على امتداد البلاد.
قبر الطفل الشهيد حمزة الخطيب – درعا/الجيزة
مسجد عثمان.. جامع بلا مئذنة
جاءت نداءات الفزعة من حوران مسموعة عند السوريين، وانطلق أهالي مدن ومحافظات سوريا يفتَدون “درعا” بهتافهم، بعد أن اعتادوا فداء الأسد وابنه طوال أربعة عقود.
ورغم أن نظام الأسد حاول عبر جيوش الشبيحة المرتبطين بأجهزة مخابراته ضبط مناطق سوريا الثائرة، فإن الاستجابة الواسعة من السوريين حالَت دون ذلك، خاصة في بعض المحافظات التي بدا أنها خرجَت بكلِّيَّتها تملأ الساحات صخبًا وحرية، بما يستحيل معه على أجهزة الأمن وحدها مواجهتهم، ولا ينسى السوريون ما حَيُوا مشهد أهالي مدينة حماة المتجمعين في ساحتها المركزية كل جمعة، فيما بدا أكبر انتقام من المدينة لمأساتها على أيدي جيش نظام الأسد في ثمانينيات القرن الماضي، حتى انطبع في المخيال الشعبي العام صوت “القاشوش” يغنّي “يللا ارحل يا بشار”، مع جموع المتظاهرين المحتشدين أمامه يرددون لازمة الهتاف في ساحة العاصي، أو ساحة الحرية كما أطلق عليها روادها.
يللا ارحل يا بشار” – ساحة العاصي في حماة – يوليو/تموز 2011
إلى الشرق من حماة في محافظة دير الزور كان أبناء المدينة الفراتية قد حولوا “ساحة الباسل” – نسبة إلى أخ بشار الأسد الأكبر الذي قضى بحادث سيارة في تسعينيات القرن الماضي – إلى نسخة شبيهة بساحة العاصي، مطلقين عليها أيضًا اسم “ساحة الحرية”، حيث كانت تتجمع في هذه الساحة المظاهرات من مساجد المدينة وأحيائها المختلفة، مرددين فيها مطالب الثورة التي تمكَّن شاب من أبناء المحافظة من صياغتها في هتاف أشبه ببيان ثوري كامل، يُحَيِّي مدن سوريا كلها وينادي بإلغاء قانون الطوارئ والإفراج عن المعتقلين، إضافة إلى حرية الإعلام والحراك السياسي، إلخ.
البيان الثوري – دير الزور – يونيو/حزيران 2011
استمرّت المظاهرات تعم البلاد بأعداد تتزايد، فمع كل شهيد جديد كان يدفع عددًا أكبر من السوريين للخروج عن صمتهم، حتى كسرَت أواسط عام 2011 حاجز المليون متظاهر في محافظتين فقط هما ديرالزور وحماة، متحدّيةً القبضة الحديدية لأجهزة القمع في سوريا، في ظل تخبطٍ واضح لنظام آل الأسد، الذي استجاب لما اعتبره تمرّدًا على سلطته بالطريقة الوحيدة التي يعرفها:
“الوحشية.. والمزيد من الوحشية”
اتخذ النظام قراره بتحويل البلاد إلى ساحة حرب مفتوحة، عندما حرك قطعات جيشه قبيل شهر رمضان مطلع شهر أغسطس/آب 2011، لإطباق الحصار على محافظتي حماة ودير الزور الثائرتين، كما سبق له أن فعل في درعا وإدلب، ليبدأ مع أول أيام شهر رمضان اقتحامه للمحافظتين اللتين أغلق أهلها مداخل مدنهم وبلداتهم بحواجز هشّة من حاويات القمامة وبعض الأثاث ودخلوا إضرابًا مفتوحًا في محاولة سلمية للتأكيد على تمسّكهم بالثورة ومطالبهم.
فيما اختار عدد قليل من شباب المحافظتين مواجهة جحافل المقتحمين بفتات السلاح الشخصي دون أن يتمكنوا من إحداث أثر يذكر في مسيرة تقدم المقتحمين، أما مؤذّن جامع عثمان في دير الزور فقد اختار رفع الأذان مناجيًا السماء، ليجد جيش النظام رصاص رشاش ثقيل مثبت على دبابة أبلغ ردّ عليه، فاتحين النار على المئذنة حتى دمروها في مشهد انطبع بأذهان السوريين الذين باتوا يعرفون إلى أي حد يمكن لهذا النظام أن يذهب في قمعه للثورة.
هكذا دخل السوريون رمضان ثورتهم الأول، بلون الدماء ورائحة البارود، وبإصرار لا أظنّ أن الثوار أنفسهم اعتقدوا أنهم يمتلكونه.