“رمضان تجلى وابتسم”، “يا فرحتي بلقاك بعد زمان”، لطالما طرقت هذه الكلمات مسامعنا وما زالت حتى اليوم، مع اختلاف قائليها وتحول الأزمان وتطور المجتمعات ومواكبة الأحداث، كانت هذه الكلمات مقدماتٌ لقصائد تخرج بلحنها العذب من حناجر منشديها لتداعب القلوب المبتهجة بقدوم شهر الطاعة والرحمة والمغفرة، شهر رمضان “الذي أُنزل فيه القرآن”.
من مآذن الجامع الأموي في دمشق تتردد الأصداء الأولى مؤذنةً بقدوم الشهر الكريم، لتهيأ نفوس الناس وتغذيهم روحانيًا وإيمانيًا، للبدء بمراسم أيام الخير والبركة والعطاء، هذه الأيام التي كانت سوريا تلبس ثوبًا من نوع خاص، فلكل محافظةٍ ذكرياتها ولكل مدينة صوتها ولكل حيٍ نسائمه الرمضانية التي أضحت عادةً يتعارف عليها الجيل بعد الجيل، قبل أن يأتي الأسد بجيشه ليدمر كل شيء، إلا أن الذاكرة لا تدمرها البراميل ولا القصف ولا التدمير.
رمضان سوريا كان مميزًا، تكافلٌ اجتماعي ولقاءات وولائم وألعاب خاصة بهذا الشهر، عدا عن أن المطبخ السوري في هذه الأيام يجود بما لديه من الأطايب، إلا أن ذلك كله في كفة والحالة الروحانية والتعبدية في كفة أخرى، وإنما يدل على ذلك هوي الأناشيد الدينية الداعية إلى اغتنام الفرصة في الطاعة والعبادة، وكانت تلقي هذه الفنون بثقلها على الأجواء العامة في البلاد.
رابطة منشدي دمشق
لا يغيب عن خاطر السوريين أبدًا اسم “توفيق المنجد” المنشد الذي طالما عاشوا على قصائده الرمضانية، وصوته الذي يصدح في الإذاعة والتلفزيون في وقت السحور وعندما يحين وقت الإفطار، حتى أنه حاز على لقب “منشد شهر رمضان”، ومن أبرز تلك المقطوعات الرمضانية التي تغنى به المنجد “روّح فؤادك قد أتى رمضان.. فيه الهدى والبر والإحسان”، وكان لكل قسم من أقسام رمضان أنشودة خاصة به فالأبيات السابقة كانت في استقبال الشهر، أما في وداع رمضان فكانت صوت المنجد يصلك بلحنه الحزين ليشعل في القلب لوعة الفراق في أبيات “رمضاننا أنت المنى في كل عام بالهنا”، وأيضًا “فودعوه ثم قولوا له يا شهرنا هذا عليك السلام”.
كان المنجد أحد أبرز وجوه رابطة منشدي دمشق والتي تأسست في منتصف خمسينيات القرن الماضي، وكان مع إلى جانب المنجد أيضًا المنشدين نعيم أبو حرب ووجيه الحلاق وآخرون، لينضم لها لاحقًا المنشد سليمان داوود وحمزة شكور، وكانت هذه الفرقة التي عُنيت بالإنشاد الأصيل حصيلة جهود الشيخ عبد الغني النابلسي في القرن الثامن عشر، والذي كتب ولحن العديد من الموشحات والابتهالات الدينية وتخرج على يده أبرز المنشدين حينها، كما أن النابلسي هو من أسس للأذان الجماعي والتذكير والصمدية والتسابيح والتراحيم والموشحات الدينية، وهذه الأمور قد طُبعت في الذاكرة السورية الرمضانية والتي عاشت على سماعها أجيالٌ وأجيال على الرغم من أن عليها خلافًا شرعيًا بين من يقول بصحتها ومن يقول بأنها بدعة.
ساهم وجود الفرقة هذه في المسجد الأموي كمركز لعملها وأدائها لفنونها المختلفة وظهورها على الإعلام الرسمي بأن تأخذ طابعًا فريدًا في ذاكرة السوريين، خاصةً وأن الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، قد اعتمد عبر مرسوم رئاسي أنها هي الفرقة الوحيدة التي تحيي المناسبات الرسمية الدينية، وترأس الرابطة توفيق لغاية وفاته عام 1998 ثم استلم إدارتها سليمان داود ليترأسها حمزة شكور حتى توفي أيضًا.
الأذان الجماعي “أذان الجوق”
يُطلق من الجامع الأموي في دمشق أذانٌ يعرفه السوريون ولا يملونه، إنه الأذان الجماعي أو ما يعرف بـ “أذان الجوق”، ويكون هذا الأذان بأن يقول المؤذن عبارة منه ليتابعه خمسة مؤذنين بنفس الجملة وفي وقت واحد، ولكن بمدة زمنية أطول، ويُذكر في الكتب أن الأمويون هم أول من بدأ بهذا الأذان، ويعود الأذان الجماعي بشكله الحالي إلى الشيخ عبدالغني النابلسي.
كان هدف النابلسي من ذلك إيصال الأذان إلى أكبر مساحة واسعة حول المسجد، وقبل وصول مكبرات الصوت إلى العاصمة السورية، كان يُرفع الأذان مباشرة من مآذن الأموي المطلة على أنحاء المدينة وكان ما يقرب من 7 إلى 15 مؤذناً يجتمعون في مئذنة العروس لرفع الأذان، وفي السياق فإنه يتم الصدح به وفق مقامات عدة موزعة على الأيام، كمقام الصبا السبت والبيات الأحد والنوى الإثنين.
عبادةٌ متواصلة
انتشر فيروس كورونا في العالم، ليتسبب في إغلاق المساجد أمام المصلين والمعتكفين هذا العام، كانت المساجد في سوريا تكتظ وتغص بالمصلين في صلوات الفجر والعشاء والتراويح، وبعد صلاة الفجر يتجمع الناس في حلقات قراءة القرآن والذكر حتى طلوع الشمس، حتى إذا أتى العصر فيكون غالبًا في المساجد دروسٌ فقهية وعظات عن الشهر والحث على التكافل فيه واغتنامه.
تقيم المساجد الكبيرة في سوريا صلاة التراويح، منها من يصلي 8 ركعات ومنها من يصلي 20 ركعة، ومنها من يصلي 20 ركعة كل يوم بجزء من القرآن، حتى إذا شارف رمضان على الانتهاء تكون الختمة قد اكتملت، لتكون الليالي الأخيرة من رمضان مليئة بالدعاء والابتهال والصلوات والقيام والتهجد.
أذكر تمامًا كيف كان مسجد عبد الكريم الرفاعي في دمشق يغص بآلاف المصلين في العشر الأخير من رمضان، ليس في التراويح فقط إنما في الصلاة التي كانت تقام بمنتصف الليل “صلاة التهجد”، حال هذا المسجد كان حال الكثير من المساجد في البلاد بطولها وعرضها، فيما كان المعتكفون يلتزمون الجلوس في العشر الأواخر من الشهر بالمساجد لتطبيق سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
رمضان شهر الخير، وفيه تمتلأ خزائن الجمعيات الخيرية التي تكفل الأيتام والفقراء، فكانت سوريا مضربًا للمثل في التكافل والبذل لسد حاجة المعوزين والفقراء، أما الآن فقد أضحى غالب الشعب السوري فقيرًا وبحاجة أن يتكافل أكثر من ذي قبل ليتجاوز محنته وربما يُرجع بعضًا مما مضى.
كان رمضاننا في سوريا جميلًا ممتعًا لولا أن شن الأسد الحرب علينا وعلى ذاكرتنا، تتجلى في الذاكرة صور المحبين واجتماع العوائل وفرح الحارات وصوت المآذن والبهجة الغامرة، إلا أن كل ذلك أصبح أثرًا بعد عين، فكل عائلة اليوم فقدت ابنًا من أبنائها إما شهيدًا بقصف الأسد أو رصاصه أو معتقلًا أو مفقودًا في سجون النظام. أما المآذن دُمرت، والمساجد دُنست بيد الأسد، والعوائل تشتت شملها وتفرق جمعها بعد نزوح وتشرد، ولم يعد صوت المنجد وفرقته يصدح بالموشحات والأناشيد السورية الأصيلة ليطربنا ويخفف عنا، إنما حل مكانه أصوات لطميات غريبة محتلة كما أصحابها.