في اللحظات التي أكتب فيها هذا المقال، وفي اللحظات التي تقرأون فيها هذه الأسطر، يُمارس العنف على آلاف النساء العراقيات في ذات اللحظة.
حالات العنف الأسري التي هزت الشارع العراقي في الأسابيع الماضية، ما هي إلا رأس جبل الجليد، فحالات العنف الأسري المسجلة أو الظاهرة مجرد نسبة ضئيلة جدًا مقارنة بالأعداد الحقيقية المكممة الأفواه بالخوف وأعراف المجتمع القاسية.
تشير الإحصاءات الحكومية إلى أن امرأة من كل خمس نساء عراقيات تتعرض للتعنيف الجسدي (14% من النساء منهن كن حوامل في ذلك الوقت).
بحسب منظمة الصحة العالمية WHO يعرّف العنف الممارس ضد المرأة على أنه “أي فعل عنيف تدفع إليه عصبية الجنس ويترتب عليه، أو يرجح أن يترتب عليه، أذى أو معاناة للمرأة، سواء من الناحية الجسمانية أم الجنسية أم النفسية، بما في ذلك التهديد بأفعال من هذا القبيل أو القسر أو الحرمان التعسفي من الحرية، سواء حدث ذلك في الحياة العامة أم الخاصة”.
أجرت وزارة التخطيط العراقية مسحًا بشأن العنف الموجه ضد المرأة في البلاد، يمكننا عبره إلقاء نظرة على التعنيف الجسدي، ونسبته في المجتمع العراقي:
- 47.9% ضرب الزوجة إذا خرجت من المنزل دون أذنه.
- 44.3% ضرب الزوجة إذا خالفت أوامره.
- 69.5% يمنع الزوجة من زيارة أقاربها.
هذه الأرقام الرسمية لم تُحدث منذ 2012، اليوم بالتزامن مع الضغوطات التي تعيشها الأسر العراقية المصاحبة لإجراءات العزل الاجتماعي بسبب فيروس كورونا، فإن مؤشرات العنف الأسري تتصاعد بوتيرة مخيفة، فقد شهدت الأسابيع الماضية جرائم بشعة هزت المجتمع العراقي، حيث سُجل اغتصاب لامراة من ذوي الاحتياجات الخاصة والانتحار بسبب العنف المنزلي وجرائم قتل وخنق الزوجات من أزواجهن وجرائم تحرش بالقاصرين وغيرها من الجرائم، الأمر الذي دفع الأمم المتحدة وصندوق الأمم المتحدة للسكان ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، لحث البرلمان العراقي للإسراع بإصدار قانون مناهضة العنف الأسري.
مسودة قانون مناهضة العنف الأسري الذي أرسله الرئيس العراقي برهم صالح في سبتمبر/أيلول الماضي إلى مجلس النواب العراقي لأجل تشريعه ما زال ينتظر التمرير تحت قبة البرلمان، الأمر الذي يدفعنا للتساؤل عن فشل التمثيل النسوي في البرلمان العراقي (النصوص الدستورية تتضمن وجوب تمثيل نسوي ما لا يقل عن الربع في المؤسسة التشريعية، أي أن الكوتا النسوية في البرلمان العراقي هي 69 نائبة من النساء من أصل 275) للضغط من أجل الموافقة على تشريع القانون الذي يشهد عرقلة من الأحزاب الدينية تحت ذرائع مختلفة، حيث صرح رئيس كتلة النهج الوطني عمار طعمة أن قانون العنف الأسري خطوة خطيرة تستهدف تفكيك الأسرة العراقية وإحداث فوضى أخلاقية.
أسباب العنف الأسري في العراق
التنشئة
التجزء الذي تعيشه الأسرة العراقية وانقسام أسلوب الحياة بين الرجل والمرأة والطفل الذي يجبر المرأة على التزام البيت ويعطي الحق للرجل لقضاء أغلب وقته بين العمل والمقاهي، فيما يقضي الطفل وقته في اللعب بالشارع.
هذا التجزء الذي يتيح للطفل اللعب في الشارع دون رقابة من الكبار، يربي الطفل على مفاهيم القوة والتعصب ضمن عصابات من أجل البقاء، التي بدورها تلعب دورًا كبيرًا في ازدواجية شخصية الفرد العراقي.
النظام الاجتماعي والقيم المجتمعية
قيم البداوة المتجذرة في المجتمع العراقي، بمفاهيمها الذكورية التي تفضل الذكور على الإناث (الإحصاءات تشير إلى أن 50.7% من الفتيات العراقيات يتلقين معاملة غير متساوية مع إخوانهم الذكور في نفس العائلة، وثلث الفتيات بأعمار 10 – 14 سنة يعنفن جسديًا من إخوانهن و59% من النساء العراقيات يبررن العنف الجسدي) منذ اليوم الأول لولادة الطفل، إلى إعطاء الفرص والصلاحيات للذكور دون الإناث، إلى مفاهيم الشرف و العار.
هذه الأفكار السائدة في المجتمع، جعلت الزواج فرصة للحفاظ على الفتيات، ووضعت الزواج أولوية دون التعليم وأخذ الدور الفاعل في المجتمع، ففتاة من أصل عشر فتيات في العراق تعتقد ضرورة زواج الفتاة قبل سن الـ18 (5% من المتزوجات تزوجن قبل سن 15 سنة، و22% قبل سن 18 سنة).
التعليم
لا تزال نسب الأمية بين النساء مرتفعة بشكل كبير في العراق، فمعدل الأمية بين النساء في الريف 36.5%، أما في المناطق الحضرية فتبلغ النسبة 15.9%، ويعود ذلك في جزء منه إلى حرمان النساء من فرص التعليم، حيث أشارت الإحصاءات إلى أن 69.4% من النساء في العراق تزوجن قبل أن يصلن إلى مستوى التعليم الذي يطمحن إليه.
الفقر
رغم الثروة النفطية الهائلة في العراق، فإن شخصًا واحدًا من بين كل خمسة أشخاص لا يزال يعيش تحت خط الفقر، حيث تشير البحوث إلى أن الفقر هو الوقود المحرك للعنف الأسري، حيث تم تسجيل نسب أعلى بكثير للعنف ضد المرأة والطفل في الأسر الفقيرة.
دور الدولة وانعدام القوانين الرادعة
تنص المادة 29 من الدستور العراقي على:
“أ- الأسرة أساس المجتمع، وتحافظ الدولة على كيانها وقيمها الدينية والأخلاقية والوطنية.
ب- تكفل الدولة حماية الأمومة والطفولة والشيخوخة، وترعى النشء والشباب، وتوفر لهم الظروف المناسبة لتنمية ملكاتهم وقدراتهم”.
كفالة الدولة للأمومة والطفولة تبقى حبرًا على ورق، فقد نصت المادة 41-1 من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل: “لا جريمة إذا وقع الفعل استعمالاً لحق مقرر بمقتضى القانون ويعتبر استعمالاً للحق: (1- تأديب الزوج لزوجته وتأديب الآباء والمعلمين ومن في حكمهم الأولاد القصر في حدود ما هو مقرر شرعًا أو قانونًا أو عرفًا)”، هذا هو الغطاء القانوني لتبرير العنف الجسدي في المجتمع العراقي وغياب تشريع لتجريم العنف الأسري رغم زيادة التمثيل السياسي للمرأة، لكن هذا التمثيل لم يترجم إلى تشريعات أو أداة ضغط على المؤسسات التشريعية، حيث لا تزال مسودة مشروع قانون مناهضة العنف الأسري التي طرحت قبل 8 سنوات، معلقةً تنتظر الإقرار من البرلمان العراقي منذ 2015.
مشروع القانون نص على تشكيل “مديرية حماية الأسرة” التي تتولى البحث والتحقيق في شكاوى العنف الأسري وتشكيل محكمة متخصصة بالأسرة تتولى التحقيق في قضايا العنف الأسري وتمنح القاضي المختص حق إصدار قرار حماية للضحية وإيداعها بملاجئ آمنة إذا استشعر أن هناك خشية على حياتها وسلامتها، كما ألزم المشروع وزارة العمل والشؤون الاجتماعية بإنشاء المراكز الآمنة لضحايا العنف الأسري في عموم محافظات العراق وتقديم الدعم والمساعدة للضحية من خلال توفير العلاج وإعادة تأهيلها نفسيًا.
حاولت الحكومة العراقية استحداث مديرية حماية الأسرة والطفل من العنف الأسري سنة 2009، إلا أن دورها على الأرض لا يزال محدودًا جدًا.
انعدام الاستقلالية المادية
الزواج المبكر في المجتمع العراقي يحرم الفتيات من فرص التعليم، ويجعل إمكانية الاستقلال المادي للفتاة شبه مستحيلة، وبالتالي عندما تجد المرأة المعنفة أنها غير قادرة على إعالة نفسها وإعالة أطفالها تستمر بتحمل تعنيف الزوج لتضمن وجود المأوى لها ولأطفالها.
تراكمات الواقع العراقي
العقود الثلاث الأخيرة بكل ما تحمله من حروب ومآسٍ شهدها الفرد والعائلة العراقية، وانتشار ظاهرة التلوث البصري، حيث مظاهر العنف والخراب والتلوث البيئي منتشرة في أغلب مناطق البلد، وانتشار الأمراض النفسية والاضطرابات السلوكية بسبب الحروب التي شهدها العراق زادت من التفكك الاجتماعي.
وثمة أسباب أخرى، منها غياب الخطاب الديني المؤثر، حيث تتذرع بعض الأحزاب الدينية ببعض الآراء الفقهية لعرقلة تمرير قانون مناهضة العنف الأسري، وسط صمت المرجعيات الدينية عن جرائم العنف الأسري المتزايدة في العراق، كما أن انتشار التنمر والتحرش والابتزاز الإلكتروني على شبكات التواصل زاد من استفحال الظاهرة بدلاً من أن تكون تلك المنصات ساحات نقاشية إيجابية ونوافذ توعية، هذا عداك عن بؤس خطاب التيار النسوي في العراق الذي من المفترض أن يكون دوره أساسيًا في تفكيك هذه المأساة.
كيف النجاة؟
بعد استعراضنا لأهم حواضن العنف الأسري في المجتمع العراقي، يمكننا القول إن العلاج جهد جماعي للأفراد والمجتمع والحكومة متمثلة بالسلطتين التشريعية والتنفيذية، ويمكن تلخيص بعض النقاط من أجل التصدي للعنف الأسري بالتالي:
– تشريع قوانين تجرم العنف الأسري وتوفير الملاذ الآمن للمعنفات، ومصدر دخل للأم والطفل يحفظ لها حياة كريمة.
– تفعيل السلطات التنفيذية لمديرية حماية الأسرة والطفل.
– تمكين المرأة العراقية بفتح مجالات التعليم والعمل أمامها.
– تخصيص وحدات لعلاج الناجين من العنف الأسري.
– تخصيص وحدات متخصصة لعلاج وإعادة تأهيل مرتكبي العنف الأسري.
– حملات توعية عن تأثير العنف الأسري على الأفراد والعوائل والمجتمعات.
إن علاج العنف الأسري مجهود جماعي يبدأ من طفل ينعم بطفولة خالية من التعنيف، ومن أسرة تحترم حقوق أفرادها لا يتميز فيها الذكور عن الإناث، ومن مؤسسة تربوية تهتم بتربية الطفل قبل تعليمه، وبمنظومة قيم للمجتمع تمكن المرأة من فرص التعليم والإسهام الحقيقي في المجتمع وتنتهي بسلطة تشريعية ترسخ قيم العدل والمساواة وسلطة تنفيذية تضمن الحقوق من الانتهاك.