ماذا سيحدث إذا استيقظت يومًا ووجدت أن شيئًا ما قد اختفى من عالمك؟ بل أن ذلك الشيء لم يعد يذكره أحد سواك؟.. ربما يكون هناك بعض الناجين الذين لا يزالون محتفظين بذاكرتهم؛ لكن شرطة الذاكرة تقبض عليهم، وتمحو أثر ذلك الشيء المفقود من كل مكان حتى يصير وكأنه لم يكن موجودًا من الأساس.
إنه عالم “شرطة الذاكرة” The memory police الخاص بالكاتبة اليابانية “يوكو أوغاوا” Yōko Ogawa، الذي مكنها من الوصول إلى القائمة القصيرة من جائزة المان بوكر لعام 2020، فهل ستفوز بها؟
أن تكون كاتبًا في عالم سوداوي بائس
تقدم لنا “أوغاوا” في “شرطة الذاكرة” رواية غامضة ومجازية، مختلفة عن أعمالها السابقة وإن كانت تحمل الروح القلقة نفسها، الحديث ذاته عن الفن والخسارة والجمال والحب والشيخوخة وكذلك “الذاكرة” التي نجدها راسخة في جميع أعمالها تقريبًا.
“شرطة الذاكرة” هي الكتاب الخامس الذي يُترجم للكاتبة “يوكو أوغاوا” إلى الإنجليزية، والرابع الذي سوف يصدر لها بالعربية عن دار “الآداب” قريبًا. وقد صدر لها من قبل باللغة العربية رواية “حوض السباحة” و”غرفة بيضاء مثاليّة لرجل مريض” من رجمة بسَّام الحجار، و”حذاءٌ لك” من ترجمة معن عاقل، وجميع تلك الأعمال قد صدرت عن دار الآداب.
تدور أحداث رواية “شرطة الذاكرة” في جزيرة غامضة، حيث تُخفي الحكومة الاستبدادية العديد من الأشياء، أو بمعنى آخر تعمل على بقائها مخفية، فإذا اختفت الزهور من الطبيعة ومن ذاكرة البعض؛ تعمل الحكومة على إخفاء كل أثر لها من الكتب ومن بيوت المواطنين، بل وتعتقل من يتذكرون تلك الأشياء.
تأثرت الكاتبة عند كتابتها للرواية بمذكرات آن فرانك أو ما يُطلق عليه “يوميات فتاة صغيرة”، وهو كتاب باللغة الهولندية عبارة عن مذكرات لفتاة ألمانية يهودية تُدعى “آن فرانك” تحكي فيه عن حياتها اليومية بينما كانت مختبئة لمدة عامين برفقة عائلتها وأربعة من أصدقائها إبان الاحتلال النازي لهولندا، وقد كل شيء له حياة ويموت في النهاية.
هاجس الكاتب الأول: الذاكرة واستبداد السلطة
ما هو الهاجس الأول للكاتب؟.. أهو اختفاء الكلمات؟.. إنه في هذه الرواية كذلك.. أحد كوابيس “أوغاوا” وبطلتها الكاتبة، التي بدأت تنسى الأشياء، لكنها تمكنت من إخفاء محرر روايتها الذي ما يزال يستطيع التذكر، وهو أيضًا الذي يدفعها إلى الاستمرار في الكتابة.
لكن كيف يمكن لروائي أن ينسى كيفية كتابة روايته؟ في ذلك العالم اختفت الروايات، وأصبحت مخطوطاتها بلا معنى، فارغة لا تدل على شيء، بل وأصبح من الصعب نطق كلمة “رواية” نفسها؛ فبمجرد قضاء شرطة الذاكرة على الأشياء بشكل ممنهج؛ يصبح الأشخاص الذين يعيشون على تلك الجزيرة غير قادرين على فهم تلك الأشياء التي اختفت حتى لو رأوها من جديد.
إن ذلك العالم يشبه كثيرًا الوقت الذي عاشت فيه “آن فرانك”، ما حدث لها، وعالمها الذي نزع منه النازيون كل ما لا يرغبون به، ما لا يوافقون عليه، وما لا يناسب سلطتهم.
إن النظام النازي كان لديه القدرة على تغيير الطبيعة البشرية، مثل ما حدث في الهولوكوست، فقد قضى النازيون على الكثير من أشكال السلوك البشري من خلال معسكرات الاعتقال؛ محولين البشر من “أشخاص” إلى مجرد “أشياء”؛ كما أنهم كانوا قادرين على القضاء على مشاعر كثيرة مثل العفوية والتعاطف، وهذا ما تعكسه “أوغاوا” في روايتها، تلك الشرطة التي كانت موجودة في الماضي، وقد تعود في المستقبل وتُدمر ذاكرة البشر التي نعرفها.
وليست الذاكرة فقط ما يُمحى، ليست الأشياء، بل أجزاء من أجسادنا قد تُمحى وكأنها لم تكن.
تتطلب روايات “أوغاوا” في العادة إعادة قراءة كي نتمكن من فهمها بشكل أفضل، فذلك الشكل الأدبي السريالي المميز يتحول من مجرد جنون محض إلى حقيقة مستعارة، تتجلى في النساء اللواتي يفقدن أصواتهم، أو يعجزن عن الكلام بشكل حرفي، عاكسًا تلك السلبية الباهتة.
فكرة مبتكرة وقالب ياباني بعيدًا عن الأمركة
مراقبة الدولة لشعبها فكرة قد تكون مُكررة؛ أشهرها رواية أورويل ١٩٨٤، ولكن الرواية التي بين أيدينا مختلفة، فهي في جوهرها تتحدث عن الفقد والنسيان واختفاء أشياء صغيرة ولكنها جوهرية للغاية مثل العطور والقوارب والصور والورود؛ بينما تراقب الشرطة السكان كي يضمنوا نسيان تلك الأشياء للأبد.
إذا كانت “شرطة الذاكرة” رواية غير يابانية؛ فسنجد ذلك البطل مصمم على محاربة استبداد الشرطة، التضحية بنفسه، الانتقام مما يحدث لمن حوله، وأشهر مثال على ذلك “حكاية خادمة”.
هذه الرواية ليست حكاية لشخص يبحث عن الإثارة، إنها دراما سيريالية، هادئة للغاية؛ فبطلة الرواية هي شخصية “باهتة”، تعكس الشخصية اليابانية المثالية.. شخصية تتحمل، بل بالكاد تمانع ما يحدث لها ولمن حولها، وسط كل ذلك الاختناق والعالم الذي يضيق كل يوم عن اليوم الذي سبقه، واعتقال الشرطة للمواطنين ليلًا، والذكريات الممزقة في عقول الناس؛ تراقب تلك الكاتبة كل شيء.. لكنها لا تراقبه بغضب، أو بلامبالاة ساخرة حتى، إنها فقط تراقبه بـ”سلبية ذات جذور عميقة متأصلة في شخصيتها”.
ورغم أننا نجدها في جزء ما من الرواية تقرر بناء غرفة سرية في منزلها لإخفاء محرر روايتها الذي يواجه خطر التعرض للقبض عليه من الشرطة، ورغم ظن البعض أن هذا عملًا بطوليًّا لكننا نجده ليس كذلك على الإطلاق.. إنه عمل سلبي، مثل التحديق إلى تساقط الثلوج على مدى فترات طويلة من الزمن. فإذا كان لديك أي رغبة بقراءة عمل مليئ بالإثارة والخيال التجاري؛ فهذه الرواية ليست لك.
إن “أوغاوا” تلعب على نمط آخر غير النمط الأمريكي الذي اعتدناه فيما يتعلق بالعوالم السوداوية، تلك الرواية هي رواية أدبية من الطراز الأول، كئيبة بشكل معتاد، هادئة ذات لغة منتقاة بدقة، ومن المؤكد أن تلك الرواية ستجعل أعمال “يوكو أوغاوا” تحظى بشهرة أوسع في المستقبل.