قبل 10 سنوات تقريبًا، وأثناء مروري بمنطقة العتبة وسط القاهرة، كان الطريق مزدحما للغاية، بدءَا من العتبة التي تبعد قرابة 2 كم عن مسجد الحسين الشهير بمنطقة الدراسة، حيث لا موضع قدم متاح، حينها سألت عن سبب هذا الزحام، فكانت الإجابة، إنها الليلة الكبيرة لمولد الحسين وما أدراك ما هي.
لم أتوقف كثيرًا عند مسألة الليلة الكبيرة تلك فلست من دروايش الموالد وزوارها، غير أن ما استرعى انتباهي ما سمعته خلال سيري من قبل بعض المارة، وكان الأمر متعلقا بإحياء الشيخ ياسين التهامي لتلك الليلة، وكان هذا هو السبب الرئيسي في حالة التكدس التي باتت عليها تلك المنطقة بأسرها.
أمام احتباس الأنفاس تلك بسبب الزخام راودتني فكرة العودة إلى منزلي ، لكن ماسمعته من المترجلين من حولي عن صوت التهامي وكراماته وقدرته على تحريك القلوب والأسماع كان الدافع لخوض تلك التجربة، وحضور تلك الليلة، وبالفعل قد كان، ونجحت بعد قرابة ساعتين أو أقل قليلا في الوصول إلى ساحة المسجد، وهي المسافة التي لا تتجاوز 10 دقائق في الظروف العادية.. لكن رغم محاولاتي المستميتة لم استطع الوصول إلى المسرح الذي يقف عليه الشيخ… فكان هذا دربًا من الخيال في ظل الأمواج الهادرة التي تتمايل يمينًا ويسارًا مع صوت التهامي.
سمعت كثيرًا عن التهامي وإمكانياته الصوتية وحضوره الكبير وعشق أنصاره له، لكنها كانت المرة الأولى التي أشارك في حفل له، كانت تجربة ثرية بحق، فصوت الرجل لم يكن عاديًا، وقدراته على استعارة قلوب وأسماع أنصاره غير مسبوقة، ربما لم تنجح أذني في تفسير كل كلمة يقولها، لكن تناغم اللحن مع الأداء الجسدي له كان كفيلا بأن يحرك الفؤاد ويطرب الأذان حتى ولو لم يُفهم الكثير مما يقال.
عميد المداحين… هكذا يُلقب المنشد الديني ياسين التهامي، الذي استطاع على مدار ربع قرن تقريبًا أن يحفر اسمه في سجلات أشهر المداحين، ليس في مصر وحدها لكن في المنطقة كلها، فتجاوزت شهرته الحدود المصرية، ليصبح علما للمتصوفة في بلاد الغرب والشرق على حد سواء.
في حجر التصوف
نشأ التهامي المولود في إحدى قرى محافظة أسيوط بصعيد مصر في السابع من ديسمبر 1949 في أسرة دينية ذي ميول صوفية، وقد التحق بالدراسة الأزهرية وحفظ القرأن،غير أنه لم يكمل مسيرته الدراسية حيث توقف عند المرحلة الثانوية، ليبدًا رحلة الإنشاد والمديح.
بدأ حياته الإنشادية في الموالد والحفلات الدينية بقرى الصعيد، واستطاع في مدة قصيرة في التربع فوق عرش عشاق الإنشاد والمديح، فبات أحد أبرز أعلام المديح في محافظات مصر الجنوبية، ومع مرور الوقت بات نجم الموال الديني في مصر والعالم العربي والإسلامي.
وعن بدايته في هذا الطريق تشير الروايات إلى أنه في منتصف سبعينات القرن الماضي، تنامى إلى أسماع شيخ المنشدين وسلطانهم في هذا الوقت، الشيخ أحمد التوني، عن شاب صغير سن لم يتجاوز عمره الخامسة والعشرين عامًا، لكنه كان يتميز بصوت يجمع بين الإحساس الصوفي والقوة، وحين سأل عن اسمه قيل له إنه ياسين التهامي.
أستقر في يقين التهامي أن من أراد أن يكون كبيرًا فلابد وأن يبدأ كبيرًا، وهو ما فعله بدايات حياته، حيث اختار الطريق الصعب في القصائد التي يغنيها، فبدلا من الارتكان إلى القصائد الخفيفة، والمتداولة، لجأ إلى القصائد والأناشيد الصوفية الصعبة، فأنشد لعبد القادر الجيلاني وعبد الكريم الجيلي والحلاج ومحيي الدين بن عربي وأبو معين الغوث وعمر بن الفارض، وغيرهم من أقطاب الصوفية.
ورغم هذا النهج الذي اتبعه التهامي والتزم به، إلا أنه أحيانا كان يخرج عنه بين الحين والأخر، ليغني لبعض الشعراء الأخرين غير المتصوفة، على رأسهم الأمير عبد الله الفيصل وعبد الله البردوني وعلي عبد العزيز وأحمد شوقي وعلية الجعار والأخطل الصغير (بشارة الخوري)، وطاهر أبو فاشا، وإيليا أبي ماضي.
عميد المداحين
منذ السبعينات وحتى اليوم قدم التهامي آلاف الحفلات التي أمتع فيها الحضور حتى من غير المتصوفة، واستطاع في سنوات معدودة أن يصبح “عميد المداحين” حتى بات قبلة الكثير من الراغبين في خوض هذا المضمار من الشباب صغار السن، ممن باتوا يحذون حذوه حتى في طريقة لبسه وطقوسه اليومية.
وبات منشد الصعيد الأول على رأس قوائم المنشدين في الموالد الكبرى التي تشتهر بها مصر، مثل مولد الحسين والسيدة زينب والمولد النبي الشويف، ورغم تعدد المداحين المشاركين في إحياء حفلات تلك الموالد والتي قد تستمر لمدة أسبوع تقريبًا لكل مولد، إلا أن التهامي كان يٌخصص له ليلة منفردة وهي “الليلة اليتيمة” أو كما يطلق عليها “الليلة الكبيرة” وفي الغالب تكون الليلة الختامية للمولد.
وفي تلك الليلة يخرج فيها التهامي مع المألوف، فيظل يصدح بصوته العذب منذ صلاة العشاء وحتى مطلع الفجر، حيث تهيم قلوب العاشقين وتتمايل أجساد ألالاف من المتصوفة الذي يحرك فيهم عميد المداحين أرواحهم قبل مسامعهم، لتتحول حفلاته إلى لوحة فنية تتمايل يمينًا ويسارًا دون توقف حتى نزول الرجل من على المسرح.
علاقة خاصة بالموسيقى
رغم عدم حصوله على شهادات أكاديمية في مجال الموسيقى، إلا أن التهامي وفي ظل ارتجاله المعتاد يعد أحد الأعلام في التعامل مع الموسيقى وتوظيف صوته بصورة يخرج فيها اللحن مع الكلمات وكأنها سيمفونية رسم حروفها بيتهوفن أو موزارت، فهو يتعامل مع المقامات الموسيقية بحساسية نادرة، قلما يعرفها المنشدون الدينيون.
علاوة على ذلك فقد أحدث التهامي لونًا جديدًا في الإنشاد، يعتمد على التزاوج بين إيقاعات النغم الشرقي المعروف بأصالته والنغم الشعبي، ومما عزز هذا التزاوج إدخال آلات موسيقية معينة، أثرت المقامات الموسيقية المتعارف عليها، فطور بذلك الرجل الإنشاد ليتحول إلى علم له أركانه وثوابته.
كما مزج مداح مصر الأول بين إيقاعات النغم الصعيدي، من جانب، وإيقاعات النغم الشرقي الأصيل، من جانب أخر، هذا بجانب إثراءه للغة الجسد أثناء الإنشاد، حيث تميز بطريقة مبدعة تعتمد أساسا على العلاقة مع الجمهور وتقوم على التفاعل والتأثير المتبادل، ساعده في ذلك أن معظم حفلاته تكون في المناطق المفتوحة مع الجمهور وجها لوجه.
نجاح أنغام التهامي وموسيقاه في غزو قلوب محبيه، جذبت فئة كبيرة من الشباب إلى إصدار مقطوعات له على مواقع الإنترنت، وإعادة توزيع ألحانها بصورة يمكن استخدامها من قبل المنشدين الصغار أو الفنانيين الكبار ممن يعجبون بصوته، وكان من أشهر من القصائد وأوسعها انتشارًا قصيدة “أكاد من فرط الجمال أذوب” التي تغنى بها الكثير من المنشدين.
شهرة عالمية
حقق عميد المداحين المصريين شهرة عالمية تعدت الكثير من مشاهير الفن والسياسة والرياضة، فبات مطلبًا لكثير من الطرق الصوفية في مختلف دول العالم، فكانت حفلاته في باريس من أكثر الحفلات جماهيرية وشعبية، بخلاف حفلاته في بريطانيا والولايات المتحدة وغيرها من الدول الأوروبية فضلا عن الكثير من الدول الآسيوية.
الإمكانيات الفنية المميزة للتهامي أغرت بعض الباحثين إلى دراسة تلك الظاهرة، كما حدث مع الباحث الأمريكي “مايكل فروشكوف” الذي أعد دراسة كاملة عن أداء المنشد المصري الصوتي، كذلك دفعت المستشرق الألماني “كولن” إلى أن يخصص أجزاء كاملة من كتابه “الموسيقى الشرقية” عنه باعتباره مرتجلا لنغم صوفي جديد من دون تعليم أو دراسة أكاديمية.
كولن في كتابه يقول : موسيقى التهامي رغم جمالها إلا أنها تبدوا وكأنها تسير على غير قاعدة، وأحيانا متشابهة في أغلب ما ينشده، فإن هذا يصدق فقط على الاستهلال، أما فيما بعد الاستهلال تكون أكثر انتظامًا، ولكل قصيدة موسيقاها الخاصة بها، حتى إن بدت للوهلة الأولى متشابهة.
أما هيئة الإذاعة البريطانية فقد وصفته بأنه “صاحب صوت إنساني فضفاض يستوعب أي إنسان على اختلاف لغته وموسيقاه”، فيما علق أحد البريطانيين على صوته بأنه “يفتح في النفوس طرقًا من النور والإيمان” وذلك بعد أن أحيا ليلة كاملة في مهرجان الموسيقى الروحية الذي تستضيفه العاصمة البريطانية لندن كل عام.
توظيف سياسي
أغرت شهرة التهامي وجماهيريته الواسعة العاملين بالحقل السياسي في توظيف تلك الشعبية لتحقيق أهداف سياسية، ففي عهد حسني مبارك كان الرجل دائم الحضور على موائد السياسيين من أعضاء مجلس الشعب والشورى المنتسبين للحزب الوطني الذي كان يهمين في هذا الوقت.
وقبيل الماراثونات الانتخابية، كانت العديد من الحفلات التي كان يحيها التهامي، هي العربون الذي يقدمه المرشح لأبناء دائرته نظرًا لما يحتله شيخ المداحين من مكانة كبيرة في نفوس المصريين لاسيما في الصعيد، فيما كان يمتنع هو عن حضور بعض الدعوات حسبما أشارت مصادر خاصة لـ “نون بوست” وذلك لاعتبارات خاصة به.
وظل التهامي بعيدًا عن التوظيف السياسي منذ ثورة يناير 2011 حتى 2015، وذلك حين دعاه أمين عام حزب المحافظين المصري، شريف حمودة،إلى تنظيم ليلة محمدية، بمنطقة المقطم بالقاهرة، بالتزامن مع احتفالات المولد النبوي الشريف، وحضر الليلة عدد من قيادات الحزبية والسياسية.
ومع تصاعد المخاوف من تفشي فيروس كورونا المستجد كان التهامي حاضرًا كذلك، حيث نشر على صفحته الرسمية على فيس بوك صورة جديدة له مطالبًا بالجميع بالتكاتف من أجل الخروج من هذه الأزمة، وعدم انتشار الفيروس وذلك بالالتزام بتعليمات الجهات المعنية والاستجابة لتوجيهات الحيطة والحذر.
وكما الرياضة والفن والسياسة، كان التوريث هو الأخر حاضرًا في مسيرة التهامي الإنشادية، حيث أقحم ولديه (محمد ومحمود) عالم الإنشاد، ليصبحا في وقت قصير من أبرز مشاهيره، مستغلين في ذلك اسم والدهما، والاقتداء بطريقته المعروفة والمميزة في المدح والتي تروق للكثير رغم امتلاء الساحة بمئات المنشدين.