تزامنًا مع تفشي جائحة كورونا في العالم وتراجع الاقتصاد العالمي وحالة الإغلاق في معظم دول العالم، شهدت أسعار النفط انهيارًا كبيرًا كما لم تشهده منذ عام 2001.
ومع اعتماد العراق في 90% من موازنته العامة على بيع النفط، ومع تراجع الأسعار، بدأت أزمة مالية في العراق عززت الأزمة السياسية والصحية، إذ بات الحديث عن تقليص رواتب الموظفين العموميين في العراق حديث وزارة المالية والمستشارين وكثير من النواب، ما يطرح العديد من التساؤلات عن وضع الاقتصاد العراقي الذي يعتمد على رواتب الموظفين واحتمالية تأثير تقليصها على القطاع الخاص في البلاد.
تضارب بالتصريحات
مع استمرار انخفاض أسعار النفط، يواجه العراقيون سلسلة من التصريحات المتضاربة بشأن تقليص رواتب الموظفين، إذ كشف نائب رئيس الوزراء العراقي وزير النفط ثامر الغضبان 24 من أبريل/نيسان الحاليّ عن توجه الحكومة لتقليص مخصصات الموظفين، دون أن يشمل ذلك الراتب الاسمي (الراتب الثابت دون المخصصات).
يشير الكثير من الخبراء والمراقبين إلى أن أي تقليص في رواتب الموظفين العموميين سينعكس سلبًا على القطاع الخاص في البلاد
وأضاف الغضبان أن قيمة الرواتب ازدادت بصورة كبيرة عن العام الماضي نتيجة التعاقد والتعيينات التي طرأت بعيد التظاهرات الشعبية التي اجتاحت مدن وسط وجنوب العراق منذ الأول من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فضلًا عن إعادة المنتسبين الأمنيين المفصولين من الأجهزة الأمنية، وكشف الغضبان أن التقليص سيشمل المخصصات فقط وسيعمد إلى اقتطاع جزء منها كادخار مستقبلي للموظفين.
أما عضو اللجنة المالية النائب أحمد الصفار فقد أكد أن رواتب الموظفين والمتقاعدين مؤمنة لهذا العام، مرجعًا ذلك إلى الأموال المدورة للفترات التي شهدت ارتفاعًا في أسعار النفط، فضلًا عن وجود احتياطي مالي وفير في البنك المركزي وفائض من الوزارات التي لم تستنفد ميزانياتها للسنة المالية الماضية.
أما النائب في ذات اللجنة المالية أحمد حمه رشيد فأكد أن تأمين الرواتب يعتمد بشكل كامل على ما يبيعه العراق من نفط، موضحًا أن الحكومة العراقية حصلت في شهر فبراير/شباط على 5.5 مليار دولار من بيع النفط.
وتشير التقارير المتعلقة بالوضع الاقتصادي العراقي إلى أن العراق يضم حتى بداية العام الماضي 2019، أكثر من 2.9 مليون موظف (باستثناء المتقاعدين والعقود الوظيفية بأنواعها)، وحجم رواتب هؤلاء يبلغ 43 تريليون دينار عراقي بما يزيد على الـ43% من إجمالي النفقات التشغيلية للدولة العراقية.
تأثر القطاع الخاص
في ظل افتقار العراق لقطاع خاص نشط ومؤثر في الاقتصاد، يشير مراقبون إلى تقليص رواتب الموظفين العموميين سينعكس على القطاع الخاص الذي يعتمد بصورة كبيرة وتكاد تكون مطلقة على القطاع العام.
يقول أحد التجار في مدينة الموصل ويدعى مؤمن ظاهر في حديثه لـ”نون بوست”: “أي تقليص في رواتب الموظفين سيؤثر سلبًا وبشكل كبير على القطاع الخاص في البلاد”، مشيرًا إلى أنه مع بداية كل شهر ومع استلام الموظفين لمرتباتهم، تشهد الأسواق التجارية في الموصل ومختلف المحافظات العراقية حركة شراء قوية في مختلف القطاعات، موضحًا أن الحقيقة المرة في العراق أنه لا وجود لقطاع خاص مستقل عن الدولة، إذ إن جميع التجار والمحلات تعتمد بصورة كبيرة على الموظفين كقوة شرائية ثابتة.
ويوضح ظاهر ذلك من خلال معادلة بسيطة قائلًا: “في حال انخفاض رواتب الموظفين، فإنهم سيحدون من التبضع، فمحلات المواد الإنشائية لن تعمل بفعل توقف حركة البناء، وكذلك محلات الأثاث والمواد الصحية والنجارين والألبسة وسيظل القطاع الوحيد الذي سيعمل بصورة محدودة هو قطاع المواد الغذائية وبالحد الأدنى الضروري لاستمرار الحياة”.
أما الخبير الاقتصادي محسن العبيدي فيرى في حديثه لـ”نون بوست” أنه وعلى الرغم من كل الوعود الحكومية بتطوير القطاع الخاص خلال السنوات السابقة، فإن جميعها لم تطبق على أرض الواقع من ناحية تفعيل اقتصاد السوق الحر الذي يتطلب تشريعات وشفافية وإحصاءات دقيقة.
ويؤكد العبيدي أن ما حذرت منه الدراسات والخبراء من مغبة استمرار الحكومات العراقية في اعتمادها على النفط بنسبة تزيد على 90% لم تجد آذانًا صاغية، وبالتالي كان لا بد من الوصول إلى هذه المرحلة المتمثلة بحافة الهاوية الاقتصادية، فالموازنة التشغيلية في اقتصاد العراق مرتفعة جدًا مقارنة بعدد سكانه وبقية دول العالم.
الفساد الإداري والمالي ساهم في تدمير القطاع الصناعي بالبلاد واعتماد العراق على الاستيراد المفرط، ما أدى إلى تراجع القطاع الخاص وتفشي البطالة
العبيدي يشير إلى أنه بات لزامًا على الحكومة العراقية إعادة النظر في رواتب الدرجات الخاصة المرتفعة جدًا وفي مخصصات النثرية للرئاسات الثلاثة والوزراء والمديرين العامين، ثم تشريع قوانين جديدة تشجع القطاع الخاص والاستثمار من خلال الخروج من الروتين والبيروقراطية الإدارية التي تعرقل أي عمل خاص في البلاد.
وفي ظل اعتماد العراق على الاستيراد الأجنبي في توفير مختلف السلع، فإن القطاع الخاص الزراعي والصناعي تأثر جدًا بعد عام 2003، إذ يقول الخبير الاقتصادي باسم جميل أنطوان إن قرار الحاكم المدني الأمريكي للعراق بول بريمر بتخفيض الرسوم الجمركية عن جميع السلع المستوردة إلى 5% فقط ساهم بشكل كبير في تدهور الصناعة والزراعة المحلية.
يرى أنطوان أنه وعلى الرغم من أن البرلمان العراقي سن عدة قوانين تحمي الصناعة والزراعة المحلية وتشجع القطاع الخاص عام 2010 كقانون التعرفة الجمركية وحماية المستهلك والتنافسية ومنع الإغراق السلعي، فإنه وبعد سنوات من إقرارها غير أنها لا تزال غير مفعلة حتى الآن.
من جهته، يرى أمين سر اتحاد رجال الأعمال في العراق موفق الدركزلي أن الفساد الإداري والمالي ساهم في تدمير القطاع الصناعي بالبلاد واعتماد العراق على الاستيراد المفرط، ما أدى إلى تراجع القطاع الخاص وتفشي البطالة.
هو مشهد ضبابي يشهده الاقتصاد العراقي في ظل أزمات سياسية وصحية وأمنية، فضلًا عن عدم إقرار موازنة العام الحاليّ للبلاد مع اقتراب نهاية الشهر الرابع من السنة المالية الحاليّة.