شهدنا في الأيام القليلة الماضية انهيارًا غير مسبوق في أسعار الخام الأمريكي، حيث توجهت أنظار الشركات والدول المصدرة للنفط إلى الصعوبات والتكاليف المرتبطة بالتخزين، في واحدة من الضربات المتتابعة التي وجهها فيروس كورونا المستجد لمفاصل الحياة الاقتصادية، ما أدى إلى هبوط حاد في الطلب على النفط الذي لم يتراجع إنتاجه بنفس الوتيرة أو المقدار، وبالتالي غرقت الأسواق بالخام لدرجة وصلت لعدم وجود مكان لتخزينه.
الذهب الأسود لم يعد ذهبًا في هذه الأيام، إذ تهاوت قيمة برميل خام تكساس إلى سالب 37.63$ للبرميل قبل يوم من انتهاء التداول على العقود المستحقة لشهر مايو/آيار القادم، ما يعني أن حملة هذه العقود كان يدفعون من جيوبهم ليتخلصوا من النفط وكأنه قطعة أثاث مهترئة واضطر مالكوها لدفع النقود لشركة النقل أو الخردة لتخلصهم منها.
وعندما حاول الكثيرون ممن تعتمد اقتصادات بلادهم على النفط، طمأنة أنفسهم من أن ما حصل لعقود خام غرب تكساس هو أزمة أمريكية محلية وذات أسباب محددة، وصل سعر مزيج برنت إلى 15.98 دولار للبرميل خلال نفس الليلة في أسوأ سعر له منذ عام 1999.
هل بدأ السوق بتصحيح مساره؟
بدءًا من ليلة الخميس الماضية، ارتفع سعر برميل خام غرب تكساس 19% في موجة ارتدادية، حيث استقرت عقود يونيو/حزيران عند 13.78 دولار للبرميل ومع أن هذا السعر بعيد عن سعر 60 دولارًا للبرميل مطلع العام الحاليّ، إلا أن البعض قد يتساءل: هل يعني ذلك أن السوق بدأ بتصحيح نفسه وأن الأسعار ستبدأ بالاستقرار أكثر في المرحلة المقبلة؟ والحقيقة أن الجواب عن هذه التساؤلات هو بأنه لم يحدث تغير في سبب الانخفاض لتتحسن الأسعار، فلا أنباء واضحة تخص اكتشاف علاج للفيروس ولا توجد حلول عاجلة تلوح في الأفق لمشكلة التخزين، ما الجديد إذًا؟
يعزو المحللون ذلك إلى تصاعد التوتر في الخليج العربي وتهديد الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بتدمير أي فرطاقات إيرانية في حال قيامها بأي عمل استفزازي للسفن الأمريكية، ولا يعتقد بأن الضغوطات الجيوسياسية سيكون لها تأثير كبير وطويل الأمد على الأسعار في ظل هذه الظروف.
ما أهمية مساحات التخزين؟
أجبر فيروس كورونا دول العالم على إغلاق حدودها وتفعيل حظر كامل أو جزئي للحركة على مدن بأكملها، ما أدى إلى التزام ملايين الناس حول العالم منازلهم في محاولة للحد من انتشار الوباء، حيث أدت هذه الإجراءات إلى إحداث صدمة ووقفة اقتصادية مفاجئة تسببت في تعطل الاستهلاك على السلع والخدمات، نتيجة لفقد الملايين لوظائفهم ومصادر دخلهم، إضافة إلى إصابة حركة الطيران في العالم بالشلل، وتوقف الأنشطة التجارية في المصانع والشركات، وأفرغت الشوارع من حركة السيارات، الأمر الذي انتهى بانحدار معدلات الطلب العالمي على النفط الذي بدأت مخازنه تمتلئ حتى ثمالتها.
قرع ناقوس الخطر في الولايات المتحدة بأعلى صوت بعد توقعات بامتلاء وحدات تخزين الخام في البلاد خلال أسابيع، وأضحى المتاجرون حملة عقود النفط قصيرة الأجل أمام أمرين أحلاهما مر: إما تنفيذ العقود واستلام النفط فعليًا وهنا لن يجدوا مكانًا لتخزين ما اشتروه وإما الخيار الثاني وهو التخلص من هذه العقود بأي ثمن، لتتعرض عقود النفط الأمريكي لأكبر موجة بيع خلال يوم واحد في تاريخها وانهيار أسعارها نتيجة لذلك.
فبحسب تقرير لرويترز نشر الجمعة الماضية 17 من أبريل/نيسان (قبل انهيار الأسعار يوم الإثنين)، هناك ما يقارب 160 مليون برميل نفط على ظهر السفن، ما يعادل ضعف ما كانت عليه الأوضاع قبل أسبوعين، بهدف التخلص من حمولاتها المتخمة في ظل اضمحلال الطلب العالمي نتيجة لجائحة كورونا.
لماذا لم يتأثر سعر برميل مزيج برنت بنفس المقدار؟ وهل سيتأثر بأي موجات لاحقة؟
صحيح أن عقود برنت انخفضت بشكل كبير يوم الثلاثاء الماضي، ولكنها بقيت في مستويات موجبة أسوأها 15.98 دولار للبرميل، وهناك سببان لذلك: الأول أن برنت يمتلك أفضلية في موضوع التخزين، فحقول النفط البحرية سهلة الوصول، ما يعني أن تكاليف التخزين فيها والنقل إليها تبقى بالحد المعقول حتى اللحظة الحاليّة بالمقارنة مع تكاليف التخزين الأرضية كما هو الحال مع البلدان المنتجة للنفط مثل أمريكا وكندا وروسيا.
أما السبب الثاني فيعود إلى أن عقود برنت الآجلة التي كانت متداولة يومي الإثنين والثلاثاء الماضيين كانت مستحقة التسليم شهر يونيو/حزيران وليس مايو/آيار، أي أن لا يزال أمامها متسع من الوقت للتداول في الأسواق.
هل ستشهد أسعار النفط هبوطًا آخر؟
الانخفاض في الطلب على المشتقات النفطية أحد الأعراض الطارئة الدالة على المرض، وليس المرض بحد ذاته، وإذا لم تتم السيطرة على المسبب الرئيسي – فيروس كورونا – لن تعود الطائرات للطيران، وستبقى السيارات في مرآبها، وستظل أبواب المصانع مغلقة، كما ستستمر البطالة في إفقار الناس وخفض قدراتهم المالية والاستهلاكية.
وطالما لا يوجد علاج للفيروس لن تعود الحياة لسابق وتيرتها وسيبقى النفط في رحلة بحث عقيمة عن مخازن غير موجودة، منتظرًا تغير الأقدار وتحسن الأحوال لصالحه، ولذلك، على المدى القصير، لو لم يتم تقليص الإنتاج إلى مستويات تتناسب مع حجم الطلب المتواضع للسوق، سيضغط النقص في مساحات التخزين على أسعار عقود يونيو/حزيران، وسوف يتكرر مشهد هبوط أسعار براميل النفط إلى مستويات سالبة كما حصل الإثنين الماضي.