“لقد شكل تليسكوب هابل الفضائي خيال جيل كامل بحق، ولم يلهم العلماء فحسب، بل الجميع تقريبًا” جونتر هاسنجر، مدير العلوم في وكالة الفضاء الأوروبية.
قبل 30 عامًا، في أبريل/نيسان 1990 أطلقت وكالة ناسا تليسكوب هابل نحو الفضاء من مركز كينيدي التابع لها في فلوريدا وذلك على متن المكوك الفضائي “ديسكفري” وبعد يوم واحد فقط من انطلاقه رأت أعيننا الكون الخارجي من خلاله، فبجانب جميع الصور التي نعرفها عن الفضاء، أحدث تليسكوب هابل ثورة في علم الفلك الحديث.
وبمناسبة مرور 30 عامًا على عمله في الفضاء أطلقت ناسا صورة مذهلة جديدة بواسطة تليسكوب هابل الفضائي تجمع بين السديم الأحمر العملاق NGC 2014 وجارته الأصغر NGC 2020 وكلاهما على بعد أكثر من 163 ألف سنة ضوئية من الأرض، وأطلق فريق ناسا اسم “الشعاب الكونية” على الصورة لأنها تشبه الشعاب المرجانية التي تطفو في بحر هائل من النجوم، فالسديم الأحمر العملاق وجارته هما جزء من منطقة شاسعة لتشكل النجوم في “سحابة ماجلان الكبرى” وهي مجرة تابعة لدرب التبانة، فما قصة هذا التليسكوب؟
بداية الحكاية
بداية من الفكرة والتصميم ثم التنفيذ ووصولًا إلى الانطلاق للعمل في الفضاء لم تكن رحلة تليسكوب هابل سهلة أبدًا، فخلال عام 1923 اقترح عالم الفلك الألماني هيرمان أوبرث إطلاق مرصد للفضاء يساعدنا على فهم الكون، وفي عام 1946 وضع رائد الفضاء الأمريكي ليمان سبتزر خطة لإنشاء مرصد فضائي للمرة الأولى وأجرى العديد من الدراسات حتى توافق وكالة ناسا على تنفيذ الفكرة.
بدأت الأفكار تتحول إلى حقيقة واقعية بحلول عام 1975 حين بدأت وكالة ناسا العمل مع وكالة الفضاء الأوروبية من أجل تصميم تليسكوب يدور حول الأرض بهدف استكشاف الفضاء الخارجي، وخلال عام 1977 وافق الكونغرس الأمريكي على تمويل مشروع تصميم التليسكوب، وبعد موافقة الكونغرس تسلم مركز جودارد لرحلات الفضاء مهمة تصميم الأدوات العلمية وتطوير أجهزة المراقبة الأرضية التي ستوضع على التليسكوب، أما مركز مارشال الفضائي فقد أوكلت إليه مهمة تصميم وتطوير أنظمة التليسكوب.
وفي عام 1979 بدأت عملية تدريب رواد البعثة على محاكاة الوجود في الفضاء مثل انعدام الجاذبية وغيرها، وخلال عام 1981 أُسس معهد علوم تليسكوب الفضاء في ولاية ماريلاند الأمريكية وذلك من أجل التجهيز للبرنامج العلمي المتعلق بإطلاق التليسكوب، ولكن في 28 من يناير عام 1986 وقعت كارثة أجلت كل مشاريع ناسا الفضائية حيث انفجر مكوك الفضاء شالنجر الذي كان سيحمل التليسكوب إلى مداره الفضائي وتوفي في تلك الرحلة 7 رواد فضاء.
الانطلاق نحو الفضاء
في أبريل/نيسان 1990 انطلق تليسكوب هابل من مكوك الفضاء “ديسكفري” رفقة 5 رواد فضاء وعلى ارتفاع 600 كيلو فوق سطح الأرض، فهناك وضع في مدراه الخاص، واستوحي اسم المنظار من اسم عالم الفلك الأمريكي “إدوين باون هابل” الذي كان أول من تنبأ بوجود الكثير من المجرات في الكون من خلال ملاحظته للبقع الغامضة الموجودة بين النجوم كما كان أول من قال بأن الكون آخذ في التمدد والاتساع.
ولتليسكوب هابل أربعة أجهزة رئيسية للرصد من أجل تصوير الطيف المرئي والأشعة فوق البنفسجية القريبة والأشعة تحت الحمراء القريبة، وينقل هابل نحو 120 جيجابايت من البيانات العلمية كل أسبوع حيث يتم تخزرين جميع الصور والبيانات على أقراص ممغنطة.
اكتشف تليسكوب هابل انفجارات الأشعة غاما التي تحدث في المجرات البعيدة جراء انهيار النجوم فائقة الكتلة
كيف ساعدنا هابل في معرفة أسرار الكون؟
غير تليسكوب هابل الطريقة التي كان ينظر العلماء بها إلى الكون، إذ حولت قدرته على رؤية الفضاء الخارجي بتفصيل غير مسبوق التخمينات الفلكية إلى حقائق علمية ملموسة، ومن بين الكثير من اكتشافاته عرفنا هابل أن عمر الكون الحقيقي يبلغ نحو 14 مليار عام وهي قيمة أدق كثيرًا من تنبؤات علم الفلك القديمة التي كانت تتنبأ بأن عمر الكون 20 مليار عام.
كما لعب تليسكوب هابل دورًا كبيرًا في اكتشاف الطاقة المظلمة التي يُعتقد أنها المسؤولة عن تسارع التوسع الكوني، وذلك من خلال ملاحظة التشوهات الناجمة عن تأثير جاذبية الطاقة المظلمة على الضوء الصادر من المجرات البعيدة، كما اكتشف هابل الأقراص الكوكبية الأولية وتكتلات الغاز والغبار حول النجوم التي تعمل كأرض خصبة من أجل عملية تشكل الكواكب الجديدة.
اكتشف تليسكوب هابل أيضًا انفجارات الأشعة غاما التي تحدث في المجرات البعيدة جراء انهيار النجوم فائقة الكتلة، وبسبب الكم الهائل من البيانات التي يرسلها هابل فقد أضحى واحدًا من أهم المراصد الفضائية في التاريخ، حيث نُشرت أكثر من 10000 مقالة علمية اعتمادًا على بياناته، وقد أكمل أكثر من مليون عملية رصد لأكبر وأبعد المجرات، فخلال عام 2018 كشف تليسكوب هابل عن أكبر مجرة عنقودية على الإطلاق تبلغ كتلتها ثلاثة ملايين مليار شمس ووفقًا للبيان الصحفي الذي أصدرته وكالة ناسا فإن هذه المجرة العنقودية هي الأسخن والأكبر والأكثر إنارة حتى الآن.
المجرة العنقودية في علم الفلك هي وصف لما هو أكبر بكثير من التجمعات المجرية، حيث تبدو العناقيد كعدد من المجرات التي تكونت معًا بفعل قوة الجاذبية المتبادلة بين المجرات التي يتطلب تشكيلها ميارات السنوات.
في عام 2019 أعلن فريق تليسكوب هابل البحثي بالتعاون مع وكالة الفضاء الأوروبية التقاط التليسكوب لصورة ألمع جسم في الكون حتى هذه اللحظة، وهذا الجسم هو “كويزار” جديد يبعد عن الأرض بنحو 12 مليون سنة ضوئية ويعتقد باحثو الدراسة أن الكويزارات لعبت دورًا فعالًا في إعادة تنشيط الكون عقب مدة كبيرة من الخمول امتدت نحو 400 ألف سنة بعد الانفجار العظيم، ويلمع كويزار الجديد بشكل يساوي 600 تريليون شمس وهو لمعان فائق لا يمكن تصوره أبدًا.
والكويزارات هي أنوية مجرات نشيطة للغاية ومحاطة بكم هائل من الغاز الساخن تساوي مساحة مجموعة شمسية كاملة، وفي مركز الكويزار يوجد ثقب أسود عملاق جدًا يبتلع كل المادة المحيطة به في حدث كوني مذهل للغاية لدرجة أن تلك الأجرام تلمع أكثر من مجرات كاملة.
أشهر الصور التي التقطها هابل من الفضاء
من أجمل الصور التي أرسلها تليسكوب هابل صورة “سيف شعاعي” من الفضاء على بعد 1300 سنة ضوئية من الأرض، وهذه الصورة توضح بدء تكوين نظام نجمي جديد يحيطه من كل الجوانب بعض غبار النجوم.
هناك أيضًا صورة “أعمدة الخلق Pillars of Creation” التي التقطها التليسكوب في 22 من أبريل/نيسان 1995، والصورة عبارة عن منطقة غنية بالغبار الكوني والغاز تظهر بشكل واضح في سديم النسر ويبلغ طول العمود نحو أربع سنوات ضوئية.
هذا إضافة إلى صورة سديم كارينا، وهو عبارة عن سحابة ضخمة من الغبار والغاز، حيث تقع عمليات كثيرة من ولادة وموت النجوم، ويقع هذا السديم على بعد 7500 سنة ضوئية في كوكبة القاعدة الجنوبية، وتُظهر صور تليسكوب هابل للسديم تفاصيل جديدة لعملية ولادة النجوم، وجاءت الصور بهذا اللمعان الرائع نتيجة الرياح المتدفقة والأشعة فوق البنفسجية الحارقة الآتية من النجوم الضخمة التي تعيش في هذه الكوكبة، ويحتوي هذا السديم على درزينة من النجوم البراقة التي تُقدر كتلتها من 50 إلى 100 مرة ضعف كتلة شمسنا.
حين انطلق تليسكوب هابل للفضاء عام 1990 التقط صورًا سيئة جدًا وغير قابلة للاستعمال وذلك لأن مرآته الرئيسية البالغ قطرها 2.4 متر لم تكن مصقولة بشكل جيد، ولذلك انطلقت سفينة الفضاء “إنديافور” باتجاه التليسكوب عام 1993 من أجل تركيب عدسات جديدة تشبه النظارات الطبية وبعدها بدأ تليسكوب هابل في التقاط الصور الجيدة.
واحتفالًا بالذكرى الـ30 لانطلاق تليسكوب هابل أطلقت وكالة ناسا الأمريكية مبادرة جديدة حيث أصبح بإمكان الناس التعرف على الصور الفضائية التي التقطها التليسكوب في يوم ميلادهم، وقد أُطلقت المبادرة تحت عنوان “ماذا رأى هابل في يوم ميلادك” كل ما عليك هو إدخال الشهر ويوم الميلاد لتبدأ عملية البحث وذلك من هنا، وبفضل هذه الميزة الاستثنائية أصبح بإمكان الجميع مشاهدة الصور ومشاركتها على مواقع التواصل الاجتماعي.