نتفليكس وكورونا.. كيف قادت الصدفة الشبكة للتربع على عرش عالم الترفيه؟

netflix

“نحن ندرك تمامًا أننا محظوظون لأن لدينا خدمة ذات معنى أكبر للناس المحصورين في المنزل”.. عبر هذه الرسالة التي وجهها المسؤولون التنفيذيون في شركة “Netflix” إلى المستثمرين تعليقًا على تقرير الأرباح للربع الأول من 2020 تجسد الشركة حجم ما حققته من مكاسب منذ تفشي جائحة كورونا نهاية العام الماضي.

الشركة التي تأسست على يد بريد هاستنغر عام 1997 وكانت متخصصة في بيع وتأجير الأقراص المدمجة للمسلسلات الدرامية والأفلام السينمائية، باتت اليوم على قائمة شركات الترفيه الأكثر شهرة في العالم، وذلك لما أحدثته من تطورات كبيرة في محتواها المقدم الذي أسفر بالفعل عن زيادة نسبة المشاركين فيها.

وبينما تعاني معظم قطاعات العالم جراء فيروس كورونا في ظل الإجراءات الاحترازية والقيود التي فرضتها الحكومات والدول على شعوبها ومن ثم على حركات التجارة والصناعة بصفة عامة، وما أسفر عن ذلك من خسائر بالجملة في مجالات عديدة وإصابة أخرى بحالة من الشلل التام، وجدت Netflix في تلك الأجواء فرصة سانحة لتقديم نفسها من جديد، مستغلة في ذلك التزام الغالبية بمنازلهم استجابة لدعوات مواجهة تفشي الوباء.

يذكر أنه منذ 2007 قرر رئيس الشركة وقف العمل في بيع الأقراص المدمجة، معلنًا التوجه نحو البث الحي عبر الإنترنت، لتصبح في غضون سنوات قليلة رائدة في هذا المجال الجديد، خاصة أنها تتميز عن بقية المنصات الأخرى بتجنيب المشاهدين إزعاج الإعلانات التجارية، وفي 2013 وسعت Netflix خدماتها لتدخل عالم الإنتاج وصناعة الأعمال السينمائية والتليفزيونية، وكان باكورة إنتاجها مسلسل “House of cards” في موسمه الأول.

كورونا وإعادة النظر في خريطة الترفيه

دفعت أزمة كورونا منذ تفشيها معظم سكان العالم إلى التقوقع داخل المنازل، وفي ظل حالة الهلع التي تسبب فيها الوباء في ظل تزايد منحنى الإصابات حيث تجاوزت 2.7 مليون حالة وأكثر من 197 ألف حالة وفاة حتى الـ25 من أبريل الحاليّ، بات البحث عن الترفيه لكسر تلك الحالة أمرًا في غاية الأهمية.

باتت المنصات والشبكات التليفزيونية الرقمية، وعلى رأسها شبكة نتفليكس، الملاذ الأول والأفضل للترفيه وتقديم العروض السينمائية والتليفزيونية في أوقات الحظر المنزلي

تعاظمت حالة البؤس تلك مع الحرمان من أقل منافذ الترفيه التي كان يهرب إليها الكثيرون بين الحين والآخر، وعلى رأسها السينما والمسرح، حيث أغلقا ضمن حزمة الإجراءات الاحترازية لمواجهة الفيروس، وهنا لم يجد الفرد أمامه إلا التليفزيون لكنه متخم بالإعلانات المكررة والمملة.

الأزمة أفرزت بعض الأساليب الإبداعية للتعايش معها، لاحظناها جميعًا عبر عدد من الممارسات التي لاقت إعجاب الكثير، منها إقامة وصلات موسيقية وفنية من شرفات المنازل، ومشاطرة الجيران بعضهم البعض في أغاني بعينها، لكنها ممارسات لا يمكنها أن تفي بالغرض في ظل الإقامة شبه الكاملة في البيت.

وهنا اتجهت معظم الأنظار نحو الشبكة الرقمية الإلكترونية، التي تقدم لمستخدميها خدمات البث الحي للأفلام والمسلسلات الحديثة بجودة كبيرة دون تقطيع أو إقحام الإعلانات بين فواصلها، هذا بجانب أن تلك الشبكات تتيح للمستخدمين كذلك خدمة إغلاق البث مؤقتًا لحين التفرغ مما في أيديهم أيًا كان.. وهي ميزة قلما تتيحها المنصات الترفيهية الأخرى.

وأمام التغيرات الجذرية التي شهدتها خريطة الترفيه العالمية باتت المنصات والشبكات التليفزيونية الرقمية، وعلى رأسها شبكة نتفليكس، الملاذ الأول والأفضل للترفيه وتقديم العروض السينمائية والتليفزيونية في أوقات الحظر المنزلي، ومن ثم كان الإقبال عليهم خلال الآونة الأخيرة تاريخيًا مقارنة بما كان عليه الوضع قبل ديسمبر العام الماضي.

الوباء.. صدفة نتفليكس

رب صدفة خير من ألف ميعاد.. تجسد هذه المقولة واقع ما حدث مع نتفليكس، حيث وضعتها الصدفة في بؤرة أحداث كورونا، وذلك حين تزامن تفشي الوباء مع عرضها لسلستها الوثائقية الشهيرة التي جاءت تحت عنوان “الوباء”، تلك السلسلة التي تطرقت بشيء من الحرفية العالية لوباء الإنفلونزا الإسبانية الذي تفشى قبل مئة عام وأصاب ملايين البشر حول العالم.

وبينما كان العالم يتابع تطورات انتشار كورونا عبر منصات المواقع الإخبارية كان مستخدمو نتفليكس يتابعون عن كثب تفاصيل تفشي الإنفلونزا الإسبانية وتأثيرها العالمي وكيف تخلص الناس منها، في تزامن ألقى بظلاله على معدلات المشاهدة التي زادت بصورة غير مسبوقة.

تظهر الأرقام التي ترصد واقع سوق البث الرقمي أننا أمام قطاع يتمدد بقوة صاروخية

فطن المسؤولون عن الشبكة لهذه الصدفة التي زادت من نسب الإقبال على المواد المقدمة، فاستغلوا ذلك بصورة مهنية واحترافية كبيرة، حيث ألقوا الضوء على الأعمال الفنية التي تُدخل المشاهد في قلب الأحداث المشابهة لما يحدث على أرض الواقع، فتم عرض العديد من الأعمال التي تناولت الكوارث الطبيعية والبيئية التي تعرض لها العالم طيلة السنوات والقرون الماضية.

ساعدت تلك الإستراتيجية في تحول أنظار الملايين صوب تلك النافذة، لا سيما في المناطق التي لم يكن لها أرضية كبيرة فيها قبل ذلك، كالمنطقة العربية على سبيل المثال، ومع مرور الوقت تحولت إلى النافذة المفضلة لكثير من سكان المنطقة، ساعد على ذلك ذكاء الشبكة في التعامل مع قائمة تفضيلات المستخدمين العرب.

وكانت مصر على قائمة الدول العربية الأكثر مشاهدة لخدمات نتفليكس، وفي المقابل نظرت الشبكة للسوق المصرية نظرة موضوعية ذات نسق تقييمي ممتاز، فأضفت بعض المميزات التي تسهل اشتراك المستخدمين، منها توفير خاصية الدفع بالجنيه المصري لأعضائها في مصر على عكس المألوف، حيث يتم الدفع بالدولار في مختلف الأسواق الأخرى، بجانب تواضع قيمة الاشتراك في حد ذاته.

المستفيد الأول

رغم أن شركات البث الحي الرقمي وغيرها من شركات الاتصالات الأخرى على قائمة القطاعات الأكثر استفادة من أزمة كورونا مقارنة بغيرها من القطاعات الأخرى التي تعرضت لخسائر كبيرة، فإن نتفليكس تترأس تلك القائمة فيما يتعلق بالأرباح المحققة قياسًا بما كانت عليه قبل انتشار الفيروس.

الأرقام الصادرة عن الشركة بخصوص معدلات الأداء والأرباح خلال الربع الأول من العام الحاليّ، تكشف وبشكل كبير ما حققته من مكاسب خلال الفترة الماضية، حيث أعلنت الشركة أنها حققت أرباحًا بلغت 709 ملايين دولار في الأشهر الثلاث الأولى من العام 2020، من عائدات بلغت 5.8 مليارات دولار.

ولفتت الشركة إلى ارتفاع أعداد المشتركين بمقدار 15.7 مليون مشترك عن الربع السابق ليبلغ عددهم الإجمالي نحو 183 مليونًا، فيما وجه مسؤولو الشركة رسالة للمستثمرين يعكسون فيها حجم ما حققوه من أرباح ومكاسب، مضيفين: “مثل خدمات الترفيه المنزلي الأخرى، نحن نرى نسب مشاهدة أعلى موقتًا ونموًا متزايدًا في الاشتراكات”.

محلل التسويق الإلكتروني إريك هاغستروم تعليقًا على بيان الشركة في تصريحاته لـ”الجزيرة” قال: “بعد الزيادة القياسية في عدد المشتركين، ستكون نتفليكس الشركة الإعلامية الأقل تأثرًا بكوفيد 19 وستبقى كذلك، هذا العمل يتناسب تمامًا مع السكان الذين أصبحوا فجأة محصورين في منازلهم”.

لكن هنا يبقى التساؤل: هل تحافظ نتفليكس على هذه الزيادة في معدلات المشاهدين بعد انتهاء الجائحة وعودة الحياة لطبيعتها مرة أخرى، وفتح منافذ الترفيه التقليدية كالسينما والمسرح؟ وهنا تتوقع الشركة ذاتها انخفاضًا في عدد المشاهدين ونسبة الاشتراكات مع تراجع المخاوف بسبب كورونا وتمكن الناس من التحرك بحرية أكبر.

ويبقى توظيف المسؤولين عن Netflix لهذه الطفرة الكبيرة في نسب المشاهدين والثقة التي أولاها المستخدمون للخدمات المقدمة المحك الرئيسي لتقييم قدرة الشبكة في عبور الأزمة الحاليّة بأكبر قدر من المكاسب والحفاظ على قاعدة المشاهدين الجدد، خاصة أن المجال لن يترك هكذا في قبضتها بأريحية كما هو الوضع الآن، إذ من المتوقع أن تظهر كيانات أخرى تجعل المنافسة أمرًا غاية في الصعوبة، سيكون البقاء فيها للأجدر على جذب أنظار المشاهد وتلبية رغباته. 

تظهر الأرقام التي ترصد واقع سوق البث الرقمي أننا أمام قطاع يتمدد بقوة صاروخية، فقبل سنوات عدة لم يكن هناك في سوق البث الرقمي إلا نتفليكس، لكن مع تزايد المشتركين وإدراك شركات المحتوى حجم الفرص المتاحة لتحقيق أرباح من خلال الاستثمار في هذا السوق، ازدحم السوق ببائعين جدد يتنافسون على اجتذاب مشتركين.

المغريات التي يقدمها سوق البث الرقمي والمكاسب التي يحققها من المرجح أن تكسر احتكار الشركات العملاقة على السوق بأكمله

تفوق على المنافسين

مما يعمق تفوق نتفليكس أنها لم تكن وحدها في سوق البث الرقمي، فهناك العديد من الشبكات الأخرى المنافسة لها بشراسة، التي استطاعت خلال السنوات الماضية تحقيق نجاحات عدة، تجاوزت في بعضها ما حققته نتفليكس ذاتها، وعلى رأس هؤلاء المنافسين تأتي شركة “أمازون” عبر خدمة البث الخاصة بها “برايم فيديو”، بجانب شركات أخرى تقدم نفس المحتوى مثل و”ناو تي في” و”سكاي” و”بي تي” و”فيرجن”.

استطاعت أمازون (التي تبلغ قيمتها السوقية ست مرات أكبر من قيمة نتفليكس، و4.5 مرة ضعف حجم ديزني) أن تفرض نفسها بقوة في سوق البث، لا سيما منذ تفردها بالعرض الحصري لمسلسل “لورد أوف ذا رينجز”، الأمر الذي دفع نتفليكس إلى إعادة النظر في خريطتها الإنتاجية والتسويقية، وعلى الفور رفعت ميزانية المحتوى بنسبة 50%، من 8 مليارات دولار إلى 12 مليار دولار

جدير بالذكر أنه قبل 3 سنوات من الآن وحين حطت نتفليكس رحالها في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا كانت تغطي قرابة 130 دولة حول العالم، لكن بعد اقتحامها عالم الإنتاج وبث المحتوى الترفيهي زادت رقعة انتشارها لتصل إلى 190 دولة بزيادة  تقدر بعشرين دولة كل عام.

التطورات التي أحدثتها نتفليكس انعكست بطبيعة الحال على معدلات المشاهدين مقارنة بمنافسيها، حيث احتدم التنافس على كعكة المشتركين في خدمات البث الرقمي الذين بلغ عددهم 613 مليون مشترك في العالم عام 2018، متجاوزًا لأول مرة عدد مشتركي خدمات “الكايبل” الذين بلغوا 556 مليون مشترك حول العالم في نفس العام وبزيادة 27% عن عام 2017، وذلك بحسب إحصائية نشرتها جمعية الفيلم الأمريكية في مارس 2019.

وأشارت الإحصائية إلى نمو عدد مستخدمي خدمات البث الرقمي في أمريكا كونها السوق الأكبر عالميًا ليصل في الفئات العمرية (25 – 39 عامًا) إلى 67%، مشيرة إلى أن أكثر من 70% من المشاهدين من مختلف الفئات يستخدمون خدمات البث الرقمي، مع توقع زيادة هذا الرقم مستقبلًا.

وحصلت نتفليكس على نصيب الأسد من هذه التورتة، إذ أنهت عام 2018 بمشتركين بلغ عددهم 58.5 مليون مشترك في الولايات المتحدة بزيادة طفيفة عن مشتركي 2017 الذين بلغوا 52.8 مليون مشترك، فيما زاد الدخل السنوي بنسبة 35% ليصل إلى 16 مليار دولار، حسب نتائج أعمال الشركة لعام 2018.

فيما تأرجحت أعداد المشتركين في المنصات المنافسة، حيث بلغ عدد المشتركين في شبكة “أمازون برايم” بنحو 26 مليون شخص في بداية 2017، أمَا منصة “هولو”، فقد قفز عدد المشتركين فيها ليصل إلى 25 مليون مشترك بنهاية عام 2018، وهو ما يضع نتفليكس في مرتبة متقدمة للغاية مقارنة بمنافسيها.

المغريات التي يقدمها سوق البث الرقمي والمكاسب التي يحققها من المرجح أن تكسر احتكار الشركات العملاقة على السوق بأكمله، حيث ظهر على السطح العديد من الشركات المحلية التي اقتحمت هذا المجال في محاولة للاستثمار لمشاطرة الكبار الأرباح، منها شبكة “آي. تي. في” التليفزيونية (مستقلة) وهيئة الإذاعة البريطانية “بي. بي. سي”، بجانب مجموعة “MBC” السعودية عبر منصة “شاهد” الرقمية.

وفي ظل هذا التنافس بين “نتفليكس” و”أمازون” و”ديزني” و”آبل” وحتى “بي بي سي وآي تي في” سيجد المشاهد أمامه الكثير من الخيارات لتفضيل منصة على أخرى، وهو ما يمثل تحديًا كبيرًا أمام الجميع في تقديم كل ما يرضي الجمهور عبر تقنيات متقدمة تحقق التفرد والجودة في آن واحد.

وفي ظل المليارات التي تنفقها نتفليكس لإنتاج محتوى متقدم يرضي المشتركين هناك سؤال يفرض نفسه: هل تستطيع الاستمرار في ذلك بما يضمن لها التفوق على منافسيها الذين يزداد عددهم وقدراتهم يومًا بعد الآخر؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام القادمة لا سيما في ظل الأرباح المتصاعدة لهذا النوع الجديد من الاستثمار.