طالعنا جميعًا، يوم الجمعة الماضي، الـ24 من أبريل/نيسان، خبر وفاة الأكاديمي والحقوقي السعودي عبد الله الحامد التميمي، المُلقب بـ”أبو بلال”، وشيخ الإصلاحيين في الجزيرة العربية، داخل محبسه، في سجن الحائر بالرياض، عن عمر يناهز 70 عامًا.
وقد بات معلومًا أن السلطات السعودية تتحمل كفلًا من مسؤولية وفاة الشيخ عبد الله، بعد تجاهلها الكثير من البيانات التي حذرت من تدهور صحة الناشط الذي ظل قابعًا في سجونها لمدة سبعة أعوام، منذ عام 2013، على خلفية حكم قضائي بالسجن لمدة 11 عامًا بسبب مطالباته المتكررة بإجراء بعض الإصلاحات السياسية في البلاد، ما أسفر عن إصابته بجلطة دماغية، أدت – نتيجة الإهمال – إلى وفاته.
وبينما تناولت معظم المنصات الصحافية والإعلامية خبر وفاة الأكاديمي الحاصل على شهادة الدكتوراه في النقد الأدبي (والفلسفة) من زاوية عامة تركز على أهم محطات حياته النضالية في المجال السياسي، فإننا نحاول في هذه المادة التركيز على جوهر أطروحته الإصلاحية وأهم مقولاتها والسياقات التاريخية التي ساعدت في ظهورها، محاولين استشراف مستقبل هذه الطليعة، كما نظر لها بنفسه.
المشكلة السعودية
اعتبر الشيخ الحامد أن شبه الجزيرة العربية ومنطقة الخليج، خاصة السعودية، تعاني في الواقع من اختلالات “بُنيوية” واضحة، في نظرتها إلى الذات والآخر والعالم، وغياب للمواجهة الحقيقية مع الأسئلة الحضارية الأساسية، مثل سؤال السياسة والدين، لصالح مشهد “مزيف” عن حالة الاستقرار المزعوم من الخارج.
انقسم أنصار التغيير إلى عدة فرق، منهم من يرى حتمية تغيير الوضع القائم “بالعُنف”، ومنهم من يرى أن هناك انسدادًا سيتكفل الزمن بحله
ظهرت هذه الاختلالات في عدد من الأحداث التاريخية التي شهدتها منطقة الخليج وعلى رأسها “حرب الخليج الثانية” عام 1991، عندما تدفق آلاف المقاتلين الأجانب “المستعمرون” إلى الإقليم النفطي بغرض حماية إحدى دول هذا الإقليم، ثم أحداث العنف التي قادها سعوديون (15 مقاتلًا من أصل 19) ضد الولايات المتحدة الأمريكية سبتمبر/أيلول 2001، حيث كان التفسير الرئيس المتفق عليه من جانب معظم نخب المجتمع، أن هناك “انسدادًا” حادًا في مسار السياسة الخليجية، ينبغي وضع حد له.
وبطبيعة الحال، انقسم أنصار التغيير إلى عدة فرق منهم من يرى حتمية تغيير الوضع القائم “بالعُنف”، ومنهم من يرى أن هناك انسدادًا سيتكفل الزمن بحله، وبين هذين الفريقين طرفٌ ثالث رأى إمكانية (وضرورة) العمل على التغيير من الداخل، وهي الطليعة الأكاديمية التي كان الشيخ الحامد على رأسها.
وبحسب الشيخ الحامد، يمكن رد هذا الانسداد (الأنوميا بتعبير علم الاجتماع السياسي) إلى عدد من الأسباب التاريخية المغرقة في القدم، مثل العودة إلى استبداد العصر الأُموي، كما يمكن عزوه إلى عوامل أخرى أكثر وضوحًا ومباشرة، مثل شخصية الحاكم، بينما تعتبر اللحظة الأكثر قدرة على تفسير هذا التردي السياسي، هي لحظة صعود الحركة الوهابية في نجد منذ أكثر من قرنين، مُدشنةً بذلك ثنائية الحكم الأقوى في الجزيرة: القبيلة/الشيخ، ابن سعود/ابن عبد الوهاب.
ولا يمانع الحامد في الاعتراف بجاذبية المقولة التي صعدت الوهابية على أكتافها، مقولة “المستبد العادل”، إذ يعتبرها ملائمةً لطبيعة المجتمع الصحراوي في هذا التوقيت، ولكنه يقر، في نفس الوقت، أنها تسببت في تعطيل وصول قطار التحديث إلى المملكة، وتحولها (الوهابية) إلى غطاء لتكريس الاستبداد باسم الدين، وصولًا إلى مرحلة “الحكم الجبري” أو “حكم قراقوش”.
بل ويعتقد الحامد أن الوهابية أدت إلى تشويه صورة الإسلام عندما جعلته صنوًا للرجعية، وأضرت بالمواطن السعودي في حياته اليومية نتيجة تقريب أهل الثقة بدلًا من أهل الخبرة، وأنتجت مؤسسات فاسدة تجهل مقتضيات عملها وتبطش باسم الدين لصالح الحاكم مثل القضاء السعودي.
سؤال التغيير
طور الشيخ الحامد وتياره، نظريةً سياسية توفق بين البعد الشرعي والعلوم الإنسانية، تفسر هذه النظرية الواقع المُتردي وتشخيص علاجه في نفس الوقت. ويمكن تلخيصها في عبارة “عبد الرحمن الكواكبي” التي كان الشيخ الحامد يكثر من استعارتها، وهي: “الاستبداد أصلُ كل فساد”.
الشيخ الحامد كان يرفض رفضًا قاطعًا سياسة النصح السري لولاة الأمور ويعتبرها ضربًا من أدب الانحطاط الذي دمر الأمة
وبناءً عليه، كان الشيخ الحامد يعتبر أي أسئلة “ثقافوية” عن دور المرأة في المجتمع، أو فنية على غرار الأسئلة المطروحة عن إصلاح التعليم، أو تلك المتعلقة ببعض الظواهر الاجتماعية السلبية مثل تنامي العنف الديني، أسئلةً “هامشية” تحرف الوجهة عن السؤال الرئيس، الذي هو عنده سؤال: “السُلطة/ السياسة”، فإذا انفتح المجال العام وخففت القيود عن الحريات المدنية، في الصحافة والأحزاب والنقابات، فإن المجتمع، تلقائيًا، سوف يصبح أقل ضغطًا وأكثر رشادًا ووضوحًا وجرأةً على معالجة مشكلاته.
وبحسب النظرية السياسية التي اعتنقها أبو بلال، فإن الإسلام، وإن اختلف مع المنطلقات الفلسفية التي أنتجت القيم السياسية المعاصرة، فإنه يتفق مع كثير من مضامينها، بل ومن الممكن إيجاد تقاربات واضحة بين بعض المفاهيم الدينية ونظرائها في المعجم الاجتماعي الحديث، فالشورى ليست بعيدة عن الانتخاب، والنبي طبق المواطنة في بعض اللحظات التاريخية من عمر دعوته، كما أن الجهاد نفسه يمكن أن يكون سلميًا، وهو ما حاول التنظير له منذ عام 1992 من خلال مقولات مركبة تشكل إطارًا لما سماه “الإسلام المتنور” مثل: “ولاية الأمة على الأمراء والوزراء والقضاة” و”لا صاحب سمو ولا صاحب دنو في الإسلام” و”مواطنة لا وهبنة أو نجدنة”.
ورغم إقراره بضرورة النضال السلمي الجماعي طريقًا وحيدًا كافيًا نحو المجتمع الراشد على المستويين المدني والشرعي، وقبوله بكل الأثمان التي قد يدفعها مقابل ذلك، فإن الشيخ الحامد كان يرفض رفضًا قاطعًا سياسة “النصح السري لولاة الأمور” ويعتبرها ضربًا من “أدب الانحطاط” الذي دمر الأمة، مستندًا في ذلك إلى كون الحاكم وكيلًا عن المجتمع لا وصيًا عليه، ومستأنسًا بما ثبت عن المرأة التي عارضت ثاني الخلفاء الراشدين، عمر بن الخطاب، علنًا، حتى أذعن لها قائلًا: “أصابت امرأة، وأخطأ عُمر”.
خصوصية المجتمع
على نحو عملي، كان الشيخ عبد الله على استعداد للتراجع عن إطاره النظري السابق بضع خطوات إلى الوراء، فاصلًا بذلك بين التصورات والممارسة العملية على أرض الميدان، ومُتسقًا مع ما أفاده من العلوم الاجتماعية في أن الوقائع لا تتشكل بين عشيةٍ وضحاها، حيث كان دائم الترديد: “من سار على الدرب وصل، النهر يحفر مجراه، والتربة التي لم تعتد على الزراعة لابد أن تجتهد في إصلاحها، والاستبداد في السعودية بُنيوي منذ قرون”.
ومن بين الملكيات المُطلقة والمُقيدة، كان الشيخ الحامد يعتقد أن النموذج الأقرب إلى خصوصية المملكة العربية السعودية عمليًا، هو الملكيات المُقيدة، حيث رأى الشيخ وتياره أن الملكيات المطلقة، التي تكون فيها عائلة معينة “تحكم ولا تملك” نموذج يصعب القفز إليه مباشرة في ظل بيئة يكره فيها معظم الأمراء الحرية السياسية مثل البيئة السعودية، بينما يمكن المطالبة بملكية مقيدة، تسمح بالتداول السلمي للسلطة وحرية تكوين الأحزاب وتمنح مزيدًا من الصلاحيات إلى البرلمان، على غرار النموذج المغربي، فيما كان يصطلح عليه “الملكية الدستورية السعودية الرابعة”.
وقد عول الحامد على الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود كثيرًا في هذا الأمر، وكان يفرق بين الملك الذي “كان عنده بوادر إصلاحية، وقال رؤيتكم مشروعي، وسمح ببعض الحراك، ولم يعترض على إنشاء جمعية حسم، وبين وزير الداخلية نايف بن عبد العزيز الذي “ما إن قوي وعُين نائب ثانٍ لرئيس مجلس الوزراء، بدأ يجرنا إلى التحقيقات”، معتبرًا إياه مسؤولًا عن جلْد النساء في المساجد وتفشي العنف داخليًا وخارجيًا.
كان الشيخ الأكاديمي يربت على أكتاف رفاقه في النضال الحقوقي الإسلامي
كما راهن الحامد على “عقلانية” الأسرة الحاكمة في السعودية، مرجحًا أن تذعن إلى الإصلاحات خوفًا من حدوث صدام واسع المدى مع الجماهير، فبعض العائلات في الأسرة يصل عددها – على حد قوله – إلى 20 ألف شخص، وقد رصدت بعض المنظمات نحو 50 مظاهرة صغيرة، منها مظاهرات في الرياض والقطيف والقصيم، عام 2012، مقترحًا أن تبدأ الدولة، حينئذ، بتقسيم وزارة الداخلية إلى وزارتين، واحدة للأمن الداخلي وأخرى للحكم المحلي، وفصل هيئة الادعاء والسجون عن الداخلية وضمها إلى القضاء، مع وعدٍ بإصلاحات دستورية.
ورغم عدم الاستجابة إلى معظم هذه المطالب، كان الشيخ الأكاديمي يربت على أكتاف رفاقه في النضال الحقوقي الإسلامي بأن “ما يتاح لنا أفضل مما كان قبل ثلاث سنوات، فما بالك قبل عشرين سنة، هناك بعض التقدم في مجال حرية الرأي والتعبير، نحن لم نعط حقوقنا، انتزعناها بالصبر والمتابعة والجهاد السلمي المتواصل.. المحاكمات العلنية بدأت تسري”.
مستقبل الحراك
بحلول نهايات حكم الملك عبد الله، كانت الأمور قد أخذت طريقها نحو التدهور، بالنسبة للمعارضة الإصلاحية في شبه الجزيرة العربية، وبالنسبة لثورات الربيع العربي التي تأثرت سلبًا بالمال الخليجي الفاسد على حد سواء، حتى إن الحامد قد حُكم عليه بالسجن 11 عامًا حكمًا قضائيًا مركبًا.
وبصعود الملك سلمان، إلى سُدة الحكم في المملكة، انهارت أحلام الإصلاحيين وكل أطياف المعارضة، على أعتاب أحلام ولي العهد، وصولًا إلى وفاة شيخ الإصلاحيين في سجنه، بعد أن مات صديقه، جمال خاشقجي، مقطعًا في سفارة بلاده بتركيا، نهايات 2018.
في هذه الآونة، تبدو المعادلة مختلفة تمامًا عما نظر إليه إصلاحيو الإسلاميين، ومنهم الشيخ الحامد، منذ التسعينيات، فالملك، ومن خلفه ولي العهد، منفتحان على الإصلاحات بالفعل، لكنها إصلاحات شكلية تتزامن مع أكبر موجة تجريف سياسي واجتماعي وثقافي تشهدها المملكة منذ عقود طويلة، فماذا عن مستقبل الإصلاحات في ظل هذه الظروف من وجهة نظر الشيخ الفقيد؟
لم يُعلق الشيخ الحامد على انتهاكات ولي العهد وتأثيرها على مستقبل الجهاد السلمي نظرًا لملابسات سجنه الممتدة من عام 2013، ولكنه كان دائم التأكيد على ثقته في الشعب السعودي “الشعب عاوز حرية.. الكرامة هي أغلى من النفط، الكرامة هي أساس حياة الإنسان، ومن يُحرم الكرامة فلا قيمة له ولا لأي شيء في الحياة، لأن الله وهب الإنسان الكرامة ليكون حرًا باختياره.. الناس لا تثور من أجل الماء والخبز فقط، إنما أكثر ما يؤثر فيها الكرامة”.
وبحسب الحامد قبل وفاته، فإن تعثر الثورات عارض، وأكبر دليل على ذلك هو تعثر الثورة الفرنسية، بيد أن المعارضة القهرية لتيارات التغيير الطبيعية تؤدي عادة إلى تفاقم الأوضاع وصولًا إلى انفجارها، خاصة في ظل تزايد العنف الرمزي بالمجتمع، وفشل الملكية الاستبدادية في إدارة معظم ملفات البلاد، وتوافر وسائل التواصل بشكل غير مسبوق: “ربما غدًا لن يكتفي الناس بالملكية الدستورية، ربما يطالبون بإسقاط الحكم، وكما جاء في المثل التركي “اتق ركلة الدبة الهادئة”.. نحن شعب لا يعرف الخوف”.