شهد لبنان خلال الربع الأخير من العام المنصرم (2019) انتفاضة شعبية حقيقية أطاحت بحكومة العهد الأولى التي كان يرأسها سعد الحريري، وكادت الانتفاضة تتحول إلى ثورة حقيقية تطيح بكل السلطة الحاكمة على الرغم من كل الحيل والألاعيب التي اعتمدتها تلك السلطة لحرف الانتفاضة عن مسارها أو على أقل تقدير تخفيف وهجها وقوتها.
وقد استطاعت بالفعل أن تحقق هذا المطلب من خلال التضحية بحكومة الحريري من ناحية، وتشكيل حكومة برئاسة الدكتور حسان دياب، قيل إنها حكومة أصحاب كفاءة واختصاص ومستقلة عن القوى السياسية والحزبية من ناحية ثانية، والتي تم الاكتشاف أنها حكومة القوى المتحكمة بالبلد وتُعد السلطة الفعلية فيه.
لكن على الرغم من ذلك فإن الانتفاضة أنجزت بعض المنجزات، وشكلت بالنسبة للكثيرين حجر أساس لمرحلة مقبلة، واعتُبرت بمثابة الموجة الثورية الأولى.
كورونا ضالة الحكومة
لقد ساعد اكتشاف حالات مصابة بفيروس كورونا خلال شهر فبراير/شباط من العام الحاليّ في لبنان الحكومة والسلطة السياسية على تسديد الضربات للانتفاضة الشعبية والتهرب من التزاماتها تجاهها، فعمدت عن نية أو عن عدم نية إلى تخويف اللبنانيين من مغبة انتشار الوباء وإصابة الناس به، واتخذت إجراءات وقائية على المستوى الصحي والعام، فحجرت الناس في المنازل ولم تسمح لهم بالخروج منها إلا في الحالات الاستثنائية، وأقفلت المرافق العامة والجامعات والمدارس والمطارات وغيرها، ومنعت التجمعات.
كل ذلك كان يجري تحت عنوان التعبئة العامة لمكافحة انتشار وباء كورونا، إلا أنه في حقيقته شكل بالنسبة للحكومة والسلطة ضالتها وحبل خلاصها من الضغط الشعبي الذي ظل متواصلًا على الرغم من إعطاء حكومة دياب فرصة مئة يوم لإثبات ما قالته والتزمت به، وقد ساعدت الإجراءات التي اتخذتها السلطة على إطفاء وهج انتفاضة 17 تشرين، وتحويل الأنظار عنها إلى تهديد كورونا، كما حاولت تسليط الضوء على إنجازات الحكومة على المستوى الصحي والإجراءات المتخذة في هذا الجانب.
إجراءات الحكومة في موضوع كورونا لم تحجب الناس عن الأزمة الاقتصادية المتفاقمة
الوضع المعيشي الضاغط
غير أن إجراءات الحكومة في موضوع كورونا لم تحجب الناس عن الأزمة الاقتصادية المتفاقمة والآخذة بالازدياد، بل على العكس من ذلك فقد زادت هذه الإجراءات من تفاقم الأزمة الحياتية والمعيشية للمواطنين، وتسببت إجراءات الحجر المنزلي في تعطيل أعمال معظم الشركات والمعامل والقطاعات الخاصة والعامة، وبالتالي تراجع الدخل اليومي للمواطن، وقد عبر الكثير من الناس عن امتعاضهم من هذه السياسية من خلال مخالفة قرارات الحكومة، التي كان آخرها دعوة اتحاد النقل البري السائقين إلى مزاولة عملهم بشكل عادي لأنهم لم يعودوا يجدون القدرة على الاستمرار في حالة الحجر، وهم الذين يعتمدون بشكل أساسي على الدخل اليومي. وقطاعات كثير مشابهة بدأت تنحو بهذا الاتجاه، خاصة تلك التي تصنف على قائمة الأعمال الحرة.
كما أن غياب أي رؤية أو خطة اقتصادية واضحة للحكومة فاقم حجم الأزمة الاقتصادية، وانعكس بشكل كبير على مستوى دخل الناس، وهنا يأتي الحديث عن تخلف الحكومة عن دفع مستحقات مالية وديون لجهات دولية من دون تأمين البدائل أو الدخول في مفاوضات جدية مع تلك الجهات، وقد انعكس ذلك شحاً في السوق اللبنانية للعملات الأجنبية ما أدى إلى تهاوي سعر صرف الليرة اللبنانية أمام العملات الأجنبية إلى مستويات غير مسبوقة منذ 30 عامًا تقريبًا، حيث بلغ سعر صرف الدولار الأمريكي أمام الليرة أكثر من ثلاثة آلاف وخمسمئة ليرة لبنانية، وهو ما كان له أثر كبير على معيشة الناس وعلى استحقاقاتهم الحياتية، الذي وضعه على خط التفكير والموازنة بين الخضوع للحجر المنزلي خوفًا من كورونا، وبالتالي الموت جوعًا والتعرض لخطر الوباء وإمكانية الإصابة به وبالتالي احتمالية الموت به.
انقسام القوى السياسية من جديد
تأتي كل هذه الأوضاع والظروف الصعبة في ظل إعادة إنتاج الانقسام السياسي بين القوى السياسية حتى التي كانت تبدو متحالفة إلى وقت قريب، وذلك على خلفية المصالح الخاصة والضيقة والفئوية لكل طرف من هذه الأطراف، وقد برزت هذه الخلافات علنية أمام التعيينات الإدارية في المؤسسات المالية الرسمية، وهدد بعض الوزراء المحسوبين على أطراف سياسية بالاستقالة من الحكومة، وبالتالي فرطها.
وكذلك حيال قرارات تتعلق بمعالجة الأزمة المالية المتفاقمة، التي أنذرت بخروج الأمور عن السيطرة فتم تبادل الاتهامات بين أركان السلطة والأطراف السياسية حتى الموجودة خارجها بالمسؤولية عن الحال الذي بلغه البلد، ولكن من دون تقديم أي حلول أو مقترحات عملية للحل أو الخروج من النفق.
بداية الموجة الثورية الثانية
لبنان اليوم وأمام هذا المشهد المخيف يقف على أعتاب موجة ثورية جديدة وثانية قد لا تشبه في أدائها ولا في نتائجها الموجة الثورية الأولى
لكل ذلك عاد الشارع إلى التحرك من جديد، وبزخم متصاعد، لأن الناس لم تعد تحتمل الوضع المتردي على المستوى المعيشي والاقتصادي، ولأنها فقدت القدرة على الصمود، فعاد مشهد التحركات الشعبية أمام المصارف من ناحية، وفي ساحات المدن الرئيسية من ناحية ثانية بوتيرة آخذة بالتصاعد يومًا بعد يوم، كما عبرت أحيانًا عن ذاتها من خلال أعمال خارجة عن المألوف اللبناني حيث لجأ أكثر من مواطن إما إلى إشعال النار بنفسه أم بسيارته أم بأثاث منزله أم ربما لجأ إلى ارتكاب جريمة القتل أو السرقة أو السلب أو غيرها، وبما ينذر بما هو أعظم.
لبنان اليوم وأمام هذا المشهد المخيف يقف على أعتاب موجة ثورية جديدة وثانية قد لا تشبه في أدائها ولا في نتائجها الموجة الثورية الأولى، ولكنها حتمًا ستخلط كل الأوراق في ظل الأوضاع العالمية القائمة، وفي ظل تمدد كورونا زمانيًا ومكانيًا، غير أن خلط الأوراق سينتج عنه واقع جديد ما من أحد يستطيع أن يتنبأ حتى الساعة بشكله وحجمه وتأثيره.