تعاني القاهرة في ملف سد النهضة من حزمة من العثرات التي تهدد مستقبلها المائي، في ظل تعنت الجانب الإثيوبي الذي نجح عبر سياسة التسويف المتبعة منذ 9 سنوات تقريبًا، في تحقيق أهدافه المنشودة، الخاصة بتخدير الجانب المصري لحين الانتهاء من بناء السد الذي يمثل أحد أبرز المشروعات القومية للشعب الإثيوبي.
ما يزيد على 25 جولة مكوكية شهدتها مسارات التفاوض بين القاهرة والخرطوم وأديس أبابا، غير أنها لم تحرك ساكنًا في حلحلة الخلاف وتقريب وجهات النظر، بل على العكس من ذلك زادت من تعقيد الأمور حتى وصلت حد الصدام والسجال السياسي والإعلامي والتلويح باستخدام القوة العسكرية.
قوة الموقف الإثيوبي التفاوضية في هذا الملف لم تكن من فراغ، فبجانب شرعنة بنائه للسد في أعقاب توقيع إعلان المبادئ الذي وقع عليه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في الخرطوم، مارس 2015 الذي كان بمثابة الاعتراف الرسمي من القاهرة بحق أديس أبابا في بناء السد، فإن دعم الخرطوم للموقف الإثيوبي شكل هو الآخر مصدر قوة كبيرة للإثيوبيين.
وعلى مدار السنوات القليلة الماضية شهدت العلاقات بين القاهرة والخرطوم توترات عدة جراء تباين المواقف حيال مفاوضات السد، فكثيرًا ما كان يتهم الجانب المصري نظيره السوداني بدعم الموقف الإثيوبي على حسابه، وهي الاتهامات التي نفاها السودانيون مرارًا.
غير أن الأوضاع على طاولات التفاوض تقول عكس ذلك، لعل آخرها رفض المفاوض السوداني التوقيع بالأحرف الأولى على الاتفاق الذي صاغته أمريكا والبنك الدولي في واشنطن نهاية فبراير الماضي، في إطار جهود الوساطة التي قام بها الرئيس دونالد ترامب للتوصل إلى حل وسط بشأن الملف، وهو الموقف الذي أثار حفيظة المصريين.
العلاقات الشخصية القوية التي تجمع بين رئيس الحكومة السودانية عبد الله حمدوك، ونظيره الإثيوبي آبي أحمد، تعكس حجم التنسيق والتناغم بين حكومتي البلدين، وهو ما تعتبره القاهرة عاملًا مؤثرًا في توجهات الخرطوم حيال ملف السد، ومن ثم لم تعول على المفاوض الحكومي كثيرًا، الأمر الذي ربما يدفع بتغيير البوصلة صوب عسكر السودان، وهو ما كشفته العديد من الإرهاصات الأولية في أعقاب ثورة ديسمبر التي أطاحت بنظام عمر البشير.
التناغم بين عسكر مصر والسودان
لم يكن اختيار رئيس المجلس العسكري الانتقالي السوداني عبد الفتاح البرهان، رئيس المجلس السيادي حاليًّا، القاهرة، كمحطة أولى في زياراته الخارجية، أبريل 2019، إلا رسالة أراد أن يبعث بها نظام ما بعد البشير لتأكيد عمق العلاقات بين النظامين العسكريين في مصر والسودان، لا سيما أن ظروف سيطرة كليهما على الحكم متشابهة إلى حد كبير.
تلك الزيارة التي وصفها موقع “إندبندنت عربية” السعودي، بأنها جاءت لتؤكد وقوف المجلس السوداني في محور التحالف المصري – الخليجي، لا سيما أنها أتت غداة زيارة نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي الفريق أول محمد حمدان دقلو، المعروف بـ”حميدتي”، نائب رئيسي المجلس السيادي، للسعودية ولقائه بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
منذ الوهلة الأولى، حين أعلنت القاهرة دعمها الكامل للمجلس العسكري الانتقالي المشكل عقب عزل البشير بريل الماضي، بات من المعروف على أي الأحْصِنَةٌ يراهن نظام السيسي
وخلال العامين الماضيين تعددت الزيارات المتبادلة بين المسؤولين المصريين والسودانيين، من أصحاب القرار، كان على رأسها زيارة رئيس جهاز المخابرات المصري اللواء عباس كامل للخرطوم، في مقابل زيارة حميدتي للقاهرة، هذا بخلاف الاتصالات المتعددة التي تجري بين العاصمتين.
منذ الوهلة الأولى، حين أعلنت القاهرة دعمها الكامل للمجلس العسكري الانتقالي المشكل عقب عزل البشير أبريل الماضي، بات من المعروف على أي الأحْصِنَةٌ يراهن نظام السيسي، وهو ما أثار غضب الثوار وقتها، رافعين شعارات عدة تطالب بعدم التدخل المصري في شؤون بلادهم، كما أقاموا العديد من التظاهرات أمام مقر السفارة المصرية في الخرطوم للتنديد بهذا الدعم للعسكر.
تصاعد التوتر
منذ بداية أزمة سد النهضة في 2010 وكثير ما يتساءل المصريون عن طبيعة الموقف السوداني الذي طالته اتهامات عدة، مرة بالغموض وأخرى بالانحياز للجانب الإثيوبي، فيما ذهب فريق ثالث إلى أن موقف الخرطوم واضحًا للغاية، ويضع مصلحتها في المقدمة، بعيدًا عن أي اعتبارات عروبية أو جغرافية.
ثمة ملفات كانت وراء تعاظم الخلاف بين القاهرة والخرطوم طيلة السنوات الماضية، منها ملف حلايب وشلاتين (جنوب) الذي يتنازع عليه البلدان، الأمر الذي دفع الجانب السوداني للتلويح بتدويل الأزمة في ظل تمسك الجانب المصري بموقفه الرافض اعتبار المثلث ملكية سودانية.
هذا بخلاف الاتهامات السودانية المتواصلة للقاهرة بدعم حكومة جنوب السودان بالسلاح، وهي الاتهامات التي ألمح إليها الرئيس المعزول عمر البشير في حوار أجراه مع رؤساء تحرير صحف سودانية مرافقين له في زيارته الأخيرة إلى الإمارات فبراير 2017، قائلًا حينها: “هناك مؤسسات في مصر تتعامل مع السودان بعدائية”.
بعد رحيل البشير فرضت حالة من الترقب نفسها على القاهرة تحسبًا لمن يخلف الرئيس المثير للجدل بالنسبة للشارع المصري، والتزمت السلطات المصرية الصمت حيال الثورة الشعبية السودانية
وفي أبريل من نفس العام اتهم وزير الخارجية السوداني في هذا الوقت، إبراهيم غندور، مندوب مصر في مجلس الأمن، بتقديمه طلبًا لإبقاء العقوبات المفروضة على الخرطوم طبقًا للقرار 1591 الذي يحظر بموجبه بيع الأسلحة للسودان، معلقًا بقوله “الموقف المصري غريب لدينا ونتمنى ألا يكون انعكاسًا لخلافات طفيفة بين البلدين؛ لأنه في هذه الحالة سيكون موقفًا شاذًا عن الموقف الإفريقي والعربي والمصري الثابت والداعم للسودان”.
وبعد رحيل البشير فرضت حالة من الترقب نفسها على القاهرة تحسبًا لمن يخلف الرئيس المثير للجدل بالنسبة للشارع المصري، والتزمت السلطات المصرية الصمت حيال الثورة الشعبية السودانية، غير أن الأوضاع تبدلت تمامًا مع تصدر المجلس العسكري الانتقالي المشهد، ليبادر نظام السيسي بدعمه على أمل أن ينتهج سياسة مخالفة لما كان عليه النظام السابق لا سيما في ملف سد النهضة، وهو الملف الأكثر حرجًا للسلطات المصرية.
لكن الأمر لم يتغير كثيرًا، رغم رسائل الطمأنة التي حرص البرهان وحميدتي على إيصالها للجانب المصري بين الحين والآخر، لعل آخرها تأكيد حميدتي خلال زيارته للقاهرة مارس الماضي، على دعم المسار التفاوضي بين مصر وإثيوبيا، والعمل للتوصل إلى صيغة مرضية للجميع، وذلك خلال لقائه بالسيسي.
وجاء تحفظ الخارجية السودانية في مارس الماضي على مشروع قرار مجلس وزراء الخارجية العرب الذي أكد تضامن الجامعة العربية مع موقف مصر والسودان الخاص بسد النهضة الإثيوبي باعتبارهما دولتي المصب، ليُخرج الخلاف بين البلدين من مرحلة المواربة إلى العلن والوضوح.
حياد أم انحياز؟
بات من الواضح أنه لا تغيير في الموقف السوداني بمسار المفاوضات، سواء في عهد حكومة الرئيس المعزول عمر البشير أم حكومة ما بعد الثورة التي يقودها حمدوك، وهي نقطة الخلاف الجدلية التي فرضت نفسها على الشارعين المصري والسوداني على حد سواء، فهل يعتبر الموقف السوداني حياد أم انحياز؟
الأمين العام لهيئة الطاقة والتعدين والكهرباء والتنظيم السودانية، تيجاني آدم، يرى أن من حق إثيوبيا بناء السد، وأن الحديث عن تدويل الأزمة سوف يعقد الأمور ويؤخر الحلول وفق تصريحات أدلى بها لوكالة الأنباء الإثيوبية، معلقًا: “بما أن أصل النهر من إثيوبيا، فدع شعب إثيوبيا يأخذ احتياجاته، ثم يذهب الباقي إلى السودان والباقي يذهب إلى مصر، هذه هي الحلول الصحيحة، لذلك ستصل الدول الثلاثة إلى حل وسط”.
القلق الذي يمثله حمدوك للقاهرة دفع الأخير إلى التفكير في إزاحته والمجموعة الداعمة لإثيوبيا من المشهد السياسي برمته، وذلك عبر خطة تخضع لإشراف كامل ومباشر من رئيس جهاز المخابرات العامة
وفي الجهة المقابلة يتهم رئيس وحدة السودان وحوض النيل بمركز الأهرام للدراسات، هاني رسلان، السودان بالانحياز لأديس أبابا بشكل كامل، وأن هذا الموقف يتعارض مع المصالح المشتركة بين مصر والسودان، مؤكدًا في تصريحات لموقع “الحرة” أن السد كما يمثل خطرًا على المصريين فإنه كذلك يمثل خطرًا على السودان “سواء من ناحية الأمان وبنائه على الحدود مع السودان، أو باعتبارها إحدى دول المصب التي سوف تتأثر سلبيًا”.
وأشار الخبير المائي المصري إلى أنه لا يجد مبررًا لرفض السودان التوقيع على اتفاقية واشنطن بالأحرف الأولى، كما وقعت مصر، مضيفًا أن الخرطوم عبرت عن موقفها المنحاز بشكل كامل لإثيوبيا في أكثر من موقف، الأول كان في واشطن، والآخر عندما تحفظت على مقترح مشروع الجامعة العربية.
إزاحة حمدوك
بات رئيس الحكومة السوداني القادم من رحم الثورة يمثل مصدر قلق بالنسبة للقاهرة التي يبدو أن لديها انطباعًا بأن علاقته القوية برئيس الوزراء الإثيوبي التي تعود إلى ما قبل شغله لمنصبه ستكون حائلًا دون زحزحة الموقف الرسمي الإثيوبي حيال ملف السد، وهو ما يجعل المصريين لا يعولون كثيرًا عليه.
وفي الجهة الأخرى فإن التجاذب وعدم الوفاق الملاحظ في الفترة الأخيرة بين المكون العسكري والمدني في الخريطة السياسية السودانية منذ سقوط نظام البشير قبل عام تقريبًا، يعزز هذا الانطباع المصري، الذي يلتقي في مصالحه مع رغبة جنرالات السودان في اعتلاء المشهد على حساب مدنية الدولة التي طالبت بها الثورة.
القلق الذي يمثله حمدوك للقاهرة دفع الأخير إلى التفكير في إزاحته والمجموعة الداعمة لإثيوبيا من المشهد السياسي برمته، وذلك عبر خطة تخضع لإشراف كامل ومباشر من رئيس جهاز المخابرات العامة عباس كامل، وفق ما نقل موقع “العربي الجديد” عما سماه مصادر خاصة.
كما نقل الموقع عن مصادره فإن هناك مجموعة عمل دورها الأساسي يتمحور حول الإطاحة بحمدوك، في مقابل توجيه الدعم الكامل للمكون العسكري في مجلس السيادة الانتقالي، ومحاولة تعزيز شعبيته من أجل الإمساك بزمام الأمور، بجانب تعزيز موقفه من التيار المدني المعارض لحكم العسكر بالداخل.
المصادر ذاتها لفتت إلى أن هذا التوجه المصري يلاقى رغبة جنرالات السودان الذين يخشون من توسيع نفوذ حمدوك على المستوى الدولي، وصناعته لنفوذ إقليمي قوي في مواجهة التيار العسكري، وهو ما يهدد مستقبلهم السياسي في البلاد، لا سيما أن من أبرز مطالب الثورة الإطاحة بحكم العسكر ومدنية الدولة، وهي الشعارات التي لن ينساها العسكر هناك مهما طال الوقت.
وفي المجمل فإن الفترة المقبلة من المرجح أن تشهد ضغوطًا عدة على حمدوك بمساعدة جنرالات المجلس السيادي لإعادة النظر في موقفه من العلاقات مع إثيوبيا فيما يتعلق بملف سد النهضة، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعانيها البلاد هذه الأيام، وما يصاحبها من تصاعد وتيرة الاحتقان الشعبي، التي قد تكون ورقة ضغط قوية بيد البرهان وحميدتي وحلفهما الإقليمي.