تصوير: يحيى نعمة – سعد الحاج – رافي الشامي – عمران الدوماني
يجادل كثر أن رمضان يجاوز حالته كطقس تعبدي مفروض، إلى حالة مجتمعية كاملة يجتمع فيها الناس للعبادة والطعام والتزاور وحتى الترويح عن النفس، لذلك يجده كثير من المسلمين حول العالم اليوم فاقدًا لطعمه الذي ألفوه، في ظل إجراءات كورونا التي تفرض عليهم التزام منازلهم، وتحرمهم التهادي بالأطعمة أو حتى زحام الأسواق المحبب في هذا الشهر.
فحتى صلاة التراويح التي تعتبر الطابع الأبرز لهذا الشهر تم تعليق إقامتها في جل مناطق المسلمين حول العالم، كما يحدث في مدينة الباب شرقي حلب، التي أصدرت وزارة الأوقاف فيها قرارها بإغلاق المساجد وتعطيل إقامة الصلوات جماعةً، حذرًا من تفشي فيروس كورونا، رغم عدم تسجيل شمال سوريا أي حالات مصابة.
المسجد الكبير في مدينة الباب ليلة أول أيام رمضان 2020
لكن هذه الإجراءات المتخذة في المنطقة الخاضعة للنفوذ التركي المباشر تحت سيطرة الحكومة السورية المؤقتة، التي ركزت جهودها على إغلاق المساجد والمدارس بشكل أساسي، إضافة إلى حد الحركة في الدوائر الحكومية، لم تجاوزها إلى نقاط أخرى يتجمع فيها الناس بكثافة عالية، ربما لا تقل عن كثافة تجمهرهم في المساجد!
فجولة صغيرة في أسواق المدينة في اليوم السابق على شهر رمضان، يمكنها أن تصدمك بأعداد الناس الذين يجولونها لشراء مستلزمات منازلهم، في مشهد يتعارض تمامًا مع السبب الأساسي الذي أغلقت لأجله المساجد وغيرها، شيوخ وشباب وأطفال يملأون الشوارع متزاحمين في الأسواق، لم تمنعهم تحذيرات الكورونا من النزول إليها، كما لم تمنعهم “مزنة” صيفية سريعة عن متابعة التسوق.
أسواق مدينة الباب في اليوم السابق على شهر رمضان
يجد أبو عمر الجبلي من أبناء مدينة الباب الذي قابلناه في إحدى محلات تجارة المواد الغذائية أن هذه الإجراءات منطقية، ويثق أنها تصب في مصلحة الناس، أما بالنسبة للأسواق فيعتبر تجمهر الناس فيها لشراء حاجياتهم أمرًا طبيعيًا مع قدوم الشهر الكريم، بل ومظهرًا من مظاهر شهر رمضان الاجتماعية القليلة التي يعيشها الناس بنوع من الفرح، لولا الغلاء الفاحش في أسعار كل شيء، وهو الأمر الذي علق عليه صاحب المحل عبد الوهاب من أبناء مدينة حلب المهجرين إلى المدينة إبان احتلال روسيا لمدينته مطلع عام 2017، بكونه نتيجة طبيعية لتدهور سعر صرف الدولار مقابل الليرة السورية.
أبو عمر مع عبد الوهاب صاحب أحد المحال التجارية في مدينة الباب
فقرار إغلاق المعابر الذي اتخذته السلطات في المنطقة لم يؤثر كثيرًا على ما يبدو على توافر المواد الغذائية في المدينة كما يقول عبد الوهاب، كما تنبئ رفوف المحلات المليئة بالبضائع، لكنه بالتأكيد يلعب دورًا إضافيًا في الغلاء، ربما بدرجةٍ ثانوية مقارنة مع تدهور أسعار الصرف.
وهي المشكلة نفسها التي يعاني منها أهالي إدلب في الجزء الغربي من الشمال المحرر، حيث يجد أبو عمر ذو الخمسين عامًا من أبناء مدينة إدلب، الذي قابلناه في إحدى أسواق المدينة التي لا يختلف فيها الزحام كثيرًا عن ذاك في مدينة الباب، أن الغلاء فاحش بطريقة لا تطاق! ويعزو ذلك للسبب نفسه الذي قاله عبد الوهاب سابقًا: “تدهور سعر صرف الدولار مقابل الليرة”، الذي وصل إلى 1300 ليرة تقريبًا للدولار الواحد!
أبو عمر في أحد أسواق مدينة إدلب في أول أيام شهر رمضان
ورغم أن مدينة إدلب تشكل مع ريفي حلب الشرقي والشمالي مساحة “الشمال السوري المحرر”، فإنها تختلف عن ريفي حلب الشمالي والشرقي، بكونها – مع أجزاء من ريف حلب الغربي – تخضع لسيطرة حكومة الإنقاذ، التي تتعامل بطريقة مختلفة تمامًا – عن تلك التي تتعامل بها الحكومة المؤقتة- مع جائحة كورونا، حيث رفضت حكومة الأولى إغلاق المساجد أمام المصلين في المنطقة، قاصرةً إجراءاتها على تحديد عدد ركعات صلاة التراويح بـ8 ركعات تقرأ في كل منها آية واحدة فقط! رغم عدد من الحملات على مواقع التواصل الاجتماعي التي طالبت بالتراجع عن قرار السماح بإقامة صلاة التراويح في رمضان، دون أن يغير ذلك أي شيء.
صلاة التراويح في أحد مساجد إدلب أول أيام رمضان
لم يستطع أبو أحمد من أبناء جبل الزاوية المهجرين إلى مدينة إدلب بعد الحملة الروسية الأخيرة أنْ يجد مكانًا داخل مسجد سعد بن أبي وقاص في أثناء صلاة التراويح، فاضطر للصلاة قريبًا من بابه رفقة أحد أبنائه الثلاث.
ورغم أن أبو أحمد ذو الـ45 عامًا يأخذ وباء كورونا وانتشاره على محمل الجد، فإنه يؤيد قرار الإبقاء على المساجد مفتوحة وإقامة الصلوات فيها، خاصة مع عدم تسجيل أي حالة إصابة بالفيروس في إدلب أو الشمال المحرر ككل، حيث أخبرنا أنه سيستمر بالحضور لصلوات التراويح في الأيام القادمة، لكنه سيحرص على ارتداء “كمامة” زيادةً في الأمان على حد تعبيره، فرمضان دون صلاة تراويح لا طعم له!
أبو أحمد يصلي التراويح في إدلب أول أيام شهر رمضان
ينظر ياسر من أبناء ريف حمص الشمالي إلى صور اكتظاظ المساجد في إدلب بالمصلين بحسرة، متذكرًا رمضانه الأول في تلك المدينة بعد أن قدم إليها مهجرًا قبيل شهر رمضان عام 2018، لتعوضه إدلب عن مرارة التهجير بما وجده من اهتمام بالوافدين إليها آنذاك، حتى على مستوى المساعدات التي كانت تأتي كافية له ولأسرته، وذلك قبل أنْ يضطر أواسط العام المنصرم لمغادرة المنطقة بعد الحملة الروسية على منطقة إدلب، نازحًا إلى ريف حلب الشمالي، الذي استقر فيه بمخيم قرب مدينة راجو التابعة لمنطقة عفرين.
حيث لا مساعدات كافية توزع، ولا عمل يمكن مزاولته، ولا حتى مساجد مفتوحة يجد فيها بعض السلوى، فمنطقة عفرين تتبع للحكومة المؤقتة التي علقت إقامة الشعائر الدينية في مساجد المنطقة التي تديرها من جرابلس إلى عفرين.
ياسر من أبناء ريف حمص المهجر إلى منطقة عفرين شمالي حلب
ولأن حالة غلاء الأسعار لا تفرق بين نازح في خيمة وصاحب عمل مزدهر، ومع عدم كفاية الجهود المبذولة لإعانة قاطني الخيام، لم يجد ياسر حلًا لتأمين قوت عائلته إلا أنْ يبيع سلة إغاثية حصل عليها بشق الأنفس، وذلك لتأمين الخبز وبعض المواد الغذائية الأساسية لأسرته خلال شهر رمضان الحاليّ.
لم ينس ياسر واجب الضيافة عندما زاره فريقنا قبيل أذان المغرب، فأصر أن لا يغادروا حتى يشاركوه طعام الإفطار المتواضع وكأس شاي أعده على “طباخ غاز” صغير.
في ضيافة ياسر داخل خيمته بمنطقة عفرين أول أيام شهر رمضان
فلا ضيق الحال ولا جائحة كورونا ولا أي شيء في العالم يمكنه على ما يبدو أن يسلب السوريين روح الشهر الكريم.