أثارت السياسة الأوروبية تجاه انتقاء الأطفال القُصر من مخيم اللجوء في اليونان غضب الرأي العام داخل المخيم وخارجه، ما وصفه محللون بأنه سلوك غير حضاري واختطاف بنكهة القانون واستغلال إنساني غير مقبول لحاجة العوائل المنكوبة التي يدفعها الاضطرار والواقع المأساوي للتخلي عن أبنائها على أمل قبولهم في إحدى الدول التي تعلن استعدادها لاستقبال الأطفال القصر غير المصحوبين بذويهم.
في حين يرى آخرون بأنه “ظلم كبير أن يتم التعامل مع هذه القرارات الإنسانية على أنها وسيلةٌ لاختطاف الأطفال وتجنيدهم في سياقات مختلفة بطريقة أو بأخرى، لا سيما أن القرار الصادر يختص بالأطفال غير المصحوبين بذويهم، ما يعني أن هذا القرار لم يختطف أحدًا من أحضان والديه أو أسرته بل تعامل مع مشكلة موجودة بأفضل الحلول الممكنة”.
بشأن هذا أوضح محمد المحيسني أحد سكان مخيم كيوس اليوناني لـ”نون بوست” أن “الوضع المأساوي والمهين الذي يعانيه اللاجئ الباحث عن الحياة في المخيمات اليونانية وعلى الحدود التركية، يدفع بدوره بعض العوائل التي تسللت مؤخرًا إلى المخيم وأماكن التجمع اللإنساني أن تتخلى بالإجبار الذاتي عن أبنائها في أثناء تسجيل الأوراق لدى الجهات المسؤولة والمعنية، على أمل أن يكون لولدها حظ أوفر مقارنة مع حظه في ظل العائلة مجهولة المصير، وبواسطة هذه الطريقة تحاول العوائل المنكوبة التماهي والتحايل على القانون الذي يشترط أولوية اللجوء للأطفال غير المصحوبين بذويهم”، وبذلك ترمي العوائل أولادها وفلذات أكبادها في اليم الأوروبي والقانوني والحدودي على أمل أن يعيدهم القدر لها ولو بعد حين!
تفاصيل القرار
في بروكسل مارس/آذار الماضي وافق وزراء داخلية العديد من دول الاتحاد الأوروبي على الإتيان بـ1600 طفل من غير المصحوبين بذويهم عن طريق مخيمات اليونان، لتعلن ألمانيا استقبالها نحو 350 طفلًا وفرنسا 300 آخرين والبرتغال 150 وبلغاريا 50 وإيرلندا 28 ولوكسمبورغ 12 طفلًا أيضًا.
في السياق أكد مسؤول الشؤون الداخلية في مجلس الشيوخ ببرلين أندرياس جايزل أن برلين تستعد لاستقبال ما يقارب 180 طفلًا حاليًّا من مخيم اللجوء في اليونان، وفي ذات الوقت أعربت الأحزاب المتحالفة مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أنها على استعداد لاستقبال مئات الأطفال من مخيمات اليونان بالتعاون مع دول أوروبية أخرى، مشيرة إلى أن الأولوية ستعطى للأطفال المرضى والأقل من 14 عامًا وغير المصحوبين بذويهم ولا يرافقهم أحد.
وأكثر العوائق التي صادفت الدول خلال تطبيق القرار هي مسألة الأوراق والثبوتيات والهويات، انطلاقًا من أن هذه الشريحة الاجتماعية من الأطفال لا يتم التعامل معها قانونيًا على أنهم أيتام، لذا دعا وزير خارجية لوكسمبورغ جان أسيلبورن إلى ضرورة توضيح العلاقات الأسرية لكل حالة وبشكل مسبق، قائلًا: “إننا ننقل أشخاصًا وليس أكياسًا من الأسمنت”.
ميزان التعاطي مع القرار
في إفادته لـ”نون بوست” يعتبر الدكتور مهدي داود رئيس منبر الجمعيات السورية في تركيا أن القرارات التي لا تأخذ بالحسبان ثقافة الآخرين والمتغيرات المحيطة لا تعدو كونها قرارات سياسية مصلحية ترتدي لبوس القانون والإنسانية لتحقيق غايات تتقاطع مع مصالحها لا غير، وقال: “بعض الدول الغربية تحاول انتهاز كل الفرص للسيطرة على الطفل المنكوب والمشرد وتربيته على منهج الدولة وليس الأسرة، فهذه الدول تتعامل مع الأسرة الشرقية اللاجئة والمنكوبة كنظام اجتماعي منافس لثقافتها ولمنظومتها السياسية والاجتماعية، لذا نلاحظ أن القوانين الخاصة بالطفل في تلك البلاد توضع بشكل مدروس وبطريقة تقوض الدول من خلالها صلاحية الأسر في التربية أو السيطرة على الأبناء! لذلك على الأهل هنا أن يكونوا أكثر صبرًا ووعيًا في التعامل مع الظروف السياسية والاجتماعية المحيطة وأن لا يتنازلوا عن أطفالهم مهما غلا الثمن وضاقت بهم الرحاب”.
لا يمكن التعاطي مع أي قانون خارج سياق ثالوث الحاجة والقانون والثقافة الاجتماعية ويكون ذلك بشكل مترابط ومتكامل ومتناغم وغير خاضع لأي موازنات سياسية متناقضة مع الجوهر الأساسي للقانون
ويضيف: “على الحركات المدنية تحمّل المسؤولية وملاحقة الأمر قضائيًا لتقويمه بالطريقة المناسبة التي لا تتعارض بالضرورة مع إنقاذ الأطفال، لأن مثل هذه القرارات التي لا تقيم أدنى وزنٍ لقيم الثقافات الأخرى وللأسس التي تقوم عليها الأسرة، لا تقل خطورة عن جرائم الاختطاف والقتل والتجارة بالأعضاء لكن عن طريق القانون وحقوق الطفل! وعليه فإن مطالبة بعض الدول بأخذ الأطفال دون ذويهم بذريعة أنهم الفئة الأكثر تضررًا سلوك يدعونا للوقوف عنده بجدية ومسؤولية أكثر”.
في السياق نفسه يرى المحامي علي رجب الباحث في الشأن القانوني والسياسي، خلال حديث مع “نون بوست” أنه لا يمكن التعاطي مع أي قانون خارج سياق ثالوث الحاجة والقانون والثقافة الاجتماعية ويكون ذلك بشكل مترابط ومتكامل ومتناغم وغير خاضع لأي موازنات سياسية متناقضة مع الجوهر الأساسي للقانون، موضحًا الأمر بقوله: “ما زال القرار غير واضح المعالم ومبهم إلى حد ما، فإذا كان المقصود من العبارة القانونية (الأطفال غير المصحوبين بذويهم) هو الاستعداد لأخذ أي طفل داخل المخيم بشرط أن لا يصطحب أسرته معه، فنحن أمام جرائم إنسانية تعبث بالطفل والقاصر بشكل غير مقبول ولا يمكن تبرير هذا السلوك على الإطلاق! أما إذا كان المقصود بالعبارة القانونية الأطفال المشردين الذين لا أهل ولا عوائل لهم أصلًا، فإن التسرع في تجريم القرار غير منصف وفيه تجنٍ على المقاصد الإنسانية للدول المعنية إلى حد كبير”.
ويستدرك: “إلا أن الخطورة بالقرار حتى إذا كان المقصود به الاحتمال الثاني جدلًا، لا تكمن بالقرار ذاته بل بالظروف الاجتماعية التي تحيط بالقرار، أي أن الحاجة الملحة والواقع المأساوي للأسر المشردة واللاجئة في اليونان، ربما يدفعها واقعها بطريقة غير متزنة إلى التخلي عن أولادها من خلال الاحتيال على القانون في أثناء التسجيل، انطلاقًا من دفع الأبناء لحياة أفضل من الحياة اللإنسانية التي يعيشونها في المخيم، وبذلك يتحول هذا القرار الإنساني من جانب دول الاتحاد وفي ظل الظروف المحيطة إلى تفاوض غير مباشر مع الأسر بغرض دفعهم للتخلي عن أولادهم ولو لم يكن يقصدون ذلك على الإطلاق”.
معالجة معضلة اللجوء العارم في اليونان وعلى الحدود التركية لا يمكن أن تتم بشكل مجزأ وغير متكامل، كما يرى علي رجب إذ “لا بد من ضوابط تحد إمكانية هذا الاحتمال”، وعلى الدول المعنية أن تحل المشكلة الاجتماعية بكل جوانبها وبشكل غير انتقائي، فثمة هناك فرقًا كبيرًا بين الانتقائية والأولوية وعلى القانون أن يحذر من الوقوع بفخ الانتقائية غير المقصودة من خلال أبواب الأولوية الإنسانية.