مثلت منطقة غرب إفريقيا في كثير من المحطات التاريخية ميدانًا للتلاقح الفكري والثقافي بين مختلف الحضارات والأيديولوجيات، حتى باتت قبلة كثير من الباحثين عن الثراء الإنساني، المهتمين بدراسة حضارات الأمم والشعوب، وذلك قبل أن تتحول مع مرور الوقت إلى أرض جدباء طاردة لكل مقومات الإعمار.
وخلال الفترة من القرن الثامن وحتى السادس عشر الميلادي، تحولت تلك المنطقة إلى أرض خصبة لنشأة العديد من الدول والممالك، لا سيما بعد دخول الإسلام لها، عاش الأفارقة في كنفها سنوات طويلة، نجحوا خلالها في إثراء العالم بمختلف أنواع العلوم ومظاهر التقدم في شتى المجالات.
وعلى رأس تلك الممالك التي تدشنت فوق تلك الأرض، مملكة “سنغاي” التي تقع في المنطقة بين النيجر والسنغال، وبلغت أوج قوتها في القرن السابع الميلادي، حيث اتسعت رقعتها لتمتد من حوض السنغال في الغرب إلى منطقتي أغادس وسط النيجر وداندي على نهر النيجر بين شمالي بنين وغربي نيجيريا وحدود إمارات الهوسا في الشرق.
وقد تقلد حكم هذه المملكة من أسرة “زا الأيمن” 31 ملكًا، من بينهم 14 ماتوا على الوثنية، فيما مات 17 منهم على الإسلام، وكان أول من أسلم من ملوكها “زا كُسي” وذلك عام 400هـ /1009م، واستمرت قرابة قرن ونصف القرن تقريبًا قبل أن تسقط لضعف حكامها وتجرؤهم على العلماء والصالحين كما سيرد ذكره لاحقًا.
خضعت سنغاي لحكم مالي في عهد منسا علي (1255 – 1270م)، الذي عُرف بالتقوى والصلاح، وكان قد زار مصر في طريقه للحج عام 1259
النشأة التاريخية
بدأت سنغاي كمملكة صغيرة تابعة لسيطرة مملكة مالي، غير أنها استقلت عنها بعد ذلك على يد مؤسسها الأول الذي يدعى “سني علي” (1464-1493)، حيث وصلت في عهده إلى أوجها، فتحولت إلى إمبراطورية مترامية الأطراف، وفي عدة سنوات باتت تشكل ثالث أكبر تنظيم سياسي عرفته المنطقة إلى حدود القرن السادس عشر الميلادي.
العلاقة بين سنغاي ومملكة مالي مرت بنحو 5 مراحل، البداية كانت الخضوع التام لقبضة الماليين، ثم التمرد بين الحين والآخر، قبل الخروج على طاعة إمبراطور مالي، وبعدها العودة مرة أخرى إلى مرحلة الخضوع، وصولًا إلى الاستقلال التام عام 1335 على يد الملك علي كولن، بمساعدة أخيه سليمان نار، متخذًا لقبًا جديدًا هو “سُـنِّي”.
خضعت سنغاي لحكم مالي في عهد منسا علي (1255 – 1270م)، الذي عُرف بالتقوى والصلاح، وكان قد زار مصر في طريقه للحج عام 1259م زمن الظاهر بيبرس (1260 – 1277م)، ومن أبرز أعماله التي شهدتها فترة حكمه، بَسْط نفوذ مالي على مملكة سنغاي حديثة النشأة، لكنه لم يستطع أن يحكم قبضته على العاصمة “جاو” الأمر الذي اضطره للاحتفاظ برهائن منها لضمان خضوع السنغايين.
غير أن الأمور سرعان ما تغيرت بعد وفاته، حيث تعرضت المملكة لموجة من الاضطراب السياسي استمرت قرابة 20 عامًا، وانتهت باعتلاء زاكورة الحكم، الذي نجح خلال فترة حكمه (1285 – 1300م) في استعادة هيبة الدولة المفقودة طيلة العقدين الماضيين، وأخضع سنغاي التي خرجت عن الطاعة في فترة الاضطرابات، كما نجح في الاستيلاء على العاصمة التي امتنعت على أسلافه.
توسعت المملكة شيئًا فشيئًا حتى باتت مركزًا حضاريًا وفكريًا ليس لغرب إفريقيا وحده، بل للعديد من حضارات القارة
لم تدم سيطرة زاكورة على سنغاي طويلًا، حيث خرجت عن طوعه في سنوات حكمه الأخيرة بعدما دب الضعف أركان الدولة، لكنها ما لبثت أن خضعت مرة أخرى على يد منسا موسى (1312 – 1337م)، بعد عودته من رحلة الحج التي قام بها عام 1325م، حيث استولى على العاصمة واستعاد الرهائن وأحكم الرقابة على المملكة بأسرها.
ومع اقتراب ولاية موسى ضعفت مملكة مالي بصورة كبيرة، الأمر الذي ساعد الملك كولن وأخيه على الاستقلال بسنغاي، حيث وجدوا في حالة الضعف تلك الفرصة المواتية، وكان لهما ذلك، عام 1335م، لتشهد المملكة تحت حكمهما ومن بعدهما خلفائهما توسعات عدة على حساب ممتلكات مالي التي تراجعت شيئًا فشيئًا.
وتعد أسرة “سُنّي” الأسرة الأكبر التي حكمت سنغاي عبر 20 حاكمًا لمدة قرن ونصف القرن، ومن أبرز حكامها سنّي علي (1464-1498م) الذي يُعد الأشهر من ملوك سنغاي، وهو الملك التاسع عشر في ترتيب ملوك الأسرة، الذي وصلت البلاد في حكمه إلى أوج تطورها وتقدمها على المستويات كافة.
هذا بجانب محمد بن أبي بكر أسكيا الكبير، الذي استمر لسنوات طويلة من حكمه في توطيد سلطته، فوضع نظام جديد للمملكة، واهتم بالنظام الإداري وأعاد هيكلته مرة أخرى، كما أنشأ مقاطعات ومدنًا جديدة، بجانب اهتمامه بالجانب الدفاعي، فأنشأ جيشًا قويًا، واهتم بالقضاء ونصّب قضاة في المدن الكبرى والمراكز، واهتم برعاية العلم والعلماء، بالإضافة إلى الجانب الاقتصادي الذي ولاه أهمية كبيرة، فاهتم بالتجارة ونظّم الأسواق وخفض الضرائب.
كما كان له دور كبير في إرساء مفهوم النظام الإداري الموحد، حيث أرسى في العاصمة نظامًا جديدًا يعتمد على جمع وزارة المالية والعدل والداخلية والزراعة والغابات في منظومة إدارية واحدة، بجانب وزارات أخرى ترعى الجانب الحقوقي للمقيمين في البلاد، فكانت وزارة لشؤون البيض والأجانب من مواطني شمال إفريقيا والطوارق الذين يقطنون أطراف الصحراء.
يشير كعت في كتابه إلى أن صدامًا وقع بين علماء مدينة تمبكتو وسني الذي كان مخلصًا للديانة الوثنية لسنغاي
سوء معاملة أهل العلم
توسعت المملكة شيئًا فشيئًا حتى باتت مركزًا حضاريًا وفكريًا ليس لغرب إفريقيا وحده، بل للعديد من حضارات القارة المتنوعة، وكانت مدينة تمبكتو منارة العلم في المملكة، حيث كانت قبلة للدارسين من دول العالم كافة، حيث كانت تمتلك منظومة رائعة من الجامعات والمراكز المعنية بتعليم العلوم الدينية والدنيوية.
واستطاع سني ضم معظم ممتلكات مالي، حيث امتدت مملكته غربًا إلى أعالي النيجر والسنغال، ووصلت من الشمال الغربي إلى أدرار، إلا أنه لم ينجح في التوسع جنوبًا، حيث مملكة موش الوثنية، ورغم ذلك ظل متربعًا على عرش واحدة من أكبر إمبراطوريات القارة.
لكن الأمر تحت حكم أسرة سني لم يدم كثيرًا، حيث شهدت السنوات الأخيرة من حكمهم، انقسامًا كبيرًا لدى الشارع السنغاي، بين المدافعين عن أحكام الدين الإسلامي من جانب وأنصار الوثنية من جانب آخر، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى التعجيل بانهيار مملكتهم.
المؤرخ السنغاي محمود كعت في كتابه “المختار من تاريخ الفتاش” كشف أحد أبرز الأسباب التي أدت إلى سقوط حكم “سني” والمتعلق بسوء معاملته للعلماء وأهل العلم والصالحين، حيث أدى ذلك إلى زيادة حالة الاحتقان في نفوس السنغايين ضد الحاكم الذي كانوا يرونه يتعارض في كثير من حكمه مع شريعة الإسلام.
سني الذي سعى منذ توليه مقاليد الحكم إلى بناء الدولة عبر جيش قوي مدرب ومجهز بالعتاد والعدة، إضافة إلى تجييش أسطول بحري قادر على تحقيق عشرات الانتصارات في المعارك التي خاضها، غير أنه كان قاسيًا على العلماء ولم يستمع لهم، بل العكس من ذلك صاعد في استعدائهم يومًا بعد يوم.
جاء الغزو السعدي الذي أنهى حكم هذه الأسرة وقضى على الإمبراطورية السنغاية الأبرز في إفريقيا للأبد
ويشير كعت في كتابه إلى أن صدامًا وقع بين علماء مدينة تمبكتو وسني الذي كان مخلصًا للديانة الوثنية لسنغاي، حيث سعى لإحداث حالة من التوازن بين الإسلام والوثنية، وهو ما لم يرق للعلماء والمصلحين في المملكة، فقد كان وفق تصورهم مسلمًا لكنه لم يحسن إسلامه.
غير أنه لم يهجر التقاليد الوثنية وتمسك بها بصورة استفزت العلماء، وحين واجهوه بحرمتها وضرورة العودة إلى الإسلام كونه حاكمًا مسلمًا، كان الرد الاعتداء عليهم والتنكيل بهم، ما بين القتل والاعتقال، فضلًا عن إذلال الكثير منهم وتقييد تحركاتهم وفرض قيود مجتمعية عليهم وأسرهم، وفق ما تطرق إليه المؤرخ السنغاي.
وكانت نتيجة لهذا الاحتقان الذي عم أرجاء المملكة أن ثار عليه مسلمو المملكة، الأمر الذي عجل بسقوطه، ليؤول الحكم بعدها إلى أسرة الأساكي التي حكمت البلاد قرابة قرن كامل من 1492- 1591، وقد بلغت سنغاي في عهد الملك أسكيا محمد أوج ازدهارها، سواء من حيث التنظيم الإداري أم الاقتصادي والعسكري.
هذا بجانب توسعة رقعة المملكة بصورة كبيرة، لتضم أراضي جديدة في الشمال وعلى سواحل المحيط الأطلسي، وظلت سنغاي في تقدمها التوسعي، الجغرافي والثقافي والاقتصادي، حتى جاء الغزو السعدي الذي أنهى حكم هذه الأسرة وقضى على الإمبراطورية السنغاية الأبرز في إفريقيا للأبد.