اختبرت تركيا في نوفمبر/تشرين الثاني 2019 رادارات البطارية الأولى لمنظومة إس 400 التي اشترتها من روسيا، واستلمتها في يوليو/تموز 2019، حيث حلقت طائرات إف 16 التابعة لسلاح الجو التركي على ارتفاعات مختلفة قرب مواقع تشغيل منظومة الدفاع إس 400 وذلك في المجال الجوي لمنطقة أنقرة وتحديدًا في قاعدة أكنجي العسكرية، وقد كان لافتًا حينها أن أنقرة لم تختبر الرادارات سرًا، ولعل ذلك كان رسالة لواشنطن لإبداء الجدية بشأن المضي في تفعيل المنظومة.
وعلى إثر هذه الخطوة أعلنت الولايات المتحدة عبر وزير خارجيتها مايك بومبيو انزعاجها من هذه الخطوة حيث قال: “بدء تجربة منظومة إس 400 في تركيا يثير قلق واشنطن”، وفيما ذكرت أنقرة أنها ستستخدم أيضًا طائرات أخرى لاختبار الرادرات فإن استخدام طائرات إف 16 الأمريكية يزيد التوتر القائم.
لكن الأهم من طائرة إف 16 التي دخلت الخدمة عام 1978 هو طائرة إف 35 التي تعمل عليها الولايات المتحدة ضمن مشروع ضخم مع دول أخرى، وتخشى واشنطن من تهديد منظومة إس 400 لطائرة إف 35 التي يعتبر أحد أهم مزاياها التخفي عن الرادارات.
قبل شهرين تقريبًا وتحديدًا في نهاية فبراير/شباط 2020 أعلن وزير الدفاع التركي خلوصي أكار أن تركيا ستفعل منظومة إس 400 الروسية، وهذا القرار لا شك فيه، وذلك رغم اشتعال التوتر التركي الروسي بشأن إدلب، وقد كان هناك تصريحات تركية سابقة في 2019 تشير إلى أن عملية التفعيل ستكون في أبريل/نيسان 2020 وقد كان متوقعًا أن تشعل عملية التفعيل الخلاف بين واشنطن وأنقرة خاصة في ظل حملة الانتخابات الأمريكية، مما سيجعل ترامب أمام خيارات أضيق للتأكد من إعادة انتخابه في الانتخابات المحتملة في نوفمبر/تشرين الثاني 2020.
حتى نكون دقيقين لم تتم تسوية الأمور تمامًا بين تركيا وروسيا في شمال سوريا وإدلب
ومن المعروف أن أنقرة تعرضت لعقوبات أمريكية بسبب مضيها في صفقة إس 400، وكان أبرزها إخراج تركيا من برنامج طائرة إف 35، كما تأثرت الليرة التركية بالتقارير التي تحدثت عن فرض مزيد من العقوبات والمزيد من التوتر في العلاقات التركية الأمريكية.
وحاولت واشنطن خلال أزمة إدلب في فبراير/شباط بين تركيا وروسيا وبعد مقتل عدد من الجنود الأتراك في غارة يعتقد أنها روسية أن تحث أنقرة على التراجع عن صفقة إس 400، ومع ذلك لم تلب واشنطن مطالب تركيا عندما طلب أردوغان وضع منظومة باتريوت على الحدود مع سوريا في ظل خلاف إدلب، وكان موقف حلف الناتو باهتًا، وبعد ذلك استطاعت تركيا الاتفاق مع روسيا بشأن إدلب وقد جرى الأسبوع المنصرم تسيير الدورية الخامسة على طريق إم 4 الدولي.
لكن حتى نكون دقيقين لم تتم تسوية الأمور تمامًا بين تركيا وروسيا في شمال سوريا وإدلب، وهناك تقارير تشير لمفاوضات بين موسكو والميليشيات الكردية لدمج الأخيرة في المنظومة الأمنية لنظام الأسد، كما أن مستقبل بعض الجماعات الجهادية في إدلب ما زال عنصر توتر بين أنقرة وموسكو.
حاولت أنقرة التخفيف من تبعات قضية إس 400 على علاقاتها مع واشنطن من خلال طلب تشكيل لجنة فنية مشتركة مع الأمريكان للتأكد من ادعاءات تركيا بأن منظومة إس 400 لا تتعارض ولا تهدد مشروع طائرات إف 35، ولكن لم يتم التوصل لأي شيء في هذا الأمر. من جهتها أعلنت واشنطن عن عرض يشمل إلغاء صفقة إس 400 مقابل الاتفاق على صفقة باتريوت مع تركيا لكن تركيا لم تظهر أي تراجع عن صفقة إس 400.
مع انتشار فيروس كورونا في شهر مارس/آذار 2020 في معظم دول العالم أشارت معظم التقديرات أن العواقب الاقتصادية على الدول ستكون كبيرة، ومع توقف السياحة وخطوط الطيران وتراجع حركة الطلب العالمي فإن تركيا كغيرها من دول العالم تتعرض للتراجع اقتصاديًا من حيث نسبة النمو ومع حاجة الدول لدعم المشاريع والشركات الوطنية فإن تعرض اقتصاد البلد لعقوبات سوف يزيد من تعقيد المشهد ويقيد حركة القيادة بشكل أكبر، خاصة مع تعرض ميزانية الحكومة لعجز بقيمة 6 مليارات دولار في مارس/آذار 2020.
ليس من المرجح أن تتراجع أنقرة عن صفقة إس 400 لكن التأجيل يجنبها عقوبات واشنطن في فترة صعبة، سواء في ظل التراجع الاقتصادي أم بسبب الانتخابات الأمريكية
وفي هذا السياق أعلن مسؤولون أتراك أن أنقرة ستؤجل عملية تفعيل منظومة إس 400 هذا الشهر، وأشاروا إلى أن السبب في التأجيل هو الأزمة التي تواجهها البلاد بسبب انتشار فيروس “كورونا”، وكما ذكرنا فإن تركيا لا تريد أن تكون عرضة للعقوبات ومادة للتحريض في الحملات الانتخابية الأمريكية.
في السابق كان هناك عدة مسارات لتتجنب أنقرة عقوبات واشنطن بسبب إس 400 ومنها نقلها لبلد آخر أو التراجع عنها، لكن مع استلام أنقرة لبطاريتي إس 400 لم يبق من هذه الخيارات إلا خيار التأجيل.
ليس من المرجح أن تتراجع أنقرة عن صفقة إس 400، لكن التأجيل يجنبها عقوبات واشنطن في فترة صعبة، سواء في ظل التراجع الاقتصادي أم بسبب الانتخابات الأمريكية، ولهذا فإن الحديث عن فرص جديدة للمفاوضات بسبب عملية التأجيل هذه تبدو ضعيفة حتى الآن، ولكن من المهم الإشارة إلى أن التغيرات في الواقع الدولي بعد أزمة كورونا ستفرض نفسها على معادلة تفعيل منظومة إس 400 والمضي فيها بمعنى أنه حتى نهاية 2020 ستكون مرحلة تهيأة لبلورة القرار التركي بشكل واضح ومع ذلك فإن التراجع عن الصفقة يبدو صعبًا حتى الآن.
تعيش كل من الولايات المتحدة وروسيا أيضًا أوقاتًا غير مواتية بسبب كورونا وتراجع أسعار النفط، ما قد يسهل على تركيا تحديد سياستها في هذه الملفات، ولكن التركيز الحاليّ في تركيا على تخطي أزمة كورونا يشير إلى أن الحكمة تكمن في تأجيل ملف إس 400 إلى ما بعد انتهاء أزمة كورونا مع أخذ المعطيات الدولية الجديدة بعدها بعين الاعتبار.