ترجمة وتحرير نون بوست
على جانب أحد الطرق في بلدة برطلّة شمال العراق، تنتصب صورة كبيرة للمرشد الأعلى للثورة الإيرانية آية الله علي خامنئي. رمز شيعي بارز، في بلدة سكنها تاريخيا الكلدان المسيحيون الكاثوليك والأرثوذكس. في السنوات الأخيرة، تزايد عدد سكان طائفة الشبك الشيعية بشكل ملحوظ في البلدة.
في قرقوش المجاورة، ترفرف أعلام الإمام الحسين – أحد أهم الشخصيات لدى الشيعة – فوق المنازل المحيطة بقاعدة وحدات حماية سهل نينوى، وهي ميليشيا مسيحية مسلّحة. أدت التغييرات الديموغرافية في البلدة، والتي يعتقد البعض أنها تمت بالقوة، إلى تنامي الشعور بالإحباط لدى العديد من مسيحيي المنطقة وغيرهم.
يقول رئيس تجمع حركة السريان، جون هداية، لـ”ميدل إيست آي” : المشكلة هي أن السنة يحظون بدعم دول الخليج، والشيعة تدعمهم يران، أما المسيحيون، فليس وراءهم أحد”.
تكثّف حضور الشبك في برطلّة وقرقوش وغيرها من المدن المسيحية بشكل ملحوظ في أعقاب الحرب ضد تنظيم الدولة، عندما عاد السكان المطرودون إلى بلداتهم أو انتقلوا من القرى المدمرة إلى المدن الكبرى.
في الواقع، يختلف سكان سهل نينوى حول ما إذا كان التغيير الديموغرافي الذي حدث في المنطقة كان بموجب عوامل قسرية أم لا. وهذا ما أثار المشاكل بين الناس الذين عانوا من أهوال تنظيم الدولة. كما سلّطت هذه القضية الضوء على الخلافات بشأن نفوذ إيران وحلفائها من الميليشيات الشيعية في العراق.
في هذا الإطار، تحدث أحد ناشطي الشبك لـ ميدل إيست آي، بشرط عدم الكشف عن اسمه خوفا من الميليشيات الموالية لإيران في المنطقة، مؤكدا أن الشبك غادروا القرى إلى المدن بسبب الظروف المعيشية السيئة. وأضاف قائلا: “لا يوجد مياه في القرى ولا مدارس، أين يمكننا أن نعيش؟ كنا بحاجة إلى أن نعيش في المدن المركزية.”
عرفت نينوى عبر تاريخها تنوعا دينيا وعرقيا كبيرا. تضم المنطقة الواقعة شمال الموصل الأكراد والتركمان والعرب والإيزيديين
“نتيجة، وليس خطة”
تقع كل من برطلّة وقرقوش في سهل نينوى. وتُعتبر نينوى منطقة استراتيجية للقوى المتنازعة في الشرق الأوسط. بالنسبة لإيران، تمثل حلقة وصل بين المناطق ذات الأغلبية الشيعية في العراق، وحلفائها في سوريا ولبنان – بالإضافة إلى البحر الأبيض المتوسط.
كما أن الأراضي الزراعية في نينوى محل نزاع بين حكومة إقليم كردستان والحكومة العراقية. بين سنتي 2014 و 2017، سيطر تنظيم الدولة على معظم سهل نينوى.
عرفت نينوى عبر تاريخها تنوعا دينيا وعرقيا كبيرا. تضم المنطقة الواقعة شمال الموصل الأكراد والتركمان والعرب والإيزيديين، عدا عن المسيحيين والشبك. في عهد الرئيس العراقي صدام حسين، طردت السلطات العراقية سكان نينوى من منازلهم بالقوة ونقلت العرب من أماكن مختلفة في العراق إلى هناك، في إطار حملة لتعريب المنطقة.
عناصر من وحدات حماية سهل نينوي تقوم بالحراسة.
كان شيعة الشبك من بين أولئك الذين أُجبروا على ترك منازلهم. ووفقًا لموقع نقاش العراقي، فإن الحكومة العراقية في عهد صدام اعتبرتهم أكرادا، لذلك دمرت منازلهم وطردتهم من المنطقة.
خلال الثمانينات، أثناء الحرب العراقية الإيرانية وبعدها، قام صدام باضطهاد الأكراد. وبعد الغزو الأمريكي الذي أطاح بحكمه سنة 2003، هاجمت الجماعات الإسلامية المتشددة أيضًا طائفة الشبك في الموصل.
لعب الحشد الشعبي، وهو مجموعة من الميليشيات تتكون في معظمها من مقاتلين شيعة، وقد تشكل في 2014 لمحاربة تنظيم الدولة، دورًا حاسمًا في هزيمة التنظيم في مختلف أنحاء العراق، بما في ذلك في مناطق سهل نينوي الواقعة بعيدا عن المناطق العراقية ذات الأغلبية الشيعية. تتلقى العديد من قوات الحشد الشعبي الدعم المالي والعسكري والسياسي من إيران.
حضور قوات الحشد الشعبي واضح للعيان في نينوى. في نقطة المراقبة الرئيسية المؤدية إلى المنطقة قدوما من إقليم كردستان، ترتفع أعلام قوات الحشد الشعبي والإمام الحسين، تماما مثل هو الحال في الطريق إلى برطلّة. وتُرى على الجدران عبارات شيعية في العديد من نقاط التفتيش التابعة لقوات الحشد الشعبي على امتداد المنطقة. وتحيي قوات الحشد الشعبي ذكرى مقاتليها الذين قضوا خلال الحرب ضد تنظيم الدولة بملصقات معلقة على جوانب الطرق كُتب عليها كلمة “شهيد”.
فرّ الآلاف من المسيحيين من سهول نينوى قبل وصول قوات تنظيم الدولة
في سهل نينوى، يعتبر اللواء 30 من أهم مجموعات الحشد الشعبي، ويتشكل في معظمه من طائفة الشبك. قبل الحرب ضد تنظيم الدولة، لم يكن للشبك مثل هذا النفوذ العسكري. يقول أحد الناشطين من أبناء هذه الطائفة إنهم شكّلوا ميليشيات مسلحة بعد التحرر من قبضة التنظيم.
فرّ الآلاف من المسيحيين من سهول نينوى قبل وصول قوات تنظيم الدولة، في حين وقع أسر الآخرين أو قتلهم. أدى ذلك إلى هجرة المسيحيين بشكل مكثّف من البلاد، وانتقال الشبك إلى المدن المدن المسيحية، وفق ما يؤكده الناشط ذاته. يوضح الناشط قائلا: “غادر الكثير من المسيحيين العراق، لذا انتقل الشبك إلى هذه المناطق وانتشرت بالتالي صور الإمام الحسين”
ويؤكد الناشط أن الأمر لم يكن مخططا له، بل مجرد رغبة في الانتقال للعيش في ظروف أفضل، ملقيًا باللوم على الحكومة فيما وصلت إليه الأمور. ويضيف: ” لقد كانت نتيجة، وليست خطة. كل ما أردناه هو الماء والخدمات ومدارس يرتادها أطفالنا. لو أعطتنا الحكومة الأرض، ما كنا أبدا لنترك مناطقنا”.
يعتبر تعدد أفراد عائلات الشبك وانتشار تعدد الزوجات بينهم، عاملا آخر أدى في تزايد أعدادهم في سهل نينوى على حساب المسيحيين.
في الواقع، بعد تحرير المنطقة من سيطرة تنظيم الدولة، لم يرجع السكان المسيحيون إلى مدنهم بأعداد كبيرة. يرجع ذلك إلى الدمار الذي لحق بالمنازل وإلى نقص الخدمات الأساسية، ما جعل تلك المناطق غير صالحة للسكن تقريبًا. بالإضافة إلى أن عددا كبير ممن غادروا المنطقة، وجدوا مواطن شغل في أماكن أخرى.
يتفق بعض القادة المسيحيين أيضا مع فكرة أن الهجرة كانت سببا في انخفاض أعداد السكان المسيحيين المحليين بشكل كبير. وفي هذا الصدد، يقول عصام دعبول، رئيس بلدية الحمدانية، التي تقع ضمنها بلدة قرقوش، لـ “ميدل إيست آي”: “غادر المسيحيون العراق وقبلوا بذلك لأنه لم يكن لديهم مصادر للعيش”.
يعتبر تعدد أفراد عائلات الشبك وانتشار تعدد الزوجات بينهم، عاملا آخر أدى في تزايد أعدادهم في سهل نينوى على حساب المسيحيين.
جهود حثيثة لتغيير التركيبة السكانية
يعتقد العديد من المسيحيين في المنطقة أن التغيير الديموغرافي القسري أصبح أمرا واقعا. في آذار/مارس، نشر موقع “عنكاوا كوم” مقالا حول هذه القضية بعنوان تحريضي: “غادر تنظيم الدولة وحل محله الشبك وخيّم الرعب على المنطقة.. لماذا يخشى المسيحيون العودة إلى ديارهم؟”.
في الحقيقة، اعترف المقال بمعاناة طائفة الشبك من تنظيم الدولة، لكنه اتهم أعضاء من الشبك بمنع المسيحيين من العودة إلى سهل نينوى. وجاء في المقال “المسيحيون يخشون العودة بسبب التهديد الذي يشكله الشبك”.
تتقاسم بعض المنظمات المدافعة عن حقوق المسيحيين في العراق المخاوف ذاتها بشأن التغيير الديموغرافي
يستخدم بعض السياسيين المسيحيين خطابا مماثلا لوصف الوضع في المنطقة. في هذا الشأن، يقول جون هداية إن إيران تدعم عناصر من الشبك لتغيير التركيبة السكانية في سهل نينوى. وأضاف في حديثه لـ “ميدل إيست آي”: “هناك جهود كبيرة لتغيير التركيبة السكانية من قبل السكان والحكومة. يفرض الشبك سيطرتهم كما أنه مقربون من إيران”.
عندما يريد العراقيون تغيير منازلهم، يجب عليهم الحصول على وثائق من السلطات المحلية ليتمكنوا من القيام بذلك بشكل قانوني. هذه هي إحدى الطرق التي يُزعم أن الأشخاص المنتسبين للكيانات الموالية لإيران يمكن أن يتلقوا من خلالها معاملة تفضيلية، وتتم بالتالي عملية التغيير الديموغرافي.
وفقا لهداية، فإن المسيحيين يفرّون بسبب مخاوف أمنية، وهذا الاختلال الواضح في موازين القوة سيساهم في تضاؤل أعدادهم إذا لم يتم إحداث أي تغيير. ويضيف:
“نحن في حرب ضد الوقت لأن الهجرة تحدث بطريقة غير طبيعية”.
في الواقع، تتقاسم بعض المنظمات المدافعة عن حقوق المسيحيين في العراق المخاوف ذاتها بشأن التغيير الديموغرافي. وقد نشر معهد السياسة الآشورية، ومقره الولايات المتحدة، في العام الماضي تقريرًا عن خشية المسيحيين من أن المناطق السكنية الجديدة ستقام على أراضيهم الزراعية في الحمدانية. وقال المعهد إن المناطق المقترحة تقع تحت سيطرة اللواء 30.
حاول رئيس الوزراء العراقي المنتهية ولايته، عادل عبد المهدي، إخراج اللواء 30 من سهل نينوى العام الماضي، لكن أنصار اللواء اعترضوا على هذه الخطوة.
ينكر كثير من الشبك والشيعة الآخرين في برطلّة أن أي فرد من طائفتهم يستولي على المنازل، بما في ذلك المنازل التي هجرها المسيحيون الفارون من تنظيم الدولة
يخشى بعض أفراد طائفة الشبك أيضا من وجود الحشد الشعبي في المنطقة. وقد تظاهر عشرات من شبك سهل نينوى أمام مكتب الأمم المتحدة في أربيل في يناير / كانون الثاني ضد تواجد قوات الحشد الشعبي في منطقتهم.
بعض المسيحيين، لا يصدقون الشائعات حول إستيلاء الشبك على ممتلكاتهم. في شارع صغير بعيدًا عن طريق بارتيلا الرئيسي، تجلس سلوى إلياس ضمن مجموعة من الأصدقاء وهم يتبادلون الحديث. تقول إلياس لـ”ميدل إيست آي”: “هذا لا يحدث على الإطلاق. المسيحيون والشبك يعيشون حياة طبيعية كجيران”.
ويقول جون الصباغ، من المجموعة ذاته، إن انتقال الشبك إلى منازل المسيحيين يحدث لأسباب اقتصادية بسبب الهجرة المسيحية من المنطقة: “مشكلتنا هي أننا بحاجة إلى المال وبيع منازلنا. في بعض الأحيان، لا يستطيع المسيحيون الآخرون شراءها. إن من يشتري المنازل هم مسلمون من الشبك. إذا كانوا مدعومين من قبل أي طرف، فهي إيران”.
“العديد من المنازل الخاوية”
ينكر كثير من الشبك والشيعة الآخرين في برطلّة أن أي فرد من طائفتهم يستولي على المنازل، بما في ذلك المنازل التي هجرها المسيحيون الفارون من تنظيم الدولة. وفي هذا الصدد يقول هادي إلياس لـ “ميدل إيست آي” من متجره في برطلّة: “لسنا مهتمين بأخذ منازل المسيحيين. هناك العديد من المنازل الفارغة التي لا نريد أن نأخذها”.
من جانبها، أنكرت مروة حسين، وهي ناشطة من شبك برطلّة، بشدة أن يكون أي فرد من الطائفة قد استولى على المنازل بطريقة غير مناسبة. وقالت لـ”ميدل إيست آي”: “سيطرة قوات الحشد الشعبي أو المليشيات الأخرى أو غيرها من المكونات على بيوت المسيحيين هي مجرد شائعات”. ويستخدم بعض العراقيين عبارة “مكوّنات”، في إشارة إلى القوميات العرقية والطوائف الدينية المختلفة في البلاد.
وأرجعت مروة حسين سبب انخفاض أعداد العائلات المسيحية إلى الهجرة قائلة: “على العكس، هناك عائلات مسيحية تبيع منازلها للذهاب إلى أوروبا”.
كما اعتبر إياد عباس، وهو تاجر من الشبك في برطلّة، أن العلاقات بين الطوائف في البلدة جيدة، وقال: “نحن إخوة”. أما قصي عباس، وهو عضو في البرلمان العراقي عن نينوى، فقد أكد أنه لا يعتقد أن طائفته لديها مشاكل مع المسيحيين، قائلا: “لا توجد مشاكل بين الشبك والمسيحيين وغيرهم”.
المصدر: ميدل إيست آي