تسود في هذا الوقت من كل عام العديد من أجواء الاحتفاء والاحتفال المميزة والمرحبة بقدوم شهر رمضان المبارك، لكن مع استحواذ أجواء الملل والرتابة التي فرضتها حياة العزل الاجتماعي بسبب انتشار فيروس كورونا المستجد، غابت غالبية تلك المظاهر التي تعتبر عادات أصيلة وطقوس جوهرية في البلدان العربية والإسلامية، ومع ذلك بقيت تفاصيل أخرى تعزز مشاعر الفرحة والبهجة بحلول الشهر الكريم، مثل الزينة والإضاءة والفوانيس والزخارف والرسوم التي تتنوع أشكالها وألوانها، ويتفنن صانعوها في استخدام الهلال والنجوم والرموز الإسلامية الأخرى على واجهاتها وتصاميمها.
ورغم إغلاق المصانع والمحال التجارية، لم يتخل البعض عن هذه العادات الجميلة والمبهجة، فراحوا يصنعونها بأنفسهم يدويًا في المنازل، كل بطريقته الخاصة وذائقته المختلفة، والمثير للاهتمام ليس فقط ارتباط الكبار أو الصغار بهذه الزينة ودورها في إشاعة الفرح، وإنما خلفيتها التاريخية التي تعود لقرون قديمة، فما قصتها؟
علامات البهجة والسرور.. تاريخ ظهور زينة رمضان
كانت البداية في عهد الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب الذي أمر الراغبين في أداء صلاة التراويح في شهر رمضان باستخدام الفوانيس، بأشكالها البدائية المتاحة حينذاك، للقضاء على الظلام وإنارة الطريق إلى المسجد، كما شجع على تعليق القناديل على أسوار المساجد في أثناء الصلاة.
وبحسب ورقة بحثية بعنوان “المسارج في بلاد آشور” من كلية الآثار جامعة الموصل، كان يُفضل قديمًا “استعمال القناديل عن السراج لكون النار تكون في داخله وتحافظ عليها من الانتشار عما يجاورها، حتى لا تسبب الحرائق، وكانت القناديل تستخدم بكثرة في المساجد”.
علمًا بأن القنديل عبارة عن قنينة زجاجية شفافة، قد تصنع من الفخار أو المعادن، وتكون على شاكلة الجرة أو الزهرية، وذات مقابض صغيرة تعلق منها في السقف وتزين بنقوش مختلفة، أما المسرجة عبارة عن صحن مملوء بالزيت والملح يطفو فوقه الفتيل، وتعود جذورهما إلى العصرين الأيوبي والفاطمي، وهما من الفنون الإسلامية الأصيلة.
اتبع الخليفة المأمون بن هارون الرشيد في العصر العباسي نهج الخطاب ذاته، وأمر بتزيين المساجد بالمصابيح في شهر رمضان خلال فترة حكمه، وتكرر الأمر ذاته في العهد العثماني
وبواسطة هذه الأدوات البسيطة، اختلفت أجواء شهر رمضان، إذ أضفت أنوار المصابيح رونقًا جميلًا وخاصًا لا يمكن التماسه إلا في هذا الشهر الفضيل، كما لا يمكن تخيل قدومه دون أن تملأ الأضواء لياليه وكل ما يخصه من شعائر وعادات وطقوس، فقد بدأت هذه الزينة تتسع في جميع أنحاء الربوع الإسلامية حول العالم.
كما اتبع الخليفة المأمون بن هارون الرشيد في العصر العباسي نهج الخطاب ذاته وأمر بتزيين المساجد بالمصابيح في شهر رمضان خلال فترة حكمه، وتكرر الأمر ذاته في العهد العثماني، فقد أقر السلطان أحمد في عام 1617 بتعليق المصابيح بمختلف أنواعها على قبب ومآذن الجوامع، حيث علقت لأول مرة بين مئذنتي جامع السلطان أحمد الشهير في إسطنبول على وجه الخصوص.
جذبت الزينة انتباه وإعجاب كل من زار الدولة العثمانية في شهر رمضان، حتى منهم من قال: “نجح الأتراك بإنزال النجوم من السماء واستعمالها للكتابة بين المآذن”
وباتت الدولة العثمانية تُعرف منذ ذاك الحين بزينة الـ”الماهية/Mahya”، وهي كلمة فارسية تعني الشهري، وباللغة العثمانية تعني نور الوجه، وهي عبارة عن زينة مكونة من المصابيح والأضواء الزيتية التي تمتد أسلاكها وتُعلق بين مئذنتي الجامع، ومكتوبة عليها أحاديث أو أدعية أو عبارات ورسائل دينية أو ترحيبية أو وعظية مثل “كُل واطعِم ولا تُسرِف”، وفي بعض الأحيان كانت تكتفي برسم بعض الرموز.
يُسمى كاتبها أو صانعها “المحاجي”، وهي واحدة من اللافتات التي جذبت انتباه وإعجاب كل من زار الدولة العثمانية في شهر رمضان، حتى منهم من قال: “نجح الأتراك بإنزال النجوم من السماء واستعمالها للكتابة بين المآذن”، يضاف إلى ذلك ما دونته الرحالة والمؤرخة الأدبية الإنجليزية، جوليا باردوي، خلال زيارتها لإسطنبول في ثلاثينيات القرن التاسع عشر عن أجواء المدينة وزينتها المتلألئة في رمضان، فقالت: “إن الأنوار في إسطنبول لا تشبه الأضواء في أي عاصمة أوروبية أخرى”.
فانوس رمضان.. رمز اجتماعي وديني راسخ
لم تتفق الروايات التاريخية على تاريخ أو حادثة معينة لظهور فانوس رمضان، ولكن بالعموم أظهرت القصص إجماعًا على انتشارها في فترة الدولة الفاطمية، وكانت حينها تستخدم بكثرة لإنارة المساجد والسماح للمسلمين بأداء شعائرهم دون عائق. وفي رواية أخرى، يُقال إن اختراع الفانوس صنع آنذاك لاستقبال المعز لدين الله الفاطمي على أبواب القاهرة وهو قادم من تونس عام 262 هجريًا ليلًا، إذ خرجت جموع متراصة من أهالي المدينة إلى الشوارع وهم يحملون المشاعل والفوانيس الملونة لإضاءة الطرق له.
وفي قصة أخرى، تشير بعض المصادر المتاحة إلى أن الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله منع النساء من الخروج من منازلهن إلا بوجود صبي حاملًا الفانوس، وتبعًا لذلك انتشرت صناعة الفوانيس التي علقت شيئًا فشيئًا على مداخل ومنافذ الأحياء وأبواب المنازل، وكان شكله في ذاك العصر على هيئة علبة صفيح مربعة ويتوسطها شمعة بالداخل.
نجح البعض في تجاوز أزمة كورونا من خلال صناعتها وإيصالها للمنازل مع اتباع تعليمات السلامة الصحية، بينما اختار آخرون التبرع بها للأطفال
ولاحقًا، صنعه المصريون من الصفيح والزجاج معًا، مع ترك فتحة صغيرة نسبيًا للشمعة كي تحافظ على شعلتها، وبعد فترة اتخذت تصاميمه أشكالًا مختلفة، ودخل في صناعته الخشب والخزف والمعدن وزينته النقوش والألوان والرسومات، وتدريجيًا غزت هذه الصناعات أسواق الدولة العربية والإسلامية، وصارت جزءًا أساسيًا من الطقوس الرمضانية.
وحتى خمسينيات القرن الماضي، كانت المناطق القديمة بمصر، خصوصًا منطقة السيدة زينب، أكثر الأماكن صناعةً وإنتاجًا للفوانيس، أي قبل تطور الإضاءة والبطاريات الكهربائية، وقبل أن تقتحم المنتجات الصينية هذا المجال أيضًا، وتزيد الخناق على الوضع الاقتصادي للحرفيين المحليين، إذ ضاربت السلع الصينية بأسعارها الزهيدة على منتجاتهم، رغم رداءة التصنيع، مهددةً بذلك وجودهم ونشاطهم التجاري.
وحاليًّا، في ظل انتشار فيروس (كوفيد-19) واتخاذ غالبية الدول إجراءات وقائية احترازية، شملت الإغلاق العام للأسواق التجارية، وحظر الاحتفالات وما يجمعها من تجمعات وزحام واختلاط، يواجه أصحاب هذه المهنة تحديًا جديدًا، وقد نجح البعض في تجاوز هذه العقبة من خلال صناعتها وإيصالها للمنازل مع اتباع تعليمات السلامة الصحية، بينما اختار آخرون التبرع بها للأطفال للحفاظ على هذا الطقس الرمضاني وخصوصيته مهما كانت الظروف.