بالرغم من الصعوبة التي يواجهها أي من الأبوين عند تربيته لأولاده وحيدًا دون وجود شريكه، إلا أن الصعوبات التي تواجهها الأم الوحيدة من دون وجود أب أكبر بطبيعة الحال، وذلك لأسباب اقتصادية واجتماعية ونفسية متعددة، وتقف هذه التحديات عائقًا في وجه الأم في سبيل تطويرها لذاتها أو تأمين مستقبل آمن ومشرق لأطفالها.
وفي حين تنجح بعض هذه الأمهات بتخطي جميع العوائق والوصول إلى بر الأمان مع أطفالهن مع وجود بعض أشكال الدعم المقدم لهن، تبقى أمهات أخريات وحيدات في وجه هذه التجربة المضنية.
ومن هنا كان من الضروري نشر الوعي حول ما تواجهه الأم الوحيدة أو “الأم العازبة” من عقبات في حياتها، وتأثير ذلك على دورها في المجتمع وعلى مستقبل أطفالها أيضًا.
ومصطلح “الأمهات العزباوات” -وهو أكثر تداولًا من نظيره “الأمهات الوحيدات”- كان يشير سابقًا إلى الأمهات اللاتي أنجبن أطفالهن خارج مؤسسة الزواج، لكنه توسع لاحقًا ليشمل كل أم تربي أطفالها وحيدةً مع غياب الأب، سواء كان غيابه بسبب الانفصال أم الوفاة أم الاعتقال أو غيرها بما في ذلك تبني طفل.
الأسباب الاجتماعية
تختلف الضغوطات الاجتماعية التي تتعرض لها الأم العربية العزباء من حيث طبيعتها ودرجة حدتها وفقًا لعوامل عدة، منها البيئة المحيطة والعادات والتقاليد ومجموعة القيم الموجودة في مجتمعها، لكن هنالك ضغوطات شائعة تعاني منها معظم النساء المطلقات والأرامل وزوجات المعتقلين والمخطوفين في المجتمع العربي عمومًا، وتزيد صعوبة مواجهتها بحال وجود الأطفال.
يقسم المجتمع الأمهات العزباوات بشكل غير مباشر وعلنيَ إلى قسمين: القسم الأول هن النساء الأرامل وزوجات المعتقلين اللواتي لم يخترن فقدان أزواجهن، وتحصل هذه الفئة على دعم وتعاطف اجتماعي أكبر من الفئة الثانية، وهي فئة المطلقات اللاتي اخترن القرار الصعب وهو الانفصال بملء إرادتهن.
وبينما يوجد هذا التمييز بدرجاته المختلفة في كل أنحاء العالم، إلا أنه يشكل خطرًا أكبر على النساء في الدول التي لا تقدم حكوماتها المعونات الاجتماعية للأسر محدودة الدخل، كما هو حال معظم الدول العربية، وسبب هذه الخطورة أنه بغياب الدعم الحكومي يبقى المعين الوحيد للمرأة هو مجتمعها المحيط.
وفقدان الدعم الاجتماعي في هذه الحالة يعني زيادة معاناة الأم، خصوصًا بحال صعوبة تأمين احتياجات أطفالها ومستلزماتهم في بعض المجتمعات المحافظة التي تحد من حرية تنقل المرأة بمفردها أو حصولها على عمل.
من زاوية أخرى، تخضع الكثير من الأمهات العزباوات في المجتمع العربي لضغوطات اجتماعية تتعلق بالتدخل بحياتهن الشخصية أو محاولة التأثير على قراراتهن، راما السعدي أم سورية لثلاثة أطفال وأرملة شهيد، في حديث لها مع “نون بوست” تحاول شرح هذا النوع “المزعج جدًا” من الضغط على حد قولها:
“يحاول المجتمع المحيط إقناع الأم إما بوجوب زواجها مجددًا وبأسرع وقت ممكن، مع التنازل عن معظم شروطها طبعًا، ظنًا منهم أنه السبيل الوحيد لمساعدتها على مواجهة تحديات المستقبل، أو بطرح الرأي المعاكس تمامًا، حيث يحاولون إقناعها بعدم التفكير بالارتباط مجددًا، وتخصيص ما تبقى من حياتها لتنشئة أطفالها”، ومع وجود هذين الطرحين المجتمعيين يبقى السؤال ما إذا كان أي منهما يقع في مصلحة الأطفال والأم فعلًا أم لا.
قبل اندلاع الحرب الجارية حاليًّا في سوريا كانت نفقة الأطفال 400 ليرة سورية تقريبًا عن كل طفل
الأسباب الاقتصادية
وفقًا لدراسة كندية حديثة عن الأطفال الأكثر عرضة للفقر، فإن نسبتهم في الأسر التي تقودها أم عزباء تعادل ضعف عدد الأسر الفقيرة برعاية أب أعزب، وأشارت الدراسة إلى أن نسبة الأمهات العزباوات تحت خط الفقر 34.5% مقارنةً بنسبة 13.7% للرجل الأعزب، أي أن ثلث عدد الأمهات العزباوات يقعن تحت هذا الخط.
وتُرجع الدراسة سبب هذا التدني بالأحوال المادية للأمهات العزباوات إلى عدة عوامل، فالأم العاملة مثلًا قد تعاني من موضوع الفجوة في الأجور بين الجنسين، وهو جدل عالمي يطرح مشكلة تقاضي الرجل مرتبات أعلى من تلك التي تتقاضاها الإناث لنفس المهنة أو المنصب في كثير من الأحيان.
هنالك أيضًا عوامل أخرى مثل التوقعات الاجتماعية لدور الأم في حياة الأطفال الذي يفوق حجم دور الأب في حياتهم، وذلك من حيث ضرورة وجودها الدائم بجانب الأولاد لتلبية جميع أنواع احتياجاتهم، مما يفرض عليها العمل بدوام جزئي أحيانًا أو ترك العمل نهائيًا في بعض المراحل، مما يؤثر على أقدميتها في الوظيفة التي تشغلها وخبرتها وفرصها بالترقي الوظيفي وبالتالي الحصول على دخل أعلى.
أما فيما يخص موضوع نفقة الطلاق في الدول العربية والإسلامية، تشتكي الكثير من الأمهات من عدم كفايتها حتى لمستلزمات الأطفال الأساسية، أو انقطاعها التام في بعض الأحيان، وذلك بسبب سوء الأحوال المادية للأب أو عدم كفاية دخله لإعالة عائلتين، أي طليقته وأولادها من جهة، وزوجته الجديدة وأطفالها من جهة أخرى، أو بسبب رغبة الأب في الانتقام من طليقته أحيانًا، عن طريق خنقها على المستوى المادي.
“إيمان. أ” أم عزباء تعيش في سوريا حاليًّا، تعمل بعض الأعمال المأجورة التي يمكنها إنجازها من منزلها لإعالة أطفالها، وذلك بعد انقطاع النفقة التي كانت تتلقاها سابقًا بشكل كامل.
“قبل اندلاع الحرب الجارية حاليًّا في سوريا كانت نفقة الأطفال 400 ليرة سورية تقريبًا عن كل طفل، ولم تكن تكفي متطلباتهم من غذاء وملبس ومستلزمات مدرسية وغيرها، أما بعد الحرب فانقطعت بشكل كامل، مما دفعني للبحث عن أعمال متفرقة يمكنني عملها من داخل المنزل، لأنه لا يمكنني ترك أطفالي وحدهم، ومع ذلك الدخل الذي أتقاضاه محدود جدًا”، تقول إيمان.
الجدير بالذكر أن النساء تدير غالبية الأسر ذات المعيل الواحد، لأنه غالبًا ما ينتهي المطاف بالأطفال بحضانة الأم، ومع أخذ الحقائق السابقة بعين الاعتبار فإن هؤلاء الأطفال هم الضحية الرئيسية لسوء الأحوال المادية للأم.
يشكل هؤلاء الأطفال عددًا ضخمًا ونسبةً كبيرةً من نسيج أي مجتمع لا سيما المجتمع العربي، حيث تشير الإحصاءات إلى أرقام ضخمة فيما يتعلق بحالات الانفصال في الدول العربية، ففي دولة الكويت وحدها في أثناء الجزء الأول من عام 2017، وصلت نسبة حالات الطلاق إلى 60%، أضف إلى ذلك عدد النساء الأرامل، أي أن عدد الأطفال الذين يعيشون في كنف أم عزباء في الدول العربية جدير بالحصول على دعم واهتمام حكومي ومجتمعي أكبر.
وتؤدي تنشئة الأطفال في ظروف فقيرة عامةً إلى الإضرار بالرفاه الذي يحتاج أن يحصل عليه الطفل، والحد من فرصهم بالحياة المستقبلية، كما يمكن للظروف الفقيرة أن تؤذي صحتهم النفسية والجسدية، وهذا ما يدفع الكثير من الدول لتخصيص حصص مالية شهرية لدعم الأطفال، وذلك لضمان مستقبل مشرق لهم والاستثمار بقدراتهم للاستفادة منها في المستقبل.
التحديات النفسية والعاطفية
أ. الإحساس بالذنب
تعيش معظم الأمهات العزباوات فترات متقطعة من الإحساس بالذنب والتقصير بحق الأطفال، والشك الدائم بصحة قرارهن عند الانفصال أو الاستقلال، كما يلمن أنفسهن على حالة عدم الاستقرار التي من الممكن أن يعيشها الأولاد أو عند مواجهتهم أي عقبة يصعب على الأم مساعدتهم لتجاوزها.
من المؤسف تحول هذه المصاعب التي تهدد الأم العزباء إلى أداة تهديد بيد بعض المجتمعات، إذ تستخدم لإقناع المرأة بالصبر على العنف المنزلي
الحل
محاولة تقبل الأمر الواقع بحالة وفاة الشريك، والثقة بالقرارات السابقة بحالة الانفصال، بالإضافة إلى الحرص على إبقاء محيط إيجابي من الأصدقاء والأقارب الداعمين والابتعاد عن الأصوات السلبية قدر الإمكان.
ب. الوحدة
من البديهي أن تربية الأطفال مهمة ليست سهلة، يتعاون عليها الأبوان على جميع المستويات، ويدعم أحدهما الآخر بحالة الضعف أو التردد، كما يتشاوران عند اتخاذ أي قرار يخص الأطفال، ولكن بحالة الأم أو حتى الأب الأعزب تبقى جميع هذه القرارات والمهام موكلة إلى شخص واحد، مما يدفع هذا الشخص إلى الحيرة والإرهاق النفسي والجسدي في معظم الأحيان، أما في حالة فقدان الشريك، فيضاف إلى كل ما سبق الفراغ العاطفي المفاجئ الذي يعانيه الطرف الآخر.
وبسبب شعور الأم بالذنب تجاه أطفالها – كما ذكر سابقًا – من جهة، والوحدة أو عدم وجود شخص آخر ليشاركها المسؤوليات من جهة أخرى، تعاني الأمهات ضغوط المهام اليومية بالإضافة للضغوط النفسية، مما يؤثر عليها عمومًا بشكل سلبي.
وفي حديث لـ”نون بوست” علقت إيناس عوض (أم عزباء لثلاثة أطفال) على هذه النقطة بالقول إن الأم في هذه الحالة تعاني الحرمان من الراحة، إلى جانب إحساسها بالتعب والتقصير تجاه الأولاد.
“أعاني من الرشح والصداع المزمن، لكنني لا أملك رفاهية الجلوس للاسترخاء والتعافي، ولن أجد من سيحضر الطعام لأطفالي ويجلب قوت يومنا، فهذه الرفاهية غير متوافرة للأم العزباء، كنت لسنوات طويلة أخرج يوميًا للعمل حتى أستطيع إعالة أطفالي الثلاث، وقبل العودة للمنزل أذهب للتسوق لشراء اللوازم الضرورية والكثير من الحلوى أو الألعاب حتى أعوض غيابي الطويل. وغالبا ما أنسى حتى تناول مسكن الألم، لا أعرف كيف ينبغي أن أحمل صفات المرأة المستقلة والقوية وفي أعماقي لم أشعر بالقوة أبدًا، هذه الصفة مجرد قناع نرتديه أمام أطفالنا لنشعرهم بالأمان، وأمام الغرباء كي لا يشعرون بالإشفاق علينا كأمهات عزباوات”.
الحل
من الحلول المقترحة على الأمهات العزباوات لمواجهة آثار الوحدة، إحاطة أنفسهن بأمهات أخريات، حيث يساعد ذلك بالتعلم من تجاربهن الإيجابية والسلبية، كما يساعد على الإحساس بشعور خوض تجربة مشتركة مع أشخاص آخرين.
ج. فقدان الإحساس بالذات
بسبب كثرة المهام الواقعة على عاتق الأم العزباء وخصوصًا بحال عملها خارج المنزل أيضًا، تفقد قدرتها على تلبية احتياجاتها الشخصية أو الاستمتاع بممارسة نشاطاتها المحببة أو القيام بأي عمل من أجل سعادتها الخاصة، فتضيع بتفاصيل العمل ومتطلبات المنزل والأطفال اليومية، واضعةً اهتماماتها ومتطلباتها الشخصية على ذيل قائمة الأولويات.
وذكرت إيناس عوض في حديثها معنا بعض النقاط التي قد ينظر لها البعض باستخفاف، إلا أنها أصبحت بالنسبة لها رفاهية زائدة لا يوجد متسع لها في حياتها الحاليّة:
“مع مرور السنوات كأم عزباء أجد نفسي أؤدي جميع المهام وحدي، نسيت تمامًا بعض الرفاهيات أو حتى الاهتمام بمظهري الخارجي كما السابق، لطالما أحببت الاعتناء بأناقتي الشخصية وخصوصًا فيما يخص أحذية الكعب العالي التي أحبها، لكنني استبدلتها بحذاء الرياضة ليجاري إيقاع حياتي السريع الذي يبدأ بمراجعة قائمة المواعيد والمهمات الملصقة على الروزنامة اليومية وإيقاظ الأطفال وتحضير وجباتهم وإيصالهم إلى المدرسة، ثم الذهاب إلى العمل سابقًا أو إلى الدراسة حاليًا، ثم شراء الضروريات ودفع الفواتير بالإضافة إلى تنظيف المنزل وتصليح الأعطال وغيرها من المهام التي لا تنتهي أبدًا”.
محاولة تخصيص ساعة أسبوعية على الأقل لفعل أي نشاط مسلٍ، سواء كان رياضة أم مطالعة أم مناسبة اجتماعية، أو حتى تخصيص هذه المدة للاسترخاء التام وتركيز الأم على حياتها ومتطلباتها الشخصية.
على الجهة المقابلة، من المؤسف تحول هذه المصاعب التي تهدد الأم العزباء إلى أداة تهديد بيد بعض المجتمعات، إذ تستخدم لإقناع المرأة بالصبر على العنف المنزلي أو سواه لتجنب خوض تجربة مواجهة الحياة بمفردها، والأجدر هو تقديم الدعم اللازم لهن في هذه الحالة، مما يعود على المجتمع بنتائج إيجابية من خلال أفراد سليمين صحيًا ونفسيًا ومساهمين في المجتمع.