سلطان العارفين.. مولانا.. شاعر الصوفية الأول.. ألقاب وكُنَى عُرف بها الفقيه الصوفي المخضرم محمد بن محمد بن حسين الخطيبي البلخي (المعروف بجلال الدين الرومي)، أحد أبز أعلام التصوف الفلسفي في التاريخ الإسلامي، وأكثرهم فيضًا وتأثيرًا في المجتمع المسلم على مر العصور.
تحول الرومي، فارسي الأصل، تركي الموطن، إلى أيقونة للعازفين على أوتار العشق الصوفي، فكان قبلة لهم ومنارة تهدي الحيارى والتائهين منهم، تتلمذ على يديه مئات طلاب العالم، وتأثر بفكره ومنهجه الآلاف، حتى بات مدرسة يستقبلها دراويش الصوفية وشعراؤها.
مر مولانا بتجربة روحانية ثرية، تنقل فيها من طالب علم شرعي إلى فقيه ومعلم له صيت كبير، إلى شاعر عارف وقطب من أقطاب التصوف، متأثرًا في مسيرته بأعلام ثلاث كان لهم التأثير الأكبر في هذا التحول، الأول هو برهان الدين الترمذي الذي تلقى على يديه العلوم الشرعية، ومعه محيي الدين بن عربي، والثالث شمس الدين التبريزي الذي كان له النصيب الأكبر في تشكيل شخصية وعقل الرومي.
ومقارنة ببقية الكتاب والفلاسفة المسلمين الآخرين، لقى تراث الرومي حفاوةً بالغةً لدى الغرب، حتى بات علمًا في بلاد لا تعرف عن الإسلام إلا مظاهره، وهو ما رده مهتمون إلى طبيعة منهجه الذي يقدم التجربة الروحية بصورة جذابة بعيدة عن القواعد والقناعات الدينية، ويمتلك رؤية تمثل رسالة عالمية تخاطب حضارات العالم كافة باعتبارها مصدر إلهام لكل الناس، وهو ما جعله مثار اهتمام وتركيز لدى المجتمع الغربي بشتى انتماءاته.
في حجر سلطان العلماء
نشأ الرومي المولود في الـ3 من سبتمبر 1207 في مدينة بلخ، شمال أفغانستان، في بيت العلم والعلماء، لأسرة تربطها علاقات قوية بالأسرة الحاكمة في الدولة الخوارزمية، فوالده بهاء الدين البكري، المعروف باسم “بهاء ولد”، حنفي المذهب، كان من أعلام البلدة حينها وكان يلقب بـ”سلطان العلماء” لمكانته العلمية وجرأته في قول الحق.
تلقى تعليمه الشرعي على يد والده ابتداءً، ثم تتلمذ بعد ذلك على أيدي زمرة العلماء المشاهير في هذا الوقت، على رأسهم تلميذ والده، برهان الدين المحقق الترمذي، وبعد أن وصل إلى سن الـ26 سافر إلى الشام لطلب العلم، حيث جلس بين راحتي عدد من الشيوخ الذين أخذ عنهم بعض العلوم الشرعية والعقلية ومبادئ علم التصوف.
ففي حلب تلقى العلم على يدي الشيخ كمال الدين بن العديم، وبعدما انتقل إلى دمشق نهل من بئر شيخه الشهير سعد الدين الحموي والشيخ عثمان الرومي، ثم الفيلسوف الصوفي الأشهر وقتها الشيخ محيي الدين بن عربي وتلميذه الشيخ صدر الدين القونوي، وكان لذلك دور كبير في إثقال قدراته الفقهية والإدراكية فيما بعد.
تعددت الروايات في دوافع مغادرة “بهاء ولد” لموطنه بلخ، في مقدمتها استيلاء المغول على المدينة، فاضطر لتركها عام 1213، حيث تنقلوا من مدينة إلى أخرى حتى وصلوا عاصمة الخلافة بغداد، ومنها واصلوا السير إلى الحجاز ثم إلى مكة المكرمة، ومنها إلى ملطية التي كانت تسمى آنذاك “بلاد الروم” (تركيا اليوم) ثم سكنوا قرمان، وفي عام 1229 انتقلت الأسرة إلى قونية التي كانت عاصمة “سلاجقة الروم” فاستقرت هناك وطاب لها المُقام، ومن هنا جاء تلقيب جلال الدين محمد بـ”الرومي”.
وفي قونية قارب الرومي على الـ30 من عمره، وكان فقيهًا في الدين بعد أن تتلمذ على أيدي كبار علماء المسلمين، فعمل بالتدريس والفتوى، ولاقى أسلوبه ومنهجه ترحيبًا كبيرًا من أهل المدينة، فأقبل عليه التلاميذ وزادت محبتهم له حتى لقبوه “إمام الدين” و”عماد الشريعة”، وبلغ عندهم مرتبة من سعة العلوم والمعارف دعوه بسببها “سلطان العارفين”.
الترمذي.. الرومي الفقيه
كان برهان الدين الترمذي أحد العلماء الذين أثروا في مسيرة الرومي، إذ أفاض عليه من علمه ولم يبخل عليه، فزرع فيه النواة الأولى لعلوم الفقه الشرعية، تقديرًا منه واحترامًا لوالده الذي تتلمذ على يديه، فكان من أبرز مريدي سلطان العلماء والمقربين منه، وأصابه الحزن الشديد عقب مغادرة والد الرومي لبلدته بلخ.
حين انتقل بهاء ولد إلى قونية، انقطع التواصل بينه وبين الترمذي، وبعد مرور عدة سنوات، قرر التلميذ البحث عن أستاذه والذهاب إليه، وفي عام 1232 ذهب إلى قونية، لكنه فوجئ بوفاة المعلم قبل مجيئة بعام واحد فقط، ليلتقي بولده جلال الدين الذي مثل له هذا اللقاء حدثًا جللًا.
كان الرومي في هذا التوقيت في الـ25 من عمره، وعرض عليه الترمذي أن ينهل عليه مما أفاض والده عليه قبل ذلك، فقبل الشاب العالم بكل ترحاب، لتنشأ بينهما علاقة قوية، حيث تأثر الرومي بأستاذه الذي كان سببًا محوريًا في نضجه روحانيًا وفلسفيًا.
حث الترمذي الرومي على السفر وتلقي العلوم في مختلف المجالات، فسافر إلى الشام وعدد من البلدان الأخرى، وجلس بين يدي عشرات العلماء والمصلحين من أعلام هذا الزمان، حتى أثقل خزائنه المعرفية في علوم الفقه والشريعة والتصوف، فبات أحد الأسماء اللامعة التي يشار لها بالبنان في بلاد الشام وخارجها، وأصبح له مريدون من كل بقاع الأرض يحضرون مجالسه، وظل مولانا على هذه الوضعية حتى عام 1244 حين تعرف على الشيخ الفارسي شمس الدين التبريزي، الذي غير مسار حياته.
التبريزي.. الرومي الصوفي
كان لقاء الرومي بالتبريزي عام 642هـ/1244م نقطة تحول في مسار حياته، حيث أعاد ولادة فكره ومنهجه من جديد، فعلى يديه أدخله في زمرة أرباب التصوف، لينقطع شيئًا فشيئًا عن تلامذته ومريديه، ويتحول إلى عالم آخر جديد، فبدأ ينظم الشعر الصوفي ويرتاد مجالس أقطاب هذا الفكر.
كان التبريزي مدرسة الرومي في الفلسفة الصوفية، وأكثر من تأثر بهم، فهو أول من طرق له باب التصوف، وهنا يؤكد جلال الدين هذا الكلام بنفسه قائلًا: “إن شمس الدين التبريزي هو الذي أراني طريق الحقيقة، وهو الذي أُدين له بإيماني ويقيني”، وظل على موقفه هذا حتى وفاته.
في كتابه “بحثًا عن الشمس” يصف عطاء الدين تدين تفاصيل اللقاء الأول الذي جمع الرومي مع تبريز: “كانت الساعات الأولى ليومِ سبت مشمس، في السادس والعشرين من جمادى الثاني عام 642 هـ، كان شخصان قلقان يمران بسوق قونية. موجتان عظيمتان، بحران زاخران، وعالمان عجيبان يمضي أحدهما نحو الآخر”.
ويضيف المؤلف أنه وفي أحد أسواق قونية، كان يقف التبريزي الزاهد المتشرد ذو التركيب العجيب من العشق والصفاء على حد قوله، وقد ضرب بيده على بغل مولانا جلال الدين، في لحظة يقول عنها: “كأنما توقفت الأرض فيها عن الدوران”، في إشارة منه إلى عظم كلا القطبين الصوفيين.
ذهب بعض الباحثين إلى أن منهج الرومي في الصوفية يعتبر من إفرازات بيئة بلاد فارس التي شهدت آنذاك نهضة كبيرة في التصوف الإسلامي، غير أنها غلبت عليها النزعة الفلسفية عن السلوكية، وانعكس ذلك على فكر سلطان العارفين ومسلكه الصوفي كما أشار بذلك الباحث المغربي محمد ناعم.
ناعم يرى أن شخصية الرومي “لم تسلم مـن التحريف والوضع والتحامل، إما من طرف أناس لا يفهمون من التصوف إلا تكايا الانعزال وحرفة أصحاب الأسمال وطقطقة المسابح، وبعض الأعمال والطقوس والعادات التي يبرأ منها دين الإسلام نفسه، أو من أولئك المفتونين بهذه الشخصية الذين يضفون عليها الكثير من القداسة، وينسبون إليها عادات وخوارق، وينسجـون حولها الأساطير التي لا تتفق مع مواقف ومبادئ الرجل، كما لا تجاري الشرع أو العقل والمنطق”، كما أوضح في تصريحاته لـ”الجزيرة”.
كما أوضح أن أهم ما يميز شخصية الرومي أنها متشعبة المنحنيات والفكرة، فتجدها مرة إلى جانب العلوم الشرعية، عميقة الفهم في العلوم العقلية، ومرة أخرى متبحرة في التصوف الفلسفي، هذا بخلاف قدراتها الأدبية الفائقة التي توصل عن طريقها أفكارها وآراءها بلغة رقيقة المفردات رائعة الأسلوب.
الطريقة المولوية
لم يدم لقاء الرومي بشيخه التبريزي إلا أربع سنوات فقط حتى فارق الحياة في 1248 الأمر الذي أثر بصورة كبيرة في نفس مولانا، حتى ظهر عليه الوهن والضعف، وفي يوم من الأيام كان يمر بسوق قونية، مطأطئ الرأس يعتريه الحزن الشديد، وفجأة سمع أصوات المطارق التي تطرق صحائف الذهب.
حينها لم يتمالك الرومي نفسه، وإذ بجسده يتمايل يمينًا ويسارًا مع صوت المطارق، وبدأ في رفع يده اليمنى فيما عيناه مغمضتان، ورأسه مدلدل على كتفه الأيمن، فاستدار على حالته تلك مرتكزًا على رجله اليمنى، ثم شرع في الدوران، وفجأة رأه صاحب المحل الذي يطرق الذهب، وكان يسمى صلاح الدين زركوبي.
لم يصدق زركوبي نفسه حين رأى الرومي يتمايل شوقًا مع أصوات المطارق، فأمر عماله بالاستمرار في الطرق وألا يتوقفوا أبدًا، بل طالبهم بزيادة الطرق والإعلاء من صوته، وكانت تلك اللحظة هي ميلاد “طقس السماع” عند المولوية، وقد وصفها الرومي بقوله: “هل تعرف ما السماع؟ هو سماع النداء، ونِسيان النفس، والوصال إلى الله، هو الغفلة عن الوجود، وتذوُّق البقاء في الفناء المطلق”.
ومنذ ذلك اليوم ترك زركوبي تجارته ومحاله وعاد مع مولانا إلى المدرسة ليصبح مع مرور الوقت أحد دراويشه ومريديه ثم صاهره بعد ذلك وبات خليفته، وظل رفيقه حتى وافته المنية، ليتخذ بعده تلميذًا آخر له خليفة له، يدعى صلاح الدين جلبي الذي لازم مولانا حتى فارق الحياة، وهو أيضًا الذي ألح عليه لكتابة المثنوي أو “مثنوي معنوي”، أهم مؤلفاته على الإطلاق، ومن أكثر المؤلفات مبيعًا حول العالم إلى يومنا هذا.
الرومي في الغرب
حقق تراث الرومي شهرة فائقة لدى الغرب والولايات المتحدة بصورة ملفتة للنظر مقارنة بأقطاب الصوفية الآخرين، سبق بها حتى أساتذته، وهو ما أرجعه البعض إلى قدرته الفائقة على تقديم التجربة الروحية لقرائه بشكل جذاب بعيدًا عن التعقيدات المتشابكة فيما يتعلق بالقواعد والقناعات الدينية.
الأبحاث التي تطرقت إلى دراسة دوافع تغلغل فكر ابن الرومي في المجتمع الغربي أشارت إلى أن فكره اتسم بالتسامح الشديد مع الآخر، بصرف النظر عن هوية هذا الآخر، وهي المسألة التي اتسقت بشكل كبير مع قيم الحضارة الغربية وسمات عصر العولمة التي على رأسها تخطي مرحلة الاختلافات الثقافية بين الشعوب وتبني أفكار وحدة الأديان وتجاوز مسألة الانتماءات بشكل كامل، وهو ما وجدوه في تراث مولانا.
ومن الأقوال المأثورة التي لاقت رواجًا كبيرًا لدى الغرب، تلك التي عبر بها الرومي عن مدى سماحته واحترامه لأنصار الديانات الأخرى، فكان يقول: “مسلم أنا ولكني نصراني وبرهمي وزرادشتي.. توكلت عليك أيها الحق الأعلى.. ليس لي سوى معبد واحد.. مسجد أو كنيسة أو بيت أصنام”.
التوجه ذاته كشفه في مطلع ديوانه “التبريزي” حين قال: “أنا نفسي لا أعرف نفسي، فلا أنا مسيحيٌّ، ولا أنا يهوديٌّ، ولا أنا مجوسيٌّ، ولا أنا مسلمٌ، ولا أنا شرقيٌّ، ولا أنا غربيٌّ، ولا أنا من البر، ولا أنا من البحر، ولا أنا من الكون، ولا أنا من المكان”.
وعليه كان الغرب يرى في الرومي الوجه الإسلامي غير المتصادم مع الحضارة الليبرالية الغربية، وهو ما دفع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونسكو” لتبني فكره وتسويقه، حيث وزعت ميداليات باسمه، كان ذلك في احتفال المنظمة بمئويتها الثامنة في واشنطن قبل سنوات، حين جاء في إعلانها آنذاك أن “أفكار وآمال الرومي يمكن أن تكون جزءًا من أفكار وآمال اليونسكو”.
وتعد رواية (قواعد العشق الأربعون) للكاتبة التركية إليف شفق، أحد أبرز الأدلة على تأثير جلال الدين الرومي في الثقافة الحديثة، وتدور أحداث الرواية في مسارين متوازيين: الأول عن العلاقة القوية التي كانت تربط بين الرومي والتبريزي، أما الثاني فكان يتعلق بجانب من تعاليم وأفكار الرومي الصوفية، وقد حققت تلك الرواية الصادرة عام 2010 نجاحًا مدويًا حيث وصل عدد النسخ المبيعة منها في تركيا إلى أكثر من مليون نسخة.
أثرى الرومي المكتبة الإسلامية بأمهات الكتب والدراسات التي تناول فيها العديد من المسائل الصوفية والفلسفية والأدبية، من بينها منظوماته: “ديوان شمس الدين التبريزي” الذي يحتوي ألف بيت، و”الرباعيات” التي يبلغ عددها 1959 رباعية، وديوان “المثنوي” (يُعرف بـ”مثنوي مولوي”) الذي يتضمن زهاء 26 ألف بيت شعر فارسي.
وفي خريف عام 1273م وقع زلزال كبير في قونية وما حولها، واقتُلعت الأرض من مكانها، وأصيب مولانا بحمى ألزمته فراشه حتى فارق الحياة في 17 من ديسمبر من نفس العام، ليبقى قبره في تركيا حتى اليوم مزارًا من مريديه الذين يزداد عددهم يومًا بعد الآخر بفضل ما خلفه من كتابات تأسر القلوب والأسماع.