“إن قوة التغيير التكنولوجي القادمة تجاهنا شديدة لدرجة يصعب قياسها، ومناقشة تهديدات الذكاء الاصطناعي المتنامي تشبه إلى حد ما محاولة التنقل في الإعصار، وما قد ينتظرنا في المستقبل هو حرب خوارزميات”.
بهذه الكلمات وصف هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي ومستشار الأمن القومي في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي التهديدات المتنامية من دول عدة ضد الولايات المتحدة في مجال أبحاث الذكاء الاصطناعي في اجتماع حضره مارس الفائت.
الصين والسعي نحو الهدف
في السنوات التي تلت انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001، نما اقتصاد البلاد ليصبح في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة من حيث القوة الشرائية، وفي العقد الماضي، انتشر نفوذها التجاري العالمي بشكل كبير، وأخذت الصين مكان الولايات المتحدة تدريجيًا كمورد رئيسي للسلع في أوروبا وآسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية، وأحد أهم المجالات التي دخلتها الصين بقوة كبيرة، هو مجال السلع الإلكترونية وأنظمة الحوسبة بشكل عام.
وتهدف الصين ضمن خطة “صنع في الصين 2025” إلى تحقيق التحول الاقتصادي في الصين بنهاية المطاف من منطقة صناعية منخفضة التكلفة إلى قوة ابتكارية كبيرة، ويظل هذا الأمر على رأس أولويات الرئيس شي جين بينغ ورفاقه في السنوات القادمة.
السباق بين الدولتين محموم على جميع الأصعدة
إذ تتطلع بكين إلى 10 قطاعات مهمة إستراتيجيًا وتكنولوجيًا، بما في ذلك تكنولوجيا المعلومات والتكنولوجيا الحيوية والروبوتات والفضاء والطاقة النظيفة.
يعمل فريق الرئيس شي على تصميم مبادرة لإنتاج أبطال وطنيين يمكن أن يقودوا هيمنة الصين في القطاعات العشر المذكورة أعلاه في السنوات العشرة القادمة، بهدف استبدال التكنولوجيا الأجنبية في نهاية المطاف بالمصنّعين المحليين.
ولعل تلك المخاوف من تسيد الصين للعالم الرقمي دفعت الرئيس الأمريكي لشن حرب ضروس على شركة “هاواوي” كبرى الشركات الصينية التكنولوجية، التي عززت تلك المخاوف بإعلانها إنشاء نظام تحديد المواقع العالمي على غرار “GPS” ولكن يختلف عنه بأنه صيني الأصل من بدايته إلى نهايته.
مجالات التنافس التكنولوجي الخمس بين الصين وأمريكا
السباق بين الدولتين محموم على جميع الأصعدة، ولكن من يريد السيطرة على الفضاء الرقمي وأنظمة الحوسبة – تصنيعًا وبرمجة -، فلا بدّ له من السيطرة على أهم القطاعات فيها، وهو ما يتناوله هذا التقرير:
أولًا: أشباه الموصلات
أشباه الموصلات هي قوة الحوسبة الخام، ولن يبصر أي جهاز إلكتروني النور دونها، فهي الأساس بكل صناعة إلكترونية، وتتمتع الشركات الأمريكية بالميزة الآن، حيث تتحكم بمعظم “الملكية الفكرية” مقابل تقلص منافسيها الصينيين في الإنتاج.
تعتبر تلك الرقائق الصغيرة العقل المسيّر لجميع الأجهزة ذات التقنية العالية، ودورها حاسم في السيطرة على شبكات الاتصالات من الجيل التالي وأجهزة الكمبيوتر العملاقة ومنتجات الذكاء الاصطناعي والمركبات ذاتية القيادة، وكذلك السفن العسكرية والأقمار الصناعية والطائرات، كما أنها واحدة من أكبر صادرات الولايات المتحدة، إلى جانب الطائرات والنفط والسيارات.
وصلت عائدات وحدة الرقائق الخاصة بشركة Huawei وHiSilicon، أكبر شركة أشباه الموصلات في الصين، إلى 7.6 مليار دولار العام الماضي، وفقًا لتقديرات سانفورد بيرنشتاين، وهذا يمثل “عُشر” الإيرادات التي حققتها شركة Intel الأمريكية العملاقة المصنعة للرقائق.
لكن ينظر المسؤولون في الإدارة الأمريكية بشك تجاه خطط الصين الصناعية، بما في ذلك “صنع في الصين 2025″، ويخشى المسؤولون الأمريكيون من أن اكتساب الصين ميزة في أشباه الموصلات يعطيها ميزة تجارية وعسكرية.
أنفقت الصين عشرات المليارات من الدولارات على مدى عقود في محاولة للحصول على موطئ قدم في صناعة أشباه الموصلات، رغم أن بعض التقديرات تشير إلى أنها متأخرة بخمس إلى سبع سنوات عن الولايات المتحدة فيما يتعلق بتكنولوجيا الرقائق.
وخلال حرب الرئيس ترامب على هاواوي ومنعها من الاستفادة من الإمكانات الأمريكية، فاجأت الصين المسؤولين الأمريكيين باستبدال الرقاقات الأمريكية في العديد من الأجهزة الإلكترونية لشركاتها بمزيج من الرقائق المحلية وتلك التي يتم الحصول عليها من شركات غير أمريكية، فأحدث هاتف لهاواوي، الذي تم إطلاقه العام الماضي، لم يتضمن أي رقائق أمريكية المصدر.
وتركز إستراتيجية الصين على المدى القصير لأشباه الموصلات على تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة، مما يعني غالبًا إيجاد بدائل أخرى غير صينية، لكن على المدى الطويل يعتقد العديد من مراقبي الصناعة أنها مسألة وقت قبل أن تكون الصين بالمراكز الأولى في تصنيع تلك الرقائق.
يذكر أن بكين أمرت في ديسمبر/كانون الأول جميع المكاتب الحكومية والمؤسسات العامة بإزالة معدات وبرامج الكمبيوتر الأجنبية في غضون ثلاث سنوات، وأصبح التوجيه معروفًا باسم “3-5-2” لأنه يسعى إلى إزالة الأجهزة الأجنبية بمعدل 30% في 2020 و50% في 2021 والـ20% المتبقية في 2022.
ثانيًا: الذكاء الاصطناعي
قبل ثلاث سنوات، أعلنت بكين عزمها أن تكون رائدة العالم في مجال الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030، متوقعةً أن تبلغ قيمة صادراتها نحو 150 مليار دولار، واستغلت شركات التكنولوجيا العملاقة المتداولة في الصين، بما في ذلك مجموعة Alibaba وBaidu Inc، مليارات الدولارات في أبحاث الذكاء الاصطناعي وإنشاء مختبرات في الصين ووادي السيلكون، مستغلين انفتاح الأخير.
وجعلهم ذلك يملكون القوة، متفوقين على المنافسين العالميين في مجالات تشمل خوارزميات التجارة الإلكترونية والتعرف على الوجه، لكن في حين أن الصين قد تساهم بمزيد من أبحاث الذكاء الاصطناعي وتكون متقدمة في بعض المجموعات الفرعية المهمة للذكاء الاصطناعي مثل “التعرف على الوجه”، فإنها ليست متقدمة في جميع هذه المجالات.
وعندما يتعلق الأمر بالبحث في الذكاء الاصطناعي العام – الذكاء الاصطناعي بقدرات تفكير بشري – فإن الشركات الأمريكية الكبيرة مثل Microsoft Alphabet متقدمة عليها بشكل واضح، مستغلةً انفتاحها على العالم أجمع، مستقطبةً أبرز العقول في العالم على عكس انغلاق الصين على نفسها.
لكن رغم ذلك، اتجاه الصين نحو هدفها وتركيزها على الجيل الجديد من المواهب يجعلها في موضع تهديد لمنافسيها، إذ أكد المنتدى الاقتصادي العالمي في تقرير له عام 2016، أن الصين كان لديها 4.7 مليون خريج حديث من مجال العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، في حين أن الولايات المتحدة كان لديها 568000 فقط.
كما تشير التوقعات إلى زيادة أخرى بنسبة 300% في الخريجين الصينيين بالعقد القادم، مقارنة بالزيادات المتوقعة بنسبة 30% فقط في أوروبا والولايات المتحدة، ومن المرجح أن تكون عواقب هذا الأمر بعيدة المدى، إذ بحلول عام 2030، من المتوقع أن تمثل الصين والهند فقط 60% من حاملي شهادة البكالوريوس في العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات في العالم.
يضاف لذلك أن الخريجين الصينيين على استعداد لرفد حاجة الدولة التقنية في المجال العسكري، على عكس نظرائهم الأمريكان، وهذا واضح في التمرد الذي فعله موظفو جوجل الذين رفضوا المشاركة في أبحاث يقودها البنتاغون.
ثالثًا: شبكات الجيل الخامس
بينما اخترع ألكسندر جراهام بيل الهاتف وجعل الولايات المتحدة رائدة الاتصالات في العالم، فإن تلك الأيام قد ولّت، حيث خسر صانعو معدات الاتصالات الأمريكية مكاسبهم في العقدين الأخيرين، ويهيمن على صناعة الاتصالات ثلاثة من الموردين الخارجيين.
من الواضح أن Huawei الأقوى بينهم يليها سامسونج، حيث تهيمن الأولى على تطوير تكنولوجيا الجيل الخامس التي بدأت شركات النقل بجميع أنحاء العالم في نشرها.
ساعدت معدات Huawei الخلوية المتطورة تقنيًا وقدرتها على إنتاجها بسرعة، الصين على طرح الجيل الخامس بسرعة، ومع ذلك، سيكون من السابق لأوانه إعلان الصين الفائز في سباق 5G، خاصة أن واشنطن لديها بعض من أفضل الشركات المطورة للتقنية نفسها ككوالكوم وسيسكو.
رابعًا: المركبات ذاتية القيادة
يتجه العالم في العقد القادم نحو المركبات ذاتية القيادة بشكل كبير سواء كانت سيارات أم طائرات، والتنافس بين الشركات المصنّعة لهذه التقنية على أشده، لكن قدم السبق ستكون لمن يتقدم بتقنيّات الجيل الخامس، فَسرعات الإنترنت ونقل المعلومات لا تقارن بغيرها من الشبكات.
كذلك سيعطي التعداد السكاني الكبير للصين الشركات الصينية المزيد من البيانات التي يمكن استخدامها لتحسين تكنولوجيا السيارات ذاتية القيادة.
ويعني تقدم الصين في البنية التحتية لشبكات الجيل الخامس (5G) أن شركات السيارات لديها مساحة اختبار أكبر، حيث يمكن استخدام التكنولوجيا اللاسلكية عالية السرعة لنقل البيانات عن حركة المرور إلى السيارات، أو حتى التحكم في المركبات عن بُعد.
خامسًا: الحواسيب الكمية
على عكس أجهزة الكمبيوتر الحاليّة التي تستخدم تدفقات من الأصفار لترميز البيانات، تستخدم أجهزة الكمبيوتر الكمومية طرق حسابية معقدة جدًا، يمنحهم هذا التعقيد الإضافي القدرة على معالجة المزيد من المعلومات بسرعة أكبر، مما قد يتجاوز بكثير قوة أجهزة الكمبيوتر العملاقة الحاليّة.
أجهزة الكمبيوتر الكمومية قد تكون في نهاية المطاف قوية بما يكفي لهزيمة الطرق الحاليّة للتشفير، وإجراء عمليات محاكاة معقدة لاكتشاف عقاقير جديدة ومنح قفزات خارقة في أبحاث الذكاء الاصطناعي.
الولايات المتحدة هي الرائدة العالمية الواضحة في بناء أجهزة الكمبيوتر الكمومية، لكن الصين وبقيادة “بان جيان وي” التي أطلق عليها اسم “والد الكم”، دفعت البلاد بقوة في مجال الاتصالات الكمومية وأجهزة الاستشعار والرادار، وجميع المناطق التي يمكن أن تكون لها تطبيقات عسكرية.
أطلقت الصين عام 2016 قمرًا صناعيًا يسمى Micius، يستخدم أشعة الفوتون في حالة كمومية تجعل الإرسال غير قابل للاعتراض، كذلك هي تبني مختبرًا ضخمًا لعلوم المعلومات الكمية في شرق الصين، وهو مشروع بتكلفة 10 مليارات دولار، لذا فإن بطاقة النقاط مقسمة بين الولايات المتحدة والصين، فالأولى تتصدر الحوسبة الكمومية، وتتصدر الصين الاتصالات الكمية والتشفير.
ختامًا
أدت الحرب الأمريكية على التقنية الصينية إلى خسارة الولايات المتحدة واحدة من أكبر الأسواق المستهلكة للتكنولوجيا الأمريكية – على الأقل في الوقت الحالي ّ- ففي يناير 2020، وصلت أسهم شركة Apple إلى أعلى مستوى لها على الإطلاق بعد ارتفاع مبيعات iPhone في الصين.
كذلك أدى ذلك الحظر إلى هروب عدد من الشركات التي تتخصص في صناعة الرقائق الدقيقة والذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية والصناعات الأخرى بشكل متزايد، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى تقويض ميزة أمريكا، كما دفعت حملة إدارة ترامب بالفعل الشركات الأجنبية إلى تجنب المكونات والتكنولوجيا الأمريكية بسبب مخاوف من قطع الوصول إلى الأجزاء التي تحتاجها بشكل مفاجئ.
قال جون نيوفير الرئيس والمدير التنفيذي لرابطة صناعة أشباه الموصلات التي تمثل صانعي الرقائق: “أي شخص يعتقد أن قلقنا من تصرفات الرئيس ترامب مبالغ فيه يجب أن يتحدث إلى عمال صناعة أشباه الموصلات في الولايات المتحدة الذين يفقدون وظائفهم بالفعل بسبب إغلاق أكبر سوق لدينا”، وأضاف “عائدات تلك السوق الكبيرة تغذي استثماراتنا البحثية الضخمة، مما يسمح لنا بالابتكار وقيادة النمو الاقتصادي لأمريكا والأمن القومي”.
وقال سكوت جونز الزميل غير المقيم في مركز ستيمسون: “إذا واصلت هذه الإدارة المسار الحاليّ، فسوف نرى المزيد من الانشقاقات في الشركات والعلماء، سَيأخذون ابتكاراتهم وسيذهبون إلى مكان آخر، وستكون الاقتصادات الأخرى المستفيدة من ذلك”.