غيّر فيروس كورنا المستجد وتداعياته كل المعادلات الراسخة في العالم، وكما أظهر هشاشة علاقات الصداقة بين الكثير من البلدان، نسف في الوقت نفسه أسطورة الصراعات التاريخية بين بلدان أخرى، وقرب كثيرًا بين دول وشعوب لم يكن من المتصور حل الأزمات بينهم في وقت قريب، وعلى رأس هؤلاء الصين واليابان اللذين اغتنتما فرصة الفيروس، لتغيير الجغرافيا السياسية في المنطقة لصالحهما، وعدم الاستسلام للكراهية والعداء المتجذر بينهما حتى وقت قريب.
تحولت الأمور بين البلدين خلال الأسابيع الماضية، وتغيرت المعادلات رأسًا على عقب بعد تفشي الفيروس في الصين، كانت المبادرة من اليابان التي يبدو أنها حصنت مناعتها الوطنية وأصبحت تضبط بوصلة خلافاتها مع البلدان والشعوب بمؤشر النتائج الكارثية وما حدث لها في الحروب العالمية، وبات لديها ثقافة الإيمان بالإنسانية والاستثمار في إعادة بناء العلاقات في ضوء الكوارث التي تتغلب دائمًا على موازين النظام العالمي.
ما الذي حدث؟
بعد وقت قليل من تفشي فيروس كورونا المستجد، كانت الصين تعاني بشدة والعالم بأكمله يشاهدها، وبعض البلدان كانت تمني نفسها بهلاك الشعب عن آخره حتى تفوز بتعاقداته الاقتصادية وصفقاته، عانى الصينيون من شح الأقنعة الطبية بشدة في الأسواق بسبب الاستيلاء عليها وتخزين الإمدادات الطبية بضراوة من المواطنين الذين وجدوا أنفسهم أمام عدو خفي يفتك بهم دون رحمة.
أمام هذا المشهد، بدأت أشباح الفقر تلوح للصين، وإنهاء دورها المركزي في سلاسل التوريد العالمية، خاصة بعدما تراجعت أغلب الشركات عن تعاقداتها الخارجية في المجالات الطبية المختلفة، وخاصة القفازات البلاستيكية والأقنعة الكمامات، ورفضت تسليم الكثير منها لحاجاتها إليها، وفي هذا الوقت، كانت أمريكا ومؤسساتها الصحية تشن حملة كبرى عليها وتشكك في قدرتها على الوفاء بتعهداتها الدولية في مجال الأعمال.
في هذا الوقت لم تكن بلدان العالم المختلفة تذوقت سم الفيروس، ولم يكن يتصور أحد قبل أشهر قليلة ما يحدث الآن، وخاصة الولايات المتحدة التي حاولت التكسب من الأزمة وتخلت عن دورها الأخلاقي ولم تتعاون مع الصين، واكتفت بغلق حدودها معها وكانت بادرة استجابت لها على الفور الكثير من دول العالم، خوفًا من تسلل الفيروس، وهنا كانت المفاجأة.
على النقيض تمامًا، سارعت الحكومة اليابانية المركزية والمؤسسات المختلفة ومنظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية والشركات لمساعدة بكين ومدها باحتياجاتها، وحملت هذه التصرفات مضامين سياسية ذكية للغاية، بداية من اللجوء إلى إجراءات رسمية وأخذ التصويت من أعضاء الحزب الديمقراطي الليبرالي الحاكم على التبرع بمبلغ 5000 ين ـ نحو 45 دولارًا لكل منهم من رواتبهم الشهرية، للمساعدة في مكافحة تفشي المرض في الصين.
تبع ذلك توجه الحكومة اليابانية بإرسال آلاف القطع من الملابس الواقية إلى ووهان – المقاطعة التي ظهر فيها المرض ـ التي كانت مثل مدن الأشباح، وقدمت لها وحدها نحو 30 ألف قناع، بينما تبرعت إحدى الشركات اليابانية بأكثر من مليون قناع للحكومة الصينية، على أن توزعها بمعرفتها على أكثر المدن المتضررة، كما أرسلت الجمعية اليابانية لتنمية الشباب صناديق أقنعة ومقاييس حرارة مزخرفة بكلمات من قصيدة قديمة مكتوب عليها “أرض متباعدة.. سماء مشتركة”، وهي كلمات خالدة تؤكد العلاقات التاريخية بين البلدين قبل أن يتم تشويهها.
كما لجأت شركة ماتسوياما باليه العالمية اليابانية، إلى تصميم فيديو مؤثر لغناء النشيد الوطني الصيني، من أجل شحن معنويات المواطنين وإخبارهم أن هناك من يقف معهم ويساندهم حتى لو تجمعهم ذكريات ليست جيدة على الإطلاق.
رد الصين على كرم اليابان
بكثير من الامتنان والحب، خرجت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية، لتعبر عن استعداد بلادها للرد بالمثل على اللطف الياباني، وأكدت أن الصينيين لاحظوا ما أسمتها “التفاصيل المشجعة للقلب” خلال هذه الفترة العصيبة، التي شهدت وصم الصيني داخل وخارج بلاده، بأشد الكلمات المتطرفة والتمييزية، بدلًا من المساعدة في مكافحة تفشي الفيروس.
قارنت بكين التعامل الأخلاقي لجارتها الآسيوية رغم الخلافات التاريخية بينهما، بحكومة الولايات المتحدة التي لم تقدم لهم أي مساعدة جوهرية، وليس هذا فقط بل كانت بعثتها أول من أغلقت قنصليتها في ووهان، وأول من اقترح انسحاب جزئي لموظفي سفارتها، وأول من فرض حظر سفر على المسافرين الصينيين ما خلق الخوف والفزع من الصين، بدلًا من أن تسارع لمساعدتها في السيطرة على الفيروس.
انعكست اللغة الودية بين الحكومات على المواطنين، وأصبحت مواقع التواصل تحفل بآلاف التعليقات التي تتفاعل بحرارة مع إنسانية اليابان، وتداول النشطاء صورًا لصناديق أقنعة الوجه المتجهة إلى ووهان، وعليها ما يشير إلى العلاقات القديمة بين الشعبين، وخاصة عبارة “أرض متباعدة.. سماء مشتركة”، وهي كلمات لراهب بوذي صيني كان مبعوثًا إلى اليابان خلال القرن الثامن عشر، بدعوة من الملك الياباني آنذاك لإلقاء محاضرات في البلاد.
武漢への日本支援物資に貼られた文字は中国で話題になっている。天宝元年、日本僧の栄叡と普照が鑑真のもとを訪れ、受戒システムがない日本仏教を救うために誰かを派遣してほしいと懇願したと同時に仏国を目指した長屋王が唐に贈った袈裟千枚の話を聞く。「山川異域、風月同天、寄諸仏子、共結来縁」。 pic.twitter.com/EUlFXgB1CX
— 毛丹青 (@maodanqing) January 31, 2020
صعوبات حل الخلافات التاريخية بين البلدين
علاقات الود والانفتاح بين البلدين، أصبحت محل تساؤلات المهتمين بالقضية الآسيوية، وخاصة أن أجيال عدة شهدت على التوترات بين البلدين، إذ كانت العلاقات الصينية اليابانية الأكثر هشاشة في العالم، بسبب ميراث انعدام الثقة المتبادل والتوترات المتجددة عن القضايا الإقليمية والمظالم التاريخية القديمة والحروب بداية من الحرب الصينية اليابانية الأولى التي بدأت عام 1894، وتحولت اليابان على إثرها إلى قوة عسكرية واقتصادية صاعدة بالمنطقة، بينما تجرعت الصين مرارة الهزيمة، ووافقت على استقلال كوريا وتعويض اليابان عما خسرته ومنحها امتيازات تجارية هائلة، نهاية بمشاركة البلدين في الحرب العالمية الثانية التي بدأت في سبتمبر 1939 وانتهت رسميًا في سبتمبر 1945 بفوز الصين وتخليص شمالي شرقي البلاد من احتلال ياباني لها دام نحو 14 عامًا.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لم ينته الصراع وكانت هناك حرب باردة بينهما، وتصاعدت بشدة بسبب تفوق الصين على اليابان عام 2010، وصعودها كثاني أكبر اقتصاد في العالم، وأصبح بين البلدين تنافسية يحكمها الشك والصراع والغيرة، خاصة بعد شراء اليابان قبل سنوات قليلة ثلاث جزر متنازع عليها تاريخيًا مع الصين، لتلهب بذلك المشاعر القومية للصينيين، وتحيي لديهم الإرث التاريخي للعداء مع طوكيو وتاريخها الاستعماري المليء بذكريات الحرب والدماء.
والجزر تسمى “سينكاكو” في اليابان و”دياويو” في الصين، وتقع في بحر الصين الشرقي، وتبلغ مساحتها ما يقارب ستة آلاف متر مربع، ومعظمها مجرد صخور تظهر فوق سطح الماء، ولكن خطورتها لكلا البلدين، أنها نقطة البداية في تحديد المنطقة الاقتصادية والمياه الإقليمية لليابان، بجانب قربها من ممرات الملاحة البحرية واحتوائها على ثروة سمكية هائلة بجانب توقع وجود الغاز والنفط فيها بوفرة شديدة.
تحكم قضية الجزر قصص مختلفة بين البلدين، ولهذا فهي دائمًا من مسببات النزاع وتأزم العلاقات بينهما، فاليابان تؤكد أحقيتها في الجزر وأنها كانت تشغلها منذ نهاية القرن الثامن عشر، إبان حربها مع الصين، في المقابل تؤكد بكين أن الجزر أراض صينية، كما ترفض الطريقة التي استحوذت بها طوكيو عليها من الولايات المتحدة، والأخيرة سيطرت عليها بعد الحرب العالمية الثانية، ولكنها سلمتها لليابان عام 1972، دون أدنى اعتبار للصين التي كانت ضعيفة آنذاك.
المثير أن الدراما والسينما الصينية ترسخ للصراع بينهما، ومن يهوى الفن الصيني سيجد القضية حاضرة بشكل دائم، وبها مبالغات شديدة، بسبب رغبة الحزب الشيوعي الحاكم بالصين في تكثيف الدعاية التي تستدعي الوطنية وتحرض الأجيال المختلفة على اتخاذ إجراءات فعلية ضد اليابان دائمًا.
يمكن القول إن التطورات الإيجابية في الأسابيع الأخيرة ورد فعل اليابان على تفشي الفيروس التاجي في الصين والمشاعر الإيجابية المحيطة بذلك لا يمكن فصلها عن الإحباط الكامن تحت السطح بين طوكيو وواشنطن، وفزع اليابان من سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي لا يمكن التنبؤ بتصرفاته على الإطلاق، الذي سبق وكاد أن يهدم أهم تحالف إستراتيجي لأمريكا في المحيط الهادئ، بعد تهديده العام الماضي بفرض رسوم جمركية عالية على الصناعة اليابانية، بجانب محاولته إعطاء مشروعية لإطلاق الصواريخ الكورية الشمالية، بعد تقارب العلاقات مع الزعيم كيم يونغ، الأمر الذي هدد الأمن القومي الياباني.
لكن في الوقت نفسه ليست القضية بهذه السهولة، فاليابان لن تنسى سريعًا كيف تسللت الصين إلى السوق العالمية وربحت موقعها منذ 10 سنوات، وظهر ذلك بشدة بإعلان طوكيو قبل أيام تحفيز شركاتها الصناعية بمبلغ 2.2 مليار دولار، مقابل تصفية مصانعها في الصين، وبدء إنتاجها في اليابان، أو حتى نقلها إلى بلدان أخرى.
واستغلت اليابان قدرتها على مقاومة انخفاض وارداتها من الصين خلال فبراير الماضي بنسبة 50%، بسبب إغلاق المصانع الصينية جراء تفشي وباء كورونا الجديد، للبرهان لشركاتها على قدرتهم على تحقيق هذه النقلة بما قد يعيد طوكيو إلى موقعها القديم في الاقتصاد العالمي، كما تشترك اليابان مع أمريكا – رغم موقفها الأخلاقي النادر في مساعدة الصين – في لوم بكين على تأخر الإبلاغ عن تفشي الفيروس، وإخفائها خطورة التهديد الوبائي عن الدول الأخرى، وبالتالي فالتنافس مستمر ولو انخفض التوتر وتبدلت الأحوال والاهتمامات وسبل وآليات التفوق!