قيل قديمًا “من رحم الألم يولد الإبداع” ولكن هذا الإبداع قد لا يكون بالضرورة إبداعًا جماليًا متفائلًا، فقد يكرس لتصوير الألم الذي يختلج في نفس صاحبه فيتسرب من لسانه شعرًا ونثرًا مزوقًا بكل عبارات السخط وصيحات النقم وتأوهات الألم.
وفي الشعر العربي معذبون ثلاث تلمس في شعرهم نبرةً ساخطة على الوجود، وتلمح في ثنايا قوافيهم نزعةً لرفض كل مخرجات الحياة، حتى تكاد تظن لولا أسبقيتهم الزمنية أنهم يطبقون مقولة مكسيم غوركي “خلقنا لنعترض”، وهؤلاء الثلاث المبتلون المعذبون هم الحطيئة وبشار بن برد وأبو العلاء المعري، حيث ابتلي كل واحد منهم بمصيبة أقضت مضجعه ونغصت عليه عيشه، فحولته لناقم ساخط لا يفتر عن التذمر، فأضحى في نهاية المطاف لكل منهم فلسفة خاصة في التعبير عن الألم!
الحطيئة
أول هؤلاء المعذبين وأسبقهم زمنًا هو الشاعر جرول بن أوس بن مالك الملقب بالحطيئة لقصره وقربه من الأرض، عانى الحطيئة في حياته من ثلاث خصال لازمته حتى الممات وما انفكت عنه، أولها كونه مغموز النسب ولا شك أن هذه الخصلة تحط من مكانة صاحبها خاصة إذا كان في مجتمع قبلي يعير أهمية كبيرة للنسب كالمجتمع العربي الذي عاش فيه الحطيئة، وثانيها دمامة خلقته الأمر الذي جعله مثار سخرية أقرانه في صباه ورسخت لدية شعورًا بالنقص في هذا الجانب، وثالث المنغصات التي أرقت الحطيئة هي فقره المدقع الذي دفعة للتكسب بالهجاء، فراح يسخر سلاطة لسانه في كسب قوت عيشه، وقد وجد الحطيئة في الشعر ضالته، فبث فيه خلجاته الساخطة على الجميع، فكان على استعداد نفسي للانتقاص من أي شخص حتى لو كانت أمه أو زوجته بل حتى نفسه، ومن شعره في هجاء أمه التي حمّلها سبب نسبه المغموز:
ألم أوضح لك البغضاء مني ولكن لا أخالك تعقلينا
حياتك ما علمت حياة سوء وموتـــك يسر الصالحينا
وقال في هجاء زوجته:
أطوف ما أطوف ثم آوي إلى بيت قعيدته لكــاع
والمرأة اللكاع هي المرأة اللئيمة، وقال في هجاء نفسه:
أرى لي وجهًا شوه الله خلقه فقبح من وجه وقبح حامله
ورغم هذه “الكوميديا السوداء” إن صح التعبير في شعر الحطيئة، فقد نال استحسان نقاد الشعر ومتذوقيه قديمًا وحديثًا، فابن سلام الجمحي وضعه في الطبقة الثانية من طبقات الشعراء الجاهليين، أما أبو زيد القرشي صاحب كتاب الجمهرة فقد وضعه ضمن أصحاب المشوبات وهي قصائد اختلط فيها الإسلام بالكفر لأن أصحابها من المخضرمين الذين قل تأثرهم بالمبادئ السامية التي جاء بها الإسلام، وعد ابن رشيق القيرواني شعره شاهدًا على جزالة الشعر العربي وفصاحته وإتقانه.
بشار بن برد
أما ثاني هؤلاء المعذبين فهو الشاعر البصري المولد الفارسي الأصل بشار بن برد بن يرجوخ، الذي كانت له حكاية طويلة مع المأساة والمعاناة التي تركت أثرًا بارزًا في شعره، فقد ولد مملوكًا قبل أن يعتق ومما زاد الطين بلة كونه ضريرًا، فلم ير من الدنيا شيئًا وعاش حياته الطويلة في ظلام دامس!
وكان دميم الخلقة فقد وصف بأنه كان “مجدر الوجه جاحظ العينين قد تغشاهما لحم أحمر”، وربما لهذا السبب لم يفز بوصال النساء مما ترك في نفسه حسرات كثيرة بثها في شعره حين قال:
عندها الصبرعن لقاي وعندي زفراتٍ يأكلن قلب الحديد
بدأ نبوغ بشار الشعري مبكرًا، ووجد كالحطيئة في الهجاء ضالته، فكان يرى في هذا الفن الشعري ملمحًا من ملامح التنفيس عن معاناته النفسية، فراح يهجو من يعترض طريقة ويقسو في الهجاء حتى شكاه الناس إلى أبيه الذي كان يوسعه ضربًا، ولم يفلت بشار الصغير من ضرب أبيه إلا بعد إقناعه بأن يقول لمن يأتيه شاكيًا من لسانه “ليس على الأعمى حرج”، فلما أتوه وقال لهم ذلك عادوا متذمرين وهم يقولون “فقه برد أغيظ لنا من شعر بشار”، ولكن مرارة بشار الحقيقة بدأت تبرز بعد خصومته الشعرية مع الشاعر الماجن حماد عجرد الذي استغل نقطة ضعف بشار فقال فيه:
وأعمى يشبه القرد إذا مــا عمي القـــرد
دنيء لم يرح يومًا إلى مجدٍ ولـــم يغد
فلما سمع بشار هذا الهجاء بكى بكاءً مرًا، ويبدو أنه أثر في نفسه لأنه مس فيه موضع الألم، فرد على حماد ردًا هادئًا مبينًا فيه نظرته في العمى من جانبٍ ديني فقال:
رأيت العمى أجرًا وذخرًا وعصمة وإني إلى تلك الثلاث فقير
ورغم حياة بشار الصاخبة التي ملأها بالنزاعات والخصومات تارةً مع الشعراء الماجنين وتارةً أخرى مع فقهاء المعتزلة كواصل بن عطاء الذي أهدر دمه، بل وصل به الحال لهجاء الخليفة العباسي المهدي، لينتهي به المطاف وقد جلد حتى الموت “حد الزندقة”، ورغم هذه الحياة الصاخبة نرى خصومه الفكريين كالجاحظ المعتزلي يثني على شعره فيقول: “وليس في الأرض مولد يعد شعره في المحدث إلا وبشار أشعر منه” وقال عنه الشاعر مروان بن أبي حفصة حين التقاه “يا أبا معاذ، أنت باز والشعراء غرانيق”.
كل واحدٍ من هؤلاء الثلاث الذين أشقتهم الحياة، كانت له طريقة خاصة في التعبير عن الألم الذي يلم به
أبو العلاء المعري
وثالث هؤلاء المعذبين هو فيلسوف المعرة أبو العلاء الذي لم تكن معاناته بأقل من معاناة صاحبيه، فقد حرم من نعمة البصر وهو في الرابعة من عمره وكان لهذا الأمر تأثير كبير على نفسه، حيث يقول في رسالة له إلى عماه واصفًا حاله: “ولقد علم الله أن سمعي ثقيل، وبصري عن الأبصار كليل، قضي علي وأنا أبن أربع، لا أفرق بين البازل والربع، ثم توالت محني، فأشبه شخصي العود المنحني”، ولكن هذه المعاناة الجسدية والنفسية لم تثن أبو العلاء عن طلب العلم ومن ثم النبوغ فيه، فتتلمذ على يد أبي بكر بن مسعود النحوي ويحيى بن مسعر التنوخي والتقى بتلاميذ ابن خالويه وابن جني وكذلك اتصل بتلاميذ الفارابي وتلقف منهم علومًا في الفلسفة، ولكنة في نهاية المطاف آثر العزلة وحبس نفسه في داره وسمى نفسه “رهين المحبسين” وفي ذلك يقول:
أرانــي في الثلاثة من سجوني فلا تسأل عن النبأ النبيث
لفقدي ناظري ولزوم بيتي وكون النفس في الجسد الخبيث
وقد بالغ أبو العلاء في اعتزال الناس، حتى إنه تمنى لو يحشر يوم القيامة وحده ويحاسب وحده، ولا يحشر مع باقي الخلائق فقال في ذلك:
فيا ليتني لا أشهد الحشر فيهم إذا بعثوا شعثًا رؤوسهم غبرًا
وقد قضى في حبسه الاختياري 49 سنة، قضاها على طريقة الفلاسفة المتقشفين منصرفًا إلى التأليف والتصنيف حينًا والتدريس في أحيانٍ أخرى حينما كان بعض التلاميذ يقطعون عليه خلوته فينهلون من علمه.
وكان من نتائج معاناته النفسية اتخاذه موقفًا سلبيًا من الحياة عمومًا ومن الإنجاب خصوصًا، فقد أوصى بأن يكتب على شاهد قبره “هذا ما جناه عليّ أبي، وما جنيت على أحدٍ”، وكان يقول “أكل الأعمى عورة” ولهذا كان يرفض أن يأكل شيئًا أمام أحد ما.
وقد عرف بقوة حافظته حتى إنه قال في ذلك: “ما سمعت شيئًا إلا وحفظته، وما حفظت شيئًا ونسيته”، وقال عنه الشاعر أبي الحسن علي بن مأمون المصيصي: “لقيت بمعرة النعمان عجبًا من العجب، رأيت أعمى شاعرًا ظريفًا يلعب بالشطرنج والنرد، ويدخل في كل فن من الجد والهزل، يكنى أبا العلاء”!
وهكذا فإن كل واحدٍ من هؤلاء الثلاث الذين أشقتهم الحياة، كانت له طريقة خاصة في التعبير عن الألم الذي يلم به، فاتجه الحطيئة وبشار إلى الهجاء المقذع ووجدا فيه متنفسًا يعبر عما يختلج في نفسيهما من مشاعر مكبوتة، أما أبو العلاء فكان أكثر هدوءًا واتزانًا وآثر العزلة في بيته وانصرف للتأمل والبحث في فلسفته الخاصة التي بثها في شعره.