دخل السوريون رمضانهم الثالث منذ انطلاق الثورة السورية، بعد عام ونصف تقريبًا على بدء الثوار معارك تحرير البلاد من سيطرة نظام آل الأسد، حيث شهد النصف الأول من عام 2013 توسع المواجهات التي تمكن فيها الثوار من تحرير مساحات واسعة في محافظات الشرق السوري الثلاثة (ديرالزور والرقة والحسكة)، متضمنةً مدينة الرقة التي دخلها الثوار في مارس/آذار عام 2013 كأول مركز محافظة محرر، وهو ما دعاهم لتسميتها “عاصمة التحرير”.
أما شمال سوريا فقد كان الثوار قد أخرجوا معظم أرياف حلب الشرقية والشمالية والغربية إضافة إلى أكثر من ثلثي مدينة حلب عن سيطرة النظام، التي كانت موصولة بأجزاء واسعة محررةٍ من أرياف محافظتي إدلب واللاذقية شمالي غربي سوريا، وريف حماة الشمالي قريبًا من وسط البلاد، حيث جاء تحرير محافظة الرقة نقطة فاصلة في تاريخ سوريا، بعد أن ربط شرق سوريا بشمالها وشمالها الغربي، في أكبر مساحة متصلة محررة عرفها السوريون منذ انطلاق ثورتهم، امتدت على طول النصف الشمالي للبلاد.
فيما كان ثوار الجنوب قد تمكنوا من تحرير مساحات واسعة من ريفي درعا الشرقي والغربي إضافة إلى أجزاء من المدينة، فضلًا عن كامل مساحة محافظة القنيطرة باستثناء تلك التي يحتلها الكيان الصهيوني.
توزع مناطق السيطرة في سوريا أواسط عام 2013
وفي محيط العاصمة دمشق، كان النظام قد بذل جهودًا جبارة تمكن فيها من تقطيع أوصال الغوطة المحررة المحيطة بها إلى جزر متباعدة، لكنها رغم ذلك كانت لا تزال تهدد سيطرته على العاصمة، خاصة مع احتفاظ الثوار بعدد من أحياء دمشق الجنوبية محررةً، قريبًا جدًا من مركزها، وهو ما دفع النظام في 21 من أغسطس/آب إلى ارتكاب كبرى مجازره بحق السوريين، بعد استخدامه السلاح الكيماوي في ضرب الغوطة الشرقية قاتلًا المئات.
توزع مناطق السيطرة في محيط العاصمة دمشق أواسط عام 2013
نظام آل الأسد يعلن هزيمته!
مع اقتراب عام 2013 من انتصافه كان الثوار قد تمكنوا من إخراج أكثر من ثلثي مساحة سوريا عن سيطرة نظام آل الأسد، دون أن تتوقف المعارك أو أن يفقد الثوار شهيتهم العالية للتحرير، مع انكفاء قوات النظام على نفسها في المناطق التي اعتبرتها الأكثر أهمية، ممارسةً معارك دفاعية عن بعض المدن والبلدات التي حولتها لحصون متفرقة على امتداد مساحة البلاد، ومركزةً جهودها بشكل أساسي على حماية العاصمة دمشق إضافة إلى تأمين الطريق بينها وبين الساحل السوري، الذي يعتبره النظام مركز ثقله الأساسي، خاصة أن معارك التحرير بقيت بعيدة عنه نسبيًا.
ورغم أن النظام خسر جزءًا كبيرًا من قواته، بعد انشقاق أعداد كبيرة من الضباط والجنود عن جيش البلاد الرسمي، وإعراض معظم السوريين عن إرسال أبنائهم للالتحاق به، فإنه تمكن من العمل على تعويض هذا النقص من خلال تحويل عصابات الشبيحة المتعاملة معه إلى ميليشيات مقاتلة، إضافة إلى ترميم الجيش بأبناء الطائفة العلوية، حتى إن بعض المراقبين يتحدثون عن جندي أو أكثر من كل عائلة منهم!
لكن كل ذلك لم يكن ليمكّن النظام من مواجهة مجموعات الثوار على طول البلاد، بسبب الأعداد الكبيرة منهم، وتوزعهم على مساحة الجغرافيا السورية، ومع اقتراب الثوار من إخراج كامل الشرق ومحافظات الشمال والجنوب والوسط عن سيطرة النظام، وحصاره في أقصى الغرب على الشريط الساحلي، الذي بدا مسألة وقت لا أكثر، كان النظام قد حسم أمره أخيرًا بعدم قدرته على المواجهة منفردًا!
خاصة مع تمكن الثوار من تحرير أجزاء واسعة من محافظة حمص وسط البلاد، ومن ضمنها الريف الغربي والجنوبي الغربي وصولًا إلى الحدود السورية اللبنانية، مهددين بقطع الطريق الإستراتيجي بين دمشق والساحل، ليبدأ النظام معركة تأمين الطريق من بلدة القصير الإستراتيجية قرب الحدود اللبنانية، لكن بمشاركة ميليشيا “حزب الله” اللبناني هذه المرة، رفقة بعض قوات النخبة من الحرس الثوري الإيراني الذين أداروا المعركة، في اعترافٍ شبه رسمي من النظام بهزيمته أمام جموعٍ غير منظمة من الثوار بعتادهم الخفيف.
معركة القصير
جاء انطلاق الثورة السورية إعلانًا عن انتهاء عصر القطيعة بين السوريين، الذي رسخه نظام الأسد لعقود، فعندما كان النظام يحاصر منطقة ما في سوريا كانت بقية البلاد تخرج في مظاهرات فداءً لها ولأهلها، حتى جاءت معركة القصير تجليًا للعصر الجديد الذي ينظر فيه السوريون لبعضهم كجسد واحد.
فما إن بدأت قوات نظام الأسد وميليشيات “حزب الله” هجومها على القصير أواسط مايو/أيار 2013، حتى جهز ثوار حلب بقيادة لواء التوحيد رتلًا لمناصرتهم، لم يقبل قائد اللواء حجي مارع إلا أن يكون على رأسه، رفقة قائد المجلس العسكري في حلب العقيد عبد الجبار عكيدي الذي انطلق من حلب جنوبًا باتجاه القصير فزعةً للبلدة، وكذلك فعل ثوار الشرقية عندما شكلوا جيش العسرة من متطوعة كتائب وفصائل ديرالزور، في مؤازرةٍ قطعت أكثر من 400 كيلومتر عبر البادية السورية إلى القصير، ليصل الثوار إليها مع أواخر شهر ماير/أيار، ويخوضوا رفقة ثوار البلدة معركة شرسة دفاعًا عنها، انتهت بسيطرة ميليشيا حزب الله والنظام عليها وانسحاب الثوار منها تحت جحيم قذائف الطيران والمدفعية، بعد أن أمنوا سكانها برفقتهم.
لواء التوحيد بقيادة حجي مارع في معركة القصير- مايو/آيار 2013
دبيب النمل
بعد نجاح قوات النظام و”حزب الله” باحتلال بلدة القصير وتأمين طريق دمشق الساحل، بدأ بتجهيز حملة عسكرية تهدف لتأمين طريق إمداده من وسط سوريا حتى شمالها في حلب، وذلك برفقة ميليشيا حزب الله وعدد من نظيراتها الشيعية الأجنبية التي بات الحرس الثوري الإيراني يشكلها من العراق ولبنان وحتى أفغانستان، ويزج بها تباعًا إلى جانب النظام في مواجهته ضد ثوار سوريا، مستفيدًا من إعلان تأسيس “تنظيم داعش” الذي خرج من رحم جبهة النصرة في النصف الأول من عام 2013، ليتعاظم دوره تدريجيًا في المناطق المحررة، ويشارك بفاعلية في عدد من المعارك أبرزها تحرير مطار منغ شمالي حلب أواخر شهر رمضان عام 2013.
حيث أطلق النظام على حملتهم تلك اسم “دبيب النمل”، وكانت تهدف لاحتلال مدينة السفيرة الإستراتيجية جنوب حلب، وذلك لمواجهة ثوار الشمال الذين نجحوا عبر معارك “المغيرات صبحًا” في شهر رمضان من تحرير بلدة خان العسل الإستراتيجية وعددًا من الضواحي السكنية على تخوم مدينة حلب غربها، إضافة إلى معارك “رص الصفوف” و”العاديات ضبحًا” في ريف حلب الجنوبي التي حرروا فيها مساحة واسعة منه وصولًا إلى بلدة خناصر الإستراتيجية، التي تربط البادية السورية شرقًا بمناطق وسط سوريا غربًا، فضلًا عن ربطها وسط سوريا بالشمال السوري.
لاحقًا مطلع نوفمبر/تشرين الثاني تمكنت قوات النظام والميليشيات الطائفية من احتلال بلدة السفيرة جنوبي حلب، مقتربة كثيرًا ليس فقط من تأمين طريق إمداده إلى مدينة حلب، بل من إطباق الحصار على الأحياء المحررة فيها، خاصة بعد اندلاع المواجهات بين تنظيم داعش والثوار في الشمال السوري، التي امتدت لتعيد تشكيل المشهد السوري كليًا.