لعبت السينما دورًا بارزًا وملموسًا في صياغة وتصوير هموم المجتمع وقضاياه، وترجمت آراؤه وتطلعاته على منصة التمثيل، كما نقلت الواقع بصورته السعيدة والحزينة، ملقيةً النور على عوالم غير مألوفة أو مطروحة، ولذلك فضلت بعض الأنظمة، وتحديدًا الاستبدادية، السيطرة على منصاتها ورجالاتها لتصبح أداة من أدوات التضليل والتعتيم، وفي أحيان أخرى، قد تواجهها بمقص الرقابة وتزيد الخناق عليها لتتركها أرض قاحلة ليس فيها سوى الأعمال الممنوعة من العرض.
وصحيح أن المواقع والتطبيقات الإلكترونية قدمت لنا خيارات واسعة لمشاهدة ما نريد، بعيدًا عن قواعد النظام وحساسيته من بعض الأجندة والملفات، إلأ أن ذلك لا ينفي حقيقة استمرار تدخله بكل تفاصيل العمل السينمائي المحلي، ويشمل ذلك التدخل في فكرة الموضوع المطرح والسيناريو والكلمات المختارة وأماكن التصوير والأزياء والحركات التمثيلية.
السينما والقمع الثقافي
منذ البداية، صُنِعت الأفلام بهدف تشتيت انتباه الناس وتحويل أنظارهم عن حقيقة ما لصالح أخرى، وهذا يعني أن كل الأفلام معبأة، إلى حد ما، بالأيديولوجيا والتوجيهات السياسية أو الاجتماعية أو الدينية، وباختصار ليس هناك أفلام بريئة وخالية من تلك الرسائل المباشرة أو غير المباشرة، لذلك باتت هذه الأعمال تحت أعين الرقابة، سواء الفنية أم السياسية، بمبررات واعتبارات تخص القيم الاجتماعية وعلى اعتبار أن السياسة واحدة من عناصر التابوهات أو المحرمات الثلاث (الدين، الجنس، السياسة)، فلا ينبغي المساس بسمعة رجالها أو انتقاد قراراتهم وتحركاتهم.
الأنظمة القمعية تشبه الثقوب السوداء، تمتص كل أشكال الإبداع من مواطنيها وتبقي أراضيها قاحلة فنيًا وثقافيًا، وأي شخص متلهف لمشاهدة فيلم مثير للاهتمام والجدل عن تلك البلدان، فسوف ينتظر طويلًا بسبب الرقابة الشديدة
ولذلك، فإن أي فيلم يتعارض مع نظرة الأنظمة الحاكمة أو ينتقدها أو يكشف جانبها المظلم، يُلاحق صناعه ويُمنع العمل من العرض، وقد يحدث أسوأ من ذلك للمخرجين والعاملين في هذا المجال لو كانوا يعملون في السودان أو السعودية أو إيران على وجه الخصوص، حيثما تغيب مبادئ الديمقراطية وحرية التعبير والرأي في مختلف المنصات، وما يفسر جزئيًا سبب ارتباط انتعاش صناعة السينما أو انتكاسها بالحالة الديمقراطية في البلاد.
التفسير البسيط لهذه العلاقة أن الأنظمة القمعية تشبه الثقوب السوداء، تمتص كل أشكال الإبداع من مواطنيها وتبقي أراضيها قاحلة فنيًا وثقافيًا، وأي شخص متلهف لمشاهدة فيلم مثير للاهتمام والجدل عن تلك البلدان، فسوف ينتظر طويلًا بسبب الرقابة الشديدة والعراقيل التي يواجهها العاملون في هذا القطاع.
ومع ذلك تخرج إلى النور بعض الأعمال العنيدة والمقاومة لسياسة تكميم الأفواه، وربما كانت الأفلام الإيرانية خصيصًا أكثر الأعمال التي يجدر النظر في كيفية تطورها ونموها ووصولها إلى مراكز عالمية بارزة في ظل نظام لا يقبل الانتقادات ويفرض قيودًا صارمة من الصعب كسرها.
السودان مثالًا.. المحاولة رغم العقبات
عام 1989، انهارت صناعة السينما المزدهرة في السودان، ففي 1 من يوليو/تموز من ذلك العام حدث انقلاب عسكري، تولى على إثره عمر البشير السلطة وحكم السودان لنحو 30 عامًا حتى تم عزله عام 2019، وخلال هذه الفترة اتبع أجندة إسلامية متشددة، فعانت السينما وانهار دعم الإنتاج وبيعت دور السينما المملوكة للحكومة، وأغلقت الهيئة الرسمية السودانية للسينما عام 1995، وباتت هذه الصناعة تجارة غير مربحة، مع قوانين خانقة وضرائب مرتفعة وفواتير باهظة.
لم يمنع النظام صناعة الأفلام بشكل مباشر، ولكنه جعل من الصعب الحصول على تصاريح لتنفيذها، وطلب قراءة كل نصوص السيناريوهات، وشيئًا فشيئًا كُتِبت نهاية السينما السودانية بشكل شبه تام حين بدأ نظام البشير بملاحقة المخرجين وسجنهم وتعذيبهم، معتبرًا إياهم تهديدات ليبرالية للحكومة الجديدة، ولذلك اختار البعض أن يبتعد عن هذه الأجواء المقلقة بالرحيل نهائيًا عن أرض الوطن، السودان.
يعرض لنا الفيلم الوثائقي “حديث عن الأشجار” (Talking about Trees) للمخرج السوداني صهيب جاسم الباري الحائز على جائزة غلاسوته أوريجينال للفيلم التسجيلي، مشاهد الفيلم بزاويتين: الأولى تتناول فترة انتعاش السينما السودانية المنسية، والثانية تتبع رحلة 4 من السينمائيين السودانيين لإعادة الحياة لدار عرض سينمائي قديمة في بلد اختفت فيه ملامح ومحركات الصناعة منذ 3 عقود تقريبًا.
وتتضح تفاصيل هذه المحطات من خلال حديث السينمائيين عن تجاربهم الشخصية في الاضطهاد والتعذيب والنفي، كنتيجة حتمية لتعنت السلطات والقبضة المحكمة للأمن على الأنشطة الفنية والثقافية في البلاد باسم الدين والقانون.
تناول فيلم “أوفسايد الخرطوم” الزاوية نفسها، للمخرجة مروة زين، التي تحدثت عن مجموعة من النساء السودانيات المصممات على لعب كرة القدم رغم أنه غير قانوني، إذ يبدأ المشهد الأول من الفيلم بهذا الاقتباس: “في ظل الحكم العسكري الإسلامي السياسي الحاليّ، لا يُسمح للنساء بلعب كرة القدم في السودان – ولا يُسمح لنا بصناعة الأفلام – ولكن…”.
تعاملت هذه الأفلام مع مخاوفها وواجهت السلطات بالحقيقة التي تحاول التعتيم عليها أو التشكيك بها، كي تصبح لاحقًا جزءًا منسيًا لا يذكر كما تأمل وتسعى، ومن أجل أن تخدم مصالحها على حساب جهة أخرى
استغرق الفيلم الوثائقي 5 سنوات تقريبًا، وخلال تلك الفترة تم إيقاف زين عدة مرات، لكنها لم تتعرض لأي عنف، باستثناء التهديدات اللفظية بتدمير الكاميرا والمعدات الأخرى، إلا أنها تمكنت من إقناع السلطات بأنها لن تثير المشاكل أو تفضح أي شيء، رغم أنها كانت تناقش أحد المواضيع الاجتماعية الحساسة بالنسبة للنظام، وهي المخاطرة التي انتهت بمشاركة الفيلم بالعديد من مهرجانات السينما العالمية وحصوله على جائزة الأوسكار الإفريقي عن فئة أفضل فيلم وثائقي لعام 2019، فضلًا عن ترجمته إلى 5 لغات أجنبية.
السينما الجزائرية.. مستقبل واعد للرقابة وكبت الحريات
عاشت السينما الجزائرية أكثر فترات حياتها نشاطًا وازدهارًا في فترة الستينيات وحتى أواخر الثمانينيات، وخلال هذه الأعوام نالت السعفة الذهبية من مهرجان “كان” السينمائي الدولي عن فيلم “وقائع سنين الجمر” للمخرج محمد لخضر حامينا عام 1975، إلى جانب العديد من الترشيحات التي مهدت طريقها إلى القوائم القصيرة للأوسكار.
الأعمال السينمائية في الجزائر تمر أمام لجنتين: الأولى وزارة المجاهدين المسؤولة عن الأفلام الثورية، والثانية تابعة لوزارة الثقافة وتمنح نوعين من التراخيص: تجارية وأخرى ثقافية
ولكن اليوم لا نكاد نسمع شيئًا عن إنجازاتها في هذا الحقل، فأخبارها حُصرت على قرارات المنع وسحب التراخيص، ولعل فيلم “العربي بن مهيدي” الذي يصور حياة أحد أبرز قادة ثورة التحرير الجزائرية للمخرج بشير داريس أحد الشواهد والدلائل على هذا التدهور المؤسف في السينما الجزائرية بعد أن اعترضت وزارة المجاهدين الجزائرية (لجنة رقابية متخصصة في الأفلام الثورية) على مشاهد في الفيلم الذي استغرق إعداده وتصويره وإنتاجه 5 سنوات، متهمةً المخرج بالخروج عن السيناريو الأصلي، ما أثار جدل واسع حينها في الوسط الثقافي بشأن تقلص مساحات حرية الرأي والتعبير والفن في البلاد.
وطالت كذلك الانتقادات قانون السينما لعام 2011 الذي وضع إنتاج الأفلام المرتبطة بالثورة الجزائرية تحت رقابة الحكومة، حيث تنص المادة السادسة من القانون على “ضرورة إخضاع جميع الأفلام التي تتعلق بثورة التحرير ورموزها إلى موافقة مسبقة من الحكومة”، علمًا بأن الأعمال السينمائية في الجزائر تمر أمام لجنتين: الأولى وزارة المجاهدين التي ذكرناها، والثانية تابعة لوزارة الثقافة وتمنح نوعين من التراخيص: تجارية وأخرى ثقافية.
ويعني ذلك أن هذه المراكز الرقابية لا تتحكم في شكل النص السينمائي للفيلم أو مشاهده التمثيلية من منظور ثقافي أو فني فقط، وإنما تستطيع أيضًا الضغط عليه اقتصاديًا كي تزيد الأمور صعوبة وتعقيدًا على صناع الأفلام الذي يجتازون الخطوط الحمراء بحسب رأيهم.
وإلى ذلك، تضيف المخرجة الجزائرية يمينة شويخ، شكلًا جديدًا من أشكال الرقابة الذي اكتسبه المخرجين، وقالت إنها عندما كانت عضوة في لجنة القراءة عام 2015 اتفقت مع رئيس اللجنة السابق الطاهر بوكلة على عدم وضع الكثير من الخطوط الحمراء، غير أنها لاحظت أن معظم كُتاب السيناريو يمارسون الرقابة الذاتية على أنفسهم لأنهم يشعرون بالكبت، وهذا ما تجسد في نحو 120 سيناريو تقدموا للجنة وأغلبيتهم كانوا عن الثورة.
يطول الحديث عن الرقابة السينمائية في البلدان العربية، باختلاف أوضاعها ومستويات شدتها، إلا أن هذه الأعين الحكومية المزعجة لم تمنع صانعي الأفلام من أن يكونوا أحد أقلام التوثيق والتأثير على الرأي العام، فأعمالهم، سواء اتفقنا مع رسائلها أم اختلفنا، تعد مصادر ومراجع فعالة وجزءًا رئيسيًا من الروايات السردية والمنقولة بين الأجيال والمتداولة في نقاشات الأوساط الثقافية.