منذ سنوات ورؤوس الاستثمار العربية تبحث عن منافذ بعيدة عن اختناقات المنطقة، وما يبدو واضحًا لكل المهتمين بالمال والأعمال، أن الحكومات ورجال الأعمال العرب أصبحوا يولون وجوههم شطر البوصلة الصينية التي لديها مهارة فائقة في التنقيب عن أسواق لا يهتم بها أحد، وتستطيع العمل فيها تحت أي ظروف معيشية وقانونية واجتماعية، ولهذا كانت الهجرة العربية إلى أمريكا اللاتينية وبلدان بحر الكاريبي.
تقول الأرقام إن دول أمريكا اللاتينية ومجموعة الدول الناطقة بالإسبانية عمومًا، تملك العديد من المزايا القوية ولها ثقل اقتصادي وسكاني تدعمه مساحة جغرافية شاسعة موزعة على نحو 20 دولة بإجمالي سكان نحو 550 مليون نسمة وفقًا لبيانات عام 2018.
تصدر هذه الدول ما نسبته 5.9% من إجمالي صادرات السلع العالمية بقيمة تتجاوز 1.1 تريليون دولار أمريكي، كما تصدر ما تصل نسبته إلى 13% من صادرات الأغذية ومنتجاتها على مستوى العالم، ولكنها في المقابل، تستحوذ على 6.5% من إجمالي واردات السلع العالمية بقيمة تصل إلى 1.3 تريليون دولار.
خلال السنوات الماضية تحولت أنظار العديد من بلدان الشرق الأوسط، وشدت الرحال إلى أمريكا اللاتينية للاستثمار وضخ الأموال هناك خصوصًا في مجالات مثل الحديد والنحاس والأراضي الزراعية والمحاصيل الغذائية، وهو ما انعكس على ارتفاع معدل التبادل التجاري بين دول بحر الكاريبي وبلدان الشرق الأوسط بداية من تركيا التي ضاعفت اهتمامها بهذه المناطق وخاصة في السنوات العشرة الأخيرة.
في فبراير 2015 زار الرئيس رجب طيب أردوغان كل من المكسيك وكولومبيا وكوبا، وحملت هذه الزيارة دلالات مهمة، لا سيما أنها كانت الجولة الثانية لرئيس تركي إلى بلدان بحر الكاريبي بعد انقطاع دام 20 عامًا، ولم تتوقف اهتمامات أردوغان عند هذا، بل أجرى زيارة ثانية له في فبراير 2016، وتوسع هذه المرة لتشمل مباحثاته كلًا من تشيلي والبيرو والإكوادور، في الوقت الذي كان مولود تشاووش أوغلو وزير الخارجية ينقل وجهات نظر بلاده في تفعيل العلاقات مع الأرجنتين وبارغواي وجمهورية الدومينيك والمكسيك في بداية عام 2017.
زادت تركيا عدد مستشاريها التجاريين في المنطقة، بهدف تأمين وجلب المعلومات الموثوقة والمنتظمة لرجال الأعمال الأتراك، حتى تمكنهم الدولة من اغتنام فرص الاستثمار القائمة في المنطقة، وفقًا لاتفاقات تجارية واقتصادية مع 18 دولة، راعت خلالها تركيا إيجاد أرضية قانونية من أجل تأمين عمل اللجان الاقتصادية المشتركة، واستطاعت هذه الجهود تمكين البلاد من الحصول على عضوية لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية في أمريكا اللاتينية والكاريبي (ECLAC) التي تقع في تشيلي.
على مستوى الدول العربية يلاحظ أن الإمارات العربية المتحدة كانت أول من دعم نفوذه الاقتصادي في هذه المنطقة، ولهذا هي الآن السوق الأقوى وتمثل نحو 27 % من الصادرات إلى هذه البلدان من إجمالي إنتاج وصادرات دول مجلس التعاون الخليجي إلى أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، كما تستحوذ على 46% من الواردات، وهذه الأرقام تبرر حرصها منذ دخولها هذه الأسواق على إقامة مشروع ضخم بإجمالي 250 مليون دولار لتحويل ميناء مارييل إلى مركز ترانزيت عالمي المستوى، وعززت تجارتها مع الأرجنتين التي سجلت منذ مطلع عام 2008 زيادة قدرها 92.3% من إجمالي أنشطتها في المنطقة.
يقول خبراء إن سر التدفق الشرس لرؤوس المال العربية وخاصة الصناديق السيادية الخليجية في هذه المناطق، يعود لانزعاجها الدائم من مقومات الشفافية الغربية، ما يجعلها تفضل الاتجاه إلى الاستثمار في الأسواق الناشئة، رفضًا للتدقيق المتزايد على الاستثمار الأجنبي في أوروبا، والضغط على رؤوس المال وخاصة العربية والخليجية من أجل مزيد من الشفافية، وربما يكون هذا التحليل مهمًا لمعرفة سر تخفيض هيئة الاستثمار الكويتية استثماراتها في أوروبا والولايات المتحدة إلى أقل من 70% منذ عام 2008.
الاتفاقات التجارية يمكن أن تزيد التجارة بين المنطقتين بمقدار 9.8 مليار دولار في السنة وزيادة البصمة الدبلوماسية ستزيد التجارة السنوية بمقدار 3.3 مليار دولار
أشار نون بوست في تقرير سابق له إلى حجم خسائر الصناديق السيادية العربية في الخارج، وفقًا لصحف عالمية على رأسهم “صن” و”ديلي ميل”، وهو ما يفسر تعرض صناديق الثروة السيادية لدول الخليج العربي إلى هزات عنيفة وخاصة خلال الأزمات الاقتصادية المتلاحقة التي تعرضت لها الأسواق العالمية بين عامي 2008 و2009، وقدر التقرير خسائر الصناديق بنحو 350 مليار دولار، بسبب غياب الشفافية في بياناتها وأنشطتها وطريقة تمويلها وآليات الرقابة ومكافحة الفساد الإداري والمالي.
في دراسة للبنك الإسلامي للتنمية نشرها عام 2018 عن كيفية توثيق الروابط التجارية الخليجية مع هذه البلدان، أوصى بضرورة إبرام اتفاقات التجارة والاستثمار والازدواج الضريبي، وزيادة عدد البعثات الدبلوماسية وإقامة المزيد من الرحلات الجوية المباشرة وتعزيز الاتصالات بين الشركات، وبحسب تقديرات البنك الإسلامي فالاتفاقات التجارية يمكن أن تزيد التجارة بين المنطقتين بمقدار 9.8 مليار دولار في السنة وزيادة البصمة الدبلوماسية ستزيد التجارة السنوية بمقدار 3.3 مليار دولار، باعتبار أن الإمكانات التجارية القائمة بين دول الخليج وأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي هائلة وواعدة.
تاريخ العرب في أمريكا اللاتينية
يمكن القول إن الهجرة العربية إلى أمريكا اللاتينية، تعود لأزمان طويلة ماضية، لكنها تعاظمت بشدة في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، وكانت الأغلبية العربية آنذاك من دول لبنان وفلسطين وسوريا، وتركزت أنظارهم على الأرجنتين والبرازيل والمكسيك، بينما فضل الفلسطينيون تشيلي ودول أمريكا الوسطى على وجه التحديد.
تقول المراجع إن الهجرة العربية إلى أمريكا اللاتينية توقفت بشكل كامل بعد الحرب العالمية الثانية، قبل أن تبدأ مرة أخرى بمعدل منخفض نسبيًا في التسعينيات، ويبدو لافتًا أن أغلب مهاجري الماضي، كانوا من المسيحيين العرب.
وحصل التجار منهم ورجال الأعمال على مستويات ناجحة وخاصة في التجارة، وكونوا ثروات هائلة، وظهر منهم مليارديرات كبار على رأسهم كارلوس سليم، المكسيكي من أصل لبناني، وسادس أغنى شخص في العالم وفقًا لمجلة فوربس.
المثير أن طوال هذه الرحلة وتعدد الأعراق العربية لم تجعل سكان المنطقة يفصلون بين العرب والأتراك، وحتى الآن يطلقون عليهم اسم “turcos” أو “الأتراك” في جميع أنحاء أمريكا اللاتينية، ومن المحتمل أن تكون هذه التسمية لصقت بالعرب منذ بداية هجرتهم، عندما كانت بلدانهم تابعة للتاج العثماني، ولهذا عرفوا من وقتها بهذا الاسم.
كما لم يسلم العرب على مدار تاريخهم هناك من الكثير من المنغصات وأزمات رهاب الأجانب، بسبب الهجوم الشرس عليهم وتصاعد الدعاية المضادة لهم في ضوء صعود القومية خلال الثلاثينيات والأربعينيات من الأرجنتين إلى المكسيك.
لجأ المهاجرون العرب لرفع سقف كيفيات اندماجهم هناك وحاولوا القضاء على الاختلافات الثقافية مع السكان الأصليين
ووصل الصراع في بعض الأوقات إلى حد وصفهم بأكلة لحوم البشر، وتحول العداء إلى عنف أدى إلى “حرب المشط” التي اندلعت عام 1959 في كوريتيبا جنوب البرازيل عندما رفض صاحب متجر إعطاء شرطي إيصال لمشط اشتراه، وتحولت الأزمة إلى أعمال شغب أدت إلى نهب وتدمير 120 متجرًا معظمها مملوك للمهاجرين العرب.
بعد هذه الوقائع، لجأ المهاجرون العرب لرفع سقف كيفيات اندماجهم هناك وحاولوا القضاء على الاختلافات الثقافية مع السكان الأصليين، بداية من تخفيف الاعتماد على اللغة العربية وإنشاء مدارس تدرس بها لأطفالهم، وبعض المسلمين غالوا في سعيهم للاندماج لدرجة تحولهم إلى اعتناق المسيحية.
وشكلت ذروة النجاحات وصول نحو 11 رئيسًا من أصول عربية لسدة الحكم، على رأسهم الرئيس اللاتيني الأشهر كارلوس منعم الذي ولد لأبوين سوريين من مدينة يبروب، وعمل بالمحاماة، وناصر الزعيم الأرجنتيني المنفي في إسبانيا بيرون .
تولى منعم حكم الأرجنتين عشر سنوات كاملة بدأت في يوليو 1989 وانتهت في ديسمبر 1999، وكانت أهم إنجازاته الإصلاحات الاقتصادية ومعالجة نسبة التضخم الهائلة وتقليص النفقات الحكومية وإنهاء أزمة بلاده الحدودية مع تشيلي.
تحديات وعقبات
رغم كل ما رصد عن الفرص الواعدة في أسواق أمريكا اللاتينية، هناك أيضًا عقبات ليست سهلة وتزيد مخاطر الاستثمار فيها، على رأسها إنتاجية العامل التي قدرت في دولة مثل أوروغواي بنحو 56% من مستوى إنتاجية الأوروبي، بسبب سوء التغييرات الهيكلية المحفزة على الابتكار والإنتاج والمعرفة، فضلًا عن انخفاض مستويات التعليم العالي ونقص المهارات والقدرات التي تتطلبها الأسواق، وضعف استقرار النظم اللوجستية والبنية التحتية.
كما تشهد هذه البلدان سياسات غير فعالة في مكافحة الفقر، ولهذا يعيش أكثر من نصف سكانها في فقر أو على الأقل ما زالوا معرضين لأخطاره، حيث تمثل الطبقة الوسطى نحو 40% من السكان، أغلبية أبنائها يعملون في وظائف غير رسمية وليس لديهم حماية اجتماعية، ما ينعكس على تدهور الضرائب، التي يعتقد واحد من كل اثنين هناك بعدم وجود مبرر يجعله يدفع الضرائب، ما ينعكس على الموارد العامة اللازمة لتمويل الخدمات العامة الجيدة.
ولا تستفيد بلدان أمريكا اللاتينية من امتلاكها ما يقارب 40% من مقومات التنوع البيولوجي في العالم، لأن نشاطها الاقتصادي يشجع على استخدام الطاقات والأنظمة التي تهدد أو تدمر هذا التنوع، بسبب عدم الصرامة في حماية هذا التراث المهم، وضعف جهود الإصلاح من أجل زيادة تعزيز نمو أقوى وأكثر شمولًا لبلدان المنطقة الواعدة.