قبل شهر من الآن، نقض اللواء المتقاعد خليفة حفتر هدنةً إنسانيةً، دعت إليها الأمم المتحدة لتركيز الجهود على مواجهة جائحة فيروس كورونا، واستمر في قتاله ضد حكومة الوفاق الشرعية بهدف احتلال العاصمة طرابلس، دون أن تفرق نيران مدفعيته وصواريخ طائراته المسيرة بين مدني ومسلح.
تمرد على الهدنة الإنسانية في البداية وها هو يعلنها الآن بعد أن منيت ميليشياته المرتزقة التابعة له بانتكاسات في مواجهتها للقوات التابعة للحكومة المعترف بها دوليًا ويقودها فائز السراج، فما الذي دفع حفتر لتغيير موقفه؟
هدنة إنسانية
المتحدث باسم قوات حفتر، اللواء أحمد المسماري، قال في مؤتمر صحفي: “تقرر وقف جميع العمليات العسكرية من جانب واحد في محاور طرابلس، استجابة لدعوة الدول الصديقة، مع الاحتفاظ بحق الرد على أي خرق”، دون أن يضيف أي تفاصيل.
ودعت كل من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وممثل الاتحاد الأوروبي الأعلى إلى “هدنة إنسانية” في ليبيا بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم الذي بدأ في 24 من أبريل/نيسان، وذلك في بيان مشترك نشر مساء السبت الماضي.
يسعى حفتر للخروج من المعركة الحاليّة بأقل الأضرار حتى يرص صفوف قواته
جاء في البيان “ندعو كل الأطراف الليبية مع حلول رمضان إلى الانخراط في استئناف المحادثات بشأن وقف إطلاق نار فعلي وتوحيد الجهود في مواجهة العدو المشترك الذي يشكله خطر انتشار الوباء (كوفيد-19)، بما فيه مصلحة البلاد بأسرها”.
دعوة هذه الدول الأوروبية إلى هدنة في ليبيا جاءت بعد أيام قليلة من دعوة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش وممثلته الخاصة لليبيا بالوكالة ستيفاني وليامز إلى هدنة إنسانية، لكن حفتر لم يعرها أي اهتمام وواصل حربه وقصفه الأحياء السكانية والمنشآت المدنية والصحية في طرابلس.
كما سبق أن رفض حفتر التوقيع على اتفاق لوقف إطلاق النار يبدأ سريانه في 12 من يناير/كانون الثاني الماضي، وقعت عليه حكومة الوفاق الوطني الليبية في موسكو بمبادرة تركية روسية، واختار مواصلة القتال وهجومه الذي بدأه في 4 من أبريل/نيسان 2019، للسيطرة على العاصمة طرابلس مقر حكومة الوفاق.
خسائر متتالية
إعلان حفتر المناهض للشرعية الدولية، لهدنة إنسانية في محاور القتال في طرابلس بعد رفض الدعوات السابقة والتمرد عليها، يأتي في وقت مُنيت فيه ميلشياته والمرتزقة الروس والأفارقة التابعون له بهزائم عسكرية كبيرة أمام قوات الحكومة الشرعية.
ففي الأيام الأخيرة، عرفت جبهات القتال في ليبيا تطورات كبرى، حيث واصلت القوات التابعة لحكومة الوفاق الوطني تحقيق الانتصار تلو الآخر على حساب ميليشيات حفتر، استعادت من خلاله السيطرة على مدن عدة غرب العاصمة طرابلس، ليصبح الطريق مفتوحًا أمامها على امتداد الساحل الغربي باتجاه الحدود التونسية.
تمكنت قوات الوفاق من السيطرة على مدن العجيلات والجميل ورقدالين وزلطن غربي طرابلس، الواقعة بين الشريط الساحلي وجبل نفوسة (الجبل الغربي) التي دخلتها مليشيات حفتر، بعد اقتحام قوات الوفاق قاعدة الوطية الجوية، في مارس/آذار الماضي، كما استردت صبراتة وصرمان الواقعتين تحت سيطرة قوات حفتر منذ أبريل/نيسان 2019.
عندما حاصرت مليشيات حفتر الأطفال والنساء والشيوخ في درنة لم يكن للهدنة اي معنى، بل العكس قطعوا عليهم المياة والكهرباء وجوعوهم.
اليوم ومن أبوظبي المارقة يطالبوا بالهدنة عندما اقتربت نهاية المليشيات،
لا لهدنة دفعت دولة مارقة المليارات في سيبل مشروعها الانقلابي والمضاد لفبراير.
— عماد فتحي E.Fathi (@emad_badish) April 30, 2020
كما تستعد حكومة الوفاق الآن، لاقتحام قاعدة الوطية الجوية التي يستخدمها حفتر كقاعدة خلفية لحماية قواته، كما تعمل على اقتحام ترهونة واستعادة السيطرة عليها وذلك في سياق عملية “عاصفة السلام” التي أطلقتها حكومة الوفاق الليبية، ردًا على عمليات قصف قوات حفتر للأحياء والمنشآت المدنية في طرابلس، ما تسبب في سقوط عشرات الضحايا.
عند استعادتها لهذه المدن، حصلت قوات الوفاق على منصات إطلاق صواريخ غراد وذخائر وأسلحة ثقيلة وخفيفة، كما استولت على دبابات وعربات مدرعة، لجماعات مسلحة متحالفة مع حفتر، خاصة في مدينة صبراتة غربي ليبيا.
جاءت هذه التطورات والتغييرات في موازين القوى، بعد سيطرة قوات الوفاق على سماء المعركة نتيجة دخول الأسلحة التركية من طائرات مسيرة هجومية “بيرقدار TB2” (Bayraktar TB2) وأنظمة تشويش أرض المعركة، وذلك بعد عقد الوفاق اتفاقًا أمنيًا مع أنقرة، في نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2019.
السعي لرص الصفوف
تزامن إعلان حفتر الهدنة مع الخسائر الكبيرة التي تكبدها وسعي قوات الوفاق مواصلة تقدمهم لتحرير باقي المدن التي تقع تحت سيطرة حفتر، يؤكد سعي الأخير الخروج من المعركة الحاليّة بأقل الأضرار حتى يرص صفوف قواته.
حفتر الذي كان يرفض مجرد الحديث عن وقف إطلاق النار مشروط، ظنًا منه أنه يستطيع حسم المعركة عسكريًا والسيطرة على كامل البلاد بمساعدة حلفائه العرب والأجانب على رأسهم مصر والإمارات وفرنسا، نجده الآن يعلن هدنة إنسانية من جانب واحد بعد أن تأكد من فشل مخططاته.
#طحنون_بن_زايد و مسؤولون إماراتيون كانوا في السودان و من ثم تشاد و ذلك للتنسيق و جلب المزيد من مرتزقة الجنجويد للقتال إلى جانب #حفتر بعد الهزائم التي تلقاها من أحرار ليبيا
إلى متى ستصمت مكونات الثورة عن عبث هذه الدويلة بسمعة السودان وصورته ؟
— د. تاج السر عثمان (@tajalsserosman) April 29, 2020
هذه الهدنة الهدف منها استباق الهزيمة الكبرى، خاصة أنها جاءت بعد يومين من رفض الأمم المتحدة والمجتمع الدولي إعلانه إيقاف العمل باتفاق الصخيرات السياسي المبرم نهاية سنة 2015 واعتباره “جزءًا من الماضي” وتفويض قيادة البلاد في هذه المرحلة إلى المؤسسة العسكرية التي يترأسها.
أمام هذه الخسائر العسكرية والدبلوماسية المتتالية، يشعر حفتر أن حلمه بدخول العاصمة طرابلس والسيطرة عليها بدأ يتبدد شيئًا فشيئًا
يسعى حفتر إلى المحافظة على آخر معاقله في الغرب الليبي، فهو يعلم أن سقوط ترهونة وقاعدة الوطية في يد قوات الوفاق الوطني يعني نهاية وجوده العسكري في الغرب وبداية انحسار وجوده المسلح في كامل البلاد التي يعمل على فرض نظام عسكري فيها خدمة لأجنداته وأجندة حلفائه.
بعد انهيار مليشياته في المدن الغربية يطلب حفتر تفويض على الطريقة السيساوية.. و بعدها ب 48 ساعة يعلن انقلابه في الشرق و عند الرفض الدولي اليوم يطلب الهدنة في حين يجمع له طحان بن زايد المرتزقة من الخرطوم..حفتر يبحث عن الوقت ..لا تمنحه ما يريد يا سراج #لا_هدنه_مع_الارهاب
— Ashraf Shah (@AshahAshraf) April 29, 2020
ويأمل اللواء الليبي المتقاعد، من خلال هذه الهدنة الإنسانية فسح المجال لنفسه لإصلاح جبهته الداخلية والحصول على مساعدات من حلفائه، وهو ما تأكد من خلال زيارة وفد إماراتي مهم للسودان مؤخرًا لبحث كيفية تقديم الدعم لحفتر وإرسال مرتزقة سودانيين إليه.
ويقاتل آلاف المرتزقة من السودانيين وغيرهم في عدة جبهات في ليبيا مع قوات حفتر، وكان قائد قوات الدعم السريع في السودان محمد حميدتي قد أرسل نحو أربعة آلاف جندي من قوات الجنجويد إلى ليبيا لحماية المنشآت النفطية في منطقة الهلال النفطي لمنح قوات حفتر الفرصة لتركيز كل قوته على هجوم طرابلس.
التحضير لما هو قادم
أمام هذه الخسائر العسكرية والدبلوماسية المتتالية، يشعر حفتر أن حلمه بدخول العاصمة طرابلس والسيطرة عليها بدأ يتبدد شيئًا فشيئًا، وأن كل السبل والمسارات بدأت في الانسداد بوجهه، لذلك عليه أن يقدم على خطوة جديدة ترجع له بعض هيبته.
ليس حلم دخول العاصمة فقط ما بدأ يتبدد بل حتى مواصلة السيطرة على الشرق الليبي، فبعد إعلانه الانقلاب على مخرجات اتفاق الصخيرات، أعلنت قبائل العبيدات والمرابطين وعدد من بلديات الشرق الليبي تأييدها لـ”مجلس النواب، الجسم الشرعي الوحيد في ليبيا برئاسة عقيلة صالح.
هذا البيان الذي تم تلاوته بمقر إقامة عقيلة صالح بمدينة القبة شرقي البلاد، يبين أن الأمور في الشرق بدأت تخرج عن سيطرة حفتر، لذلك هو يحاول أن يحيي نفسه ويثبت مكانته في الساحة الليبية بأي طريقة كانت.
ترى أطراف ليبية عديدة سواء في الشرق أم الغرب ضرورة وقف العمليات العسكرية في البلاد والذهاب إلى طاولة الحوار بشكل جدي لإخراج البلاد من الأزمة التي تعيش على وقعها منذ إعلان حفتر الانقلاب على مؤسسات الدولة الشرعية سنة 2014.
يحتاج اللواء المتقاعد إلى التقاط أنفاسه بعد أن أجهدته الهزائم المتتابعة، وإلى أن يعود إلى داعميه الإقليميين والدوليين لإقناعهم بمد عمر سلطة الأمر الواقع التي يفرضها بقوة الحديد والنار والمرتزقة على أجزاء من ليبيا، وأيضًا إلى أن يعيد ترتيب صفوف قواته التي أنهكها الفرار، ولعله وجد أخيرًا في الدعوات للهدنة فرصة للم شتاته المدوي ذاك.