وضعت مجموعة العمل المالي (فاتف) الإمارات تحت المراقبة لمدة عام لتقاعسها عن بذل الجهود المطلوبة لمكافحة غسيل الأموال، الأمر الذي أثار المخاوف بشأن قدرتها على مكافحة تمويل الإرهاب، لافتة إلى أن هناك تحسينات كبيرةً أو جوهريةً مطلوبةً في عشرة من بين 11 مجالًا جرى تقييمها لمنع غسل الأموال وتمويل الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل.
التقرير الصادر عن المجموعة العالمية المعنية بمراقبة الأموال غير القانونية، ومقرها باريس، الذي استغرق 14 شهرًا، أعطى تصنيفًا “منخفضًا” لعمليات التحقيق والمحاكمة بشأن غسل الأموال وتصنيفًا “متوسطًا” للإجراءات الوقائية والعقوبات المالية المرتبطة بمكافحة تمويل الإرهاب، وذلك في أعقاب زيارته للإمارات في سياق إجراء التقرير.
كما حذرت المجموعة، الدولة الخليجية، حال إخفاقها في إدخال تحسينات، فإنها قد تجد نفسها إلى جانب دول مثل سوريا واليمن وباكستان تعتبرها فاتف تعاني من “مواطن قصور إستراتيجية”، مضيفة أنه يجب على السلطات سد ثغرات في قطاعي العقارات والمعادن النفيسة يمكن أن يستغلها محترفو غسل الأموال.
وذكر التقرير كذلك أنه يجب على السلطات الإماراتية تعزيز استخدام المعلومات المالية في قضايا غسل الأموال واسترداد إيرادات الجريمة، كما حث على ضرورة ملاحقة شبكات غسل الأموال الدولية بنشاط وتعزيز التعاون الرسمي عبر الحدود، منوهًا أنه في الفترة بين 2013 و2019، حاكمت الإمارات 92 شخصًا وأدانت 75 في أنشطة تمويل للإرهاب، بينما كانت هناك 50 محاكمة و33 إدانة في قضايا غسل أموال بين 2013 و2018، ومن بين تلك، شهدت دبي 17 محاكمة فقط تتعلق بغسل الأموال على مدى خمس سنوات.
اتهام جديد يضاف إلى سجل الاتهامات الطويل الذي تعرضت له الإمارات خلال السنوات الأخيرة، والمطعم بتقارير إقليمية ودولية تكشف بالأدلة والوثائق كيف تحولت دولة أبناء زايد إلى ملاذ لغسيل أموال كثير من منتفعي الحرب وممولي الإرهاب ومهربي المخدرات حول العالم.
الـ72 عالميًا
وفق تقرير معهد “Basel” للحوكمة الذي يضم 146 دولة، تحتل الإمارات المرتبة الثانية والسبعين، في المؤشر الدولي لغسيل الأموال وتمويل الإرهاب، والسادسة عربيًا، ويستند المؤشر في تقييمه إلى مدى قوة وجودة قوانين مكافحة غسيل الأموال داخل الدولة ومستويات الفساد بها، بجانب معايير الشفافية العامة.
ربما يرى البعض وفق تقرير باسيل أن الإمارات بعيدة عن المراتب الأولى في مؤشر غسيل الأموال، غير أنه بين والحين والآخر تفرض نفسها على طاولة المناقشات لما تقوم به من ممارسات وأنشطة تثير حفيظة الكيانات المعنية بمكافحة الفساد في العالم، وهو ما جعلها تتخطى في بعض الأحيان الكيانات العظمى في هذه الجرائم.
في 24 من يونيو 2018 نشرت صحيفة “الغارديان” البريطانية، تقريرًا مفصلًا، كشفت من خلاله كيف تخطت دبي جزيرة كوستا ديل كرايم الإسبانية، التي تعد أسوأ مكان في العالم لغسيل الأموال، كاشفة من خلال معلومات حصلت عليها كيف استخدم بريطانيون دبي لإخفاء 16.5 مليار جنيه إسترليني، ضرائب للمملكة المتحدة ما بين عامي 2005 و2016، الأمر الذي يذهب ترتيب الإمارة الخليجية إلى منطقة أخرى غير التي أوضحها تقرير الحوكمة.
تاريخ دبي في غسيل الأموال يعود إلى سنوات طويلة، غير أن الأعوام الخمس الأخيرة على وجه التحديد شهدت رواجًا كبيرًا في هذا المسار، إلى الحد الذي باتت فيه الدولة قبلة لأباطرة المال الساعين إلى تبييض ثرواتهم التي جمعت – بلا شك – عبر طرق غير قانونية، وهو ما حول الإمارات إلى واحدة من أكبر بحيرات غسيل الأموال في العالم.
– “المغسلة الروسية”.. في عام 2014 نشر موقع “أريج” تحقيقًا استقصائيًا في إطار مشروع التحقيقات الصحافية بشأن الجريمة المنظمة والفساد “OCCRP”، كشف من خلاله تورط 150 شركة إماراتية ضمن آلاف الشركات التي تم رصد تورطها بعمليات فساد مالي، وتحويلات بنكية غير مشروعة في 96 بلدًا.
التحقيق الذي أجرته المؤسسة لكشف أكبر عملية غسيل أموال في روسيا، من خلال 732 بنكًا حول العالم بجانب 5140 شركة، أورد في تفاصيله أسماء العديد من البنوك والشركات الإماراتية، وجاء على رأس البنوك التي تم ذكرها بنكا الإمارات دبي الوطني وأبو ظبي التجاري، لكنهما عدّا نفسيهما ضحيتي هذه العملية.
أما أبرز الشركات التي ورد اسمها في التحقيق، شركة أتلانتيس كابيتال وهي شركة مسجلة في دبي، وتعمل الشركة في تجارة المجوهرات، ويمتلك شخص يدعى يوسف داود طاهر، كذلك شركة أوتو شوك وهي شركة روسية لديها فرع مسجل في الشارقة، وتعمل في تجارة قطع تبديل للسيارات، بجانب شركة باريشيللو للساعات والمجوهرات.
تعديل خلاصة مشروع قرار بمجلس النواب الأميريكي يندد ب”فشل #الإمارات في مكافحة أنشطة غسيل الأموال التي تتم فيها للتحايل على العقوبات الأميريكية ضد ايران”و يحث الإمارات على “ايجاد حل للخلل الموجود في قوانينها المتعلقة بغسيل الأموال”.
التعديل:اضافة عبارة”وقف فوري لأنشطة غسيل الأموال” pic.twitter.com/5z8kvNQ6RO
— Wajd Waqfi وجد وقفي (@WajdWaqfi) April 25, 2020
– “أوراق دبي”.. في سبتمبر 2018 نشرت مجلة “لونوفال أوبسيرفاتور” الفرنسية تحقيقًا استقصائيًا تحت عنوان “أوراق دبي” كشف من خلاله مراحل تحول الإمارات إلى مركز عالمي للتهرب الضريبي وغسل الأموال، شارحة بالوثائق الكيفية التي يتم بها عملية تبييض الأموال وتحويلها إلى أرباح لعملاء في الخارج، في عملية وصفتها بأنها خارجة عن القانون كما أنها مستمرة على مدار العشرين عامًا الماضية.
وأعادت هذه الوثائق إلى الأذهان مرة أخرى فضيحة “أوراق بنما” الشهيرة، التي كشفت كيفية تحول جزر العذراء البريطانية بمنطقة الكاريبي إلى مركز عالمي للتهرب الضريبي على مدار 30 عامًا، وذلك عبر بوابة شركات “ما وراء البحار” التي يلجأ اليها الكثيرون في محاولة لتنفيذ جريمتهم.
وتأتي مجموعة “هيلان” الدولية في دبي، في صدارة الكيانات التي تقود هذه الأنشطة المالية الخارجة عن القانون، بحسب الصحفية الفرنسية كارولاين ميشال أغيريه التي أعدت التحقيق المنشور، هذا بجانب العديد من الشركات الأخرى التي يأتي ضمنها شركات أجنبية تتخذ من دبي والشارقة مقرًا لها.
المضمون الذي كشفه “أوراق دبي” يتسق بصورة كبيرة مع القائمة السوداء للملاذات الضريبية في العالم التي أقرها وزراء مالية الاتحاد الأوروبي نهاية 2017 وتتضمن 17 دولة من بينها الإمارات والبحرين، هذا بجانب تطابقه مع التقرير الصادر عن مركز الدراسات الدفاعية المتقدمة في واشنطن في يونيو 2018 الذي ذكر أن دبي أصبحت ملاذًا آمنًا لغسل أموال عدد من منتهكي الحروب وممولي الإرهاب ومهربي المخدرات.
مغسلة ضخمة للأموال
العديد من التقارير الصادرة عن الحكومات الغربية والأمريكية أشارت إلى تحول الإمارات إلى مغسلة عالمية ضخمة للأموال، وحاضنة لشبكات الأعمال المشبوهة، كما أشار التقرير السنوي للخارجية الأمريكية بشأن الإرهاب الصادر في 2016 الذي أوضح أن الجماعات الإرهابية استغلت الإمارات كمركز لتعاملاتها المالية.
وفي تقرير مشابه للحكومة البريطانية في 2018 جاءت فيه الدولة الخليجية على رأس قائمة الدول العشرة الأولى التي يلجأ إليها البريطانيون عندما يريدون تبييض أموالهم التي جمعوها بطرق غير شرعية، وكيف أن دبي على وجه الخصوص أصبحت أهم محطات إعادة التدوير النقدي غير الشرعي في العالم.
في 5 من فبراير 2018 نشر موقع “أي بي سي” تحقيقًا استقصائيًا يشير فيه إلى تحول دبي لمنفذ خطير للجريمة المنظمة وغسيل الأموال حول العالم، مستشهدًا بما حدث في أستراليا، حيث تحولت الدولة إلى قناة رئيسية لعملية غسل الملايين من الدولارات لصالح جهات أسترالية.
وكشف معد التحقيق، لانتون بيسر، الحاصل على جائزة الصحافة الاستقصائية عام 2010، بعض تلك الجرائم المنظمة التي أجريت في الإمارات، منها أربع عمليات غسيل أموال قام بها ألطاف خاناني، المسجون حاليًّا في فلوريدا – تقدر قيمتها بنحو 16 مليار دولار سنويًا لمنظمات الجريمة المنظمة حول العالم، وذلك عبر صرافة “وول ستريت” المملوكة للدولة، علمًا بأن تلك الصرافة نفسها قد خضعت لتحقيقات الكونغرس في هجمات سبتمبر/أيلول 2001.
وفي 17 من يوليو 2017 كشفت التحقيقات الخاصة بمصادر ثروة أسرة رئيس الوزراء الباكستاني الأسبق نواز شريف، أن معظم الأموال التي حصلت عليها واستخدمتها في بناء ثروتها العقارية في لندن والخليج جاءت في الأساس من بيع مصانع الصلب التي كانت تمتلكها في الإمارات، ومن ثم باتت محل شك لدى السلطات الباكستانية.
وفي باكستان أيضًا.. حسبما ذكرت صحيفة “أرابيان بيزنس” الصادرة بالإنجليزية في دبي، في الـ6 من سبتمبر 2018، فإن الحكومة الباكستانية طاردت استثمارات بقيمة 150 مليون دولار لبعض رجال الأعمال الباكستانيين، تقول إنهم غسلوها في استثمارات عقارية في الإمارات.
عوار تشريعي
مجموعة العمل المالي (فاتف) في تقريرها الصادر أمس أشارت إلى أن القوانين والأنظمة المطبقة في الإمارات بشأن مواجهة غسيل الأموال غير كافية للحيلولة دون وقف تلك الأنشطة التي تهدد منظومة الأمن العالمي، التي على أساسها تم اتخاذ قرار وضع الدولة تحت المراقبة لمدة عام.
المتابع للمشهد الإماراتي خلال السنوات الستة الماضية يجد أن الحكومة الإماراتية اتخذت عددًا من القوانين والإجراءات التي في ظاهرها تكافح تمويل الإرهاب وتحارب الفساد، غير أنها ووفق المعطيات السابقة لم تكن كافية في الواقع لمنع تحول الإمارة الخليجية الصغيرة إلى قبلة أباطرة المال الساعين لتبييض ثرواتهم.
في 17 من نوفمبر 2014 أصدر محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، قرارًا مكونًا من 25 مادة بشأن مواجهة جرائم غسل الأموال ومكافحة تمويل الإرهاب، غير أنه لم يكن بالشكل المطلوب لتحجيم تلك الظاهرة، وفي أبريل 2018 عملت الدولة على إدخال تعديلات جديدة على قانون مكافحة غسيل الأموال، في إطار مراجعة قواعدها الخاصة في هذا الشأن، إلا أن الوضع على أرض الواقع بات تربة خصبة لنمو مثل هذه النوعية من الجرائم، بدءًا بالعقارات، مرورًا بتجارة الذهب والماس، وصولًا إلى المناطق الحرة.
تابعو هذا الفديو عن فساد غسيل الاموال في الامارات ونهب المستثمرين https://t.co/vsHeJJE4sN
— نواف القحطاني (@mExvSVykOcGA63s) March 15, 2020
أما قطاع العقارات، فقد تحول إلى أرضية مغرية لتبييض الأموال، بسبب التسهيلات الموجودة بنظام الاستثمار فيها والإجراءات المطلوبة، فليس هناك حاجة لتقديم قاعدة بيانات للمعاملات وسجلات العقارات عامة، فقط المطلوب تفاصيل محددة، فيما تبقى كل المعلومات سرية وهو ما يسيل لعاب المجرمين والمهربين من دول العالم.
الأمر كذلك في سوق تجارة الذهب والماس، التي تحتل فيه الدولة المركز الخامس في قائمة أكثر الدول استيرادًا للماس في العالم، بنسبة بلغت نحو 7.8% من الواردات العالمية، حيث تشير التقديرات إلى أن هذا النوع من التجارة يوفر البيئة المناسبة لغسيل الأموال، لما تتضمنه من تسهيلات كبيرة منها الإعفاء من ضريبة القيمة المضافة.
وتأتي المناطق الحرة لتكمل مثلث الجريمة المنظمة في البلاد، حيث تستحوذ دبي على 39% من صادرات الإمارة، وتشكل نحو 30% من الناتج المحلي الإجمالي، هذا بخلاف أنها باتت مصدر الاستثمار الأجنبي المباشر، فبها قرابة 38 ألف شركة، ومن ثم تحولت إلى قبلة للشركات الراغب أصحابها في الابتعاد عن عين القانون والعدالة والمحاسبة.
ربما لم يأت تقرير الأمس بالجديد، فالسجل الإماراتي في مثل هذه الجرائم بات معروفًا ومشهودًا له من الجميع، لتؤكد الدولة التي يرفع حكامها شعارات النزاهة أنها باتت الحاضن الأكبر لشبكات الأعمال المشبوهة وغسيل الأموال في العالم كما أنها ووفق التقارير الدولية صُنفت بأنها أحد المراكز الرئيسية لتمويل الإرهاب.